أهميّة اللباس في اليهوديّة

نظرًا لسيطرة التيّارات الليبراليّة على الفكر الديني اليهودي المعاصر, واتّخاذ اليهوديّة شعارًا من طرف كتّاب وسياسيين من أصول يهوديّة هم في حقيقتهم يردّون القول بربّانيّة التوراة, بل ويجحدون وجود خالق للكون[1]؛ فقد استقرّ في اعتقاد كثير من الناس أنّ اليهوديّة هي الدين الذي يقدّمه هؤلاء الليبراليين أو أولئك الملاحدة..!!

ولمّا كان حديثنا في هذا المقام عن اليهوديّة كدين له أصل سماوي, خضع لتفسيرات دينيّة من طرف علمائه الذين يدورون في فلك نصوصه المقدّسة؛ فإنّ علينا أن نلزم أنفسنا أثناء تشريح الموضوع الذي نحن بصدده من خلال رؤية يهوديّة خالصة, بالنظر إليه من خلال مراجعه الأصيلة, لا المحدثة في زمن النزوع الليبرالي الذي يلغي من الدين لبّه الثابت وماهيّته المهيمنة على حقيقته.

إنّ للديانة اليهوديّة مصدرين معرفيّين تدرك من خلالهما أحكام شرائع اليهود:

1-المصدر المكتوب: أسفار العهد القديم.

2-المصدر الشفوي: اجتهادات الأحبار في تفسير الأسفار المقدّسة. ويعتبر ((التلمود))[2] أهمّ

المصادر التي جمعت هذا التراث.

تتميّز الديانة اليهوديّة باهتمامها الكبير بالجانب الحياتي التفصيلي, وذلك من خلال نصوصها التشريعية, وتراثها الفقهي الضخم الذي عمل على تقديم تصوّرات دينيّة للشكل اليهودي لمسلك الفرد والجماعة.

ويحتل أمر اللباس والعورات جانبًا كبيرًا من التفكير الديني اليهودي, وله علاقة وطيدة بالعبادات والمعاملات والجنايات وأبواب أخرى كثيرة من الحقلين التصوّري الإيماني والتعبدي المسلكي .. وقد جاء في ملحق التلمود البابلي (Derek Erez, Zuta x.): ((الرجل مجد الله, واللباس مجد الرجل.)) في بيان قداسة اللباس في الوجدان الإيماني عند اليهود .. كما نصّ ((المدراش)) [3] على أنّ أحد الأسباب الأربعة لخلاص الإسرائيليين في محنتهم في مصر, هو أنّهم قد حافظوا على اللباس الذي كان يميّزهم, ولم يتنازلوا عنه لصالح لباس أهل البلد ( Lv. Rab. 32.5)[4]… ويعود أمر (قداسة) اللباس في التصوّر الديني اليهودي إلى طبيعة الجوهر النفسي للإنسان؛ فقد قال علماء اليهود: ((قال الله منذ اليوم الذي بُني فيه المعبد: ((الحشمة هي أمر مناسب.)) )) (Tanhuma, Bemidbar 3) [5]

وقد كان اهتمام التشريع اليهودي بأمر اللباس الأنثوي باديًا من أوجه: الأمر والمنع التشريعيين, والقصّة, والموعظة, والحكمة …:

الأمر والمنع:

جاءت الشريعة اليهوديّة بأوامر ونواه في التحذير من اللباس الذي لا يوافق أحكام الربّ؛ من ذلك ما جاء في التثنية 22/5: ((يحظر على المرأة ارتداء ثياب الرجال، كما يحظر على الرجل ارتداء ثياب النساء؛ لأن كل من يفعل ذلك يصبح مكروهًا لدى الرب إلهكم.)) .. وفي ذلك بيان الاختلاف الكبير بين الرجال والنساء في جانب العورات والطبائع والوظائف ..

القصّة:

جاء في أمر قصّة ((آدم)) و((حواء)) بعد أكلهما من الشجرة المحرّمة: ((فانفتحت للحال أعينهما، وأدركا أنهما عريانان، فخاطا لأنفسهما مآزر من أوراق التين)) ( تكوين 3/7).. ((وكسا الرب الإله آدم وزوجته رداءين من جلد صنعها لهما.)) (تكوين 3/21)؛ ممّا يظهر أنّ للإنسان (عورة) لا بدّ أن تغطّى, وأن كشفها مخالف لطبيعة الخلق الآدمي الأوّل الذي رضيه الربّ ((لآدم)) وزوجه.

وجاء في سفر الأمثال 7/10: ((فإذا بامرأة تستقبله في زي زانية وقلب مخادع.))؛ ممّا يعني أنّ للزواني لباسًا يعرفن به, فيه من مظاهر الفساد والانحراف؛ ما يكشف المهنة الوضيعة التي رضينها لأنفسهن…

سلوك المطهّرين:

جاء التنبيه على الاهتمام بموقع نظر عين الرجل, في عدد كبير من النصوص؛ وفي ذلك دلالة على أهميّة ما تلبسه المرأة وما تكشفه لأعين الرجال وما تستره عنها, وأثر ذلك على الأمن الاجتماعي والأخلاقي للأمّة..

قال أيوب 31/1: ((أبرمت عهدا مع عيني، فكيف أرنو إلى عذراء؟)) …. فإنّ النظر إلى العذراء بريد الفساد, وسبيل الهلكة .. وفي ذلك دلالة على أنّ كشف المرأة مفاتنها للرجال, دعوة لهم إلى الفتنة ..

الحكمة:

يمثّل نَصّ سفر الأمثال 31/10-31 خلاصة مركّزة لصورة المرأة المثالية في الأسفار اليهوديّة: ((من يعثر على المرأة الفاضلة؟ إن قيمتها تفوق اللآليء. بها يثق قلب زوجها فلا يحتاج إلى ما هو نفيس. تسبغ عليه الخير دون الشر كل أيام حياتها. تلتمس صوفا وكتانا وتشتغل بيدين راضيتين، فتكون كسفن التاجر التي تجلب طعامها من بلاد نائية. تنهض والليل ما برح مخيما، لتعد طعاما لأهل بيتها، وتدبر أعمال جواريها تتفحص حقلا وتشتريه، ومن مكسب يديها تغرس كرما تنطق حقويها بالقوة وتشدد ذراعيها. وتدرك أن تجارتها رابحة، ولا ينطفيء سراجها في الليل. تقبض بيديها على المغزل وتمسك كفيها بالفلكة. تبسط كفيها للفقير وتمد يديها لإغاثة البائس. لا تخشى على أهل بيتها من الثلج، لأن جميعهم يرتدون الحلل القرمزية. تصنع لنفسها أغطية موشاة، وثيابها محاكة من كتان وأرجوان. زوجها معروف في مجالس بوابات المدينة، حيث يجلس بين وجهاء البلاد. تصنع أقمصة كتانية وتبيعها، وتزود التاجر الكنعاني بمناطق. كساؤها العزة والشرف، وتبتهج بالأيام المقبلة. ينطق فمها بالحكمة، وفي لسانها سنة المعروف. ترعى بعناية شؤون أهل بيتها، ولا تأكل خبز الكسل. يقوم أبناؤها ويغبطونها، ويطريها زوجها أيضا قائلا: ((نساء كثيرات قمن بأعمال جليلة، ولكنك تفوقت عليهن جميعا)). الحسن غش والجمال باطل، أما المرأة المتقية الرب فهي التي تمدح. أعطوها من ثمر يديها، ولتكن أعمالها مصدر الثناء عليها.)) .. لقد شكّلت الملابس في هذا الوصف الحيّ للمرأة التقيّة, عنصرًا أساسيًا لبيان معالم الصورة الأنثويّة الأرقى في ديانة اليهود ..

ومن الناحية الفقهيّة يستعمل اليهود كلمة ((צניעות)) (تصنيعوت) بمعنى ((عفّة)), وهي تدّل على مجموعة الأحكام التشريعيّة المتعلّقة باللباس اليهودي الشرعي, وحدود العلاقة بين الجنسين, وتستعمل بصورة متكرّرة للدلالة على لباس المرأة اليهوديّة .. وقد وردت هذه الكلمة في مثل هذا السياق في سفر ميخا 6/8: ((وتسلك متواضعًا (הצנע) مع إلهك.)), وربط الربّي ((إليعازر بن صادق)) في التلمود البابلي (Sukkah 49b) بين هذا النصّ وبين السلوك المحتشم المطلوب.

لقد اهتمّت هذه الأحكام التشريعيّة بكلّ ما يتعلّق بالسلوك العفيف للمرأة, ومنه طبعًا اللباس الذي يوافق أحكام شرائع الأسفار العبريّة .. وتمّ بذل عناية خاصة بهذه الأحكام من ناحية الاستنباط الفقهي عند أحبار اليهود, والتزمت المجتمعات اليهوديّة القديمة عامة برعايتها؛ حتّى إنّ المرأة اليهوديّة المتزوّجة كانت تدان بالفساد الأخلاقي إذا كشفت شيئًا من المواضع التي من العادة تغطيتها, كما أنّ كشفها لما يعادل شبرًا من جسدها كان يعدّ فعلاً إباحيًا. [6]

وبالنظر في (1) أسفار العهد القديم (2) والفقه اليهودي المقدّس (3) والممارسة اليهوديّة الأصيلة؛ بإمكاننا أن نخلص إلى أنّ الحجاب فريضة ربّانيّة في الدين اليهودي, وإن ضيّع عامة اليهود اليوم هذه الشريعة.

وفي التالي من الكلام, بيان تفصيلي ..

[1] من أبرز الأمثلة في هذا الشأن, إمام الصهيونية المعاصرة ((تيودور هرتزل)) (1860م- 1904م) الذي كان ملحدًا, وهو من الذين نادوا في نفس الآن بإنشاء دولة يهوديّة لليهود.

[2] التلمود: موسوعة تتضمّن أمور الدين والشريعة والتاريخ والتأمّلات الميتافيزيقيّة والعلوم الطبيعيّة والفلك والقصص الشعبي اليهودي. انظر؛ محمد بيومي مهران, بنو إسرائيل, الإسكندريّة: دار المعرفة الجامعيّة,1999, 3/ 217-218

[3] مدراش מדרש: لغة: بحث أو درس. اصطلاحًا: مجموعة (وأيضًا منهج) تفاسير الأحبار التي تنأى عن الشرح الحرفي, وتعتمد المنهج (الإشاري) و(المقارن) بربط النصوص ببعضها.

[4] انظر؛ R. j. Zwi Werblowsky and Geoffrey Wigoder, eds. The Oxford Dictionary of the Jewish Religion, New York: Oxford University Press, 1997, 177

[5] Dina Coopersmith, ‘Beneath the Surface: A Deeper Look at Modesty,’ in Sarah Tikvah Kornbluth and Doron Kornbluth, eds., Jewish Women Speak About Jewish Matters, MI: Targum Press, 2000, 56

[6] انظر؛ Menachaem M. Brayer, The Jewish Woman in Rabbinic Literature: A psychological Perspective, Hoboken, N.J: Ktav Publishing House, 1986, p.139

© ARICR.ORG جميع الحقوق محفوظة لمبادرة البحث العلمي لمقارنة الأديان