كثيرًا ما طرق آذان المسلمات قول صارخ منتفش, ودعوى فجّة مغرورة أنّ ((مطالبة المرأة (العربيّة) بارتداء الحجاب في القرن الواحد والعشرين, حيث تطوّر العالم, وبلغ في ابتكاراته العلميّة الذروة, وتطوّر المجتمع, وأصبح أكثر انفتاحًا ونضجًا؛ لهو دعوة صريحة إلى الانتكاس والعودة إلى القرون الوسطى؛ عصور الظلام!!))
الجواب:
أولًا/ ما معنى كلمة ((رجعيّة)) التي صار يكرّرها مناهضو الإسلام, ويرمون بها من يدعون إلى الالتزام بأحكام القرآن والسنّة, بكلّ حماسة؟
كلمة ((رجعيّة)) هي تعريب للكلمة الإنجليزيّة ((reactionism)) والتي يُقصد بها الدعوة إلى العودة إلى أيّ نظام أيديولوجي أو سياسي أو اجتماعي قديم. وقد ظهر هذا الاصطلاح إبّان الثورة الفرنسيّة في وصف من كانوا ينادون بالعودة إلى النظام الملكي والإقطاعيّة, بعد إزالة الملك والإقطاعيّة من فرنسا … ثم صار كلّ من يدعو إلى العودة إلى نظام أو منهج سابق موصومًا ((بالرجعيّة)) .. فهل ((الرجعيّة)) بمعناها الاصطلاحيّ مذمومة بإطلاق؟
إنّ ولع التغريبيين بالاصطلاحات الغربيّة دون النظر إلى خلفياتها التاريخيّة وبيئتها التي نشأت فيها؛ قد أحدث لبسًا في الفهم وخللاً في الحكم على الواقع, قادهم إلى التناقض الفجّ والتسطيح الساذج في قراءة الواقع والتعامل الواعي والإيجابي معه.
إنّ كلمة ((رجعيّة)) كحكم سلبي على موقف أو مذهب, تحمل في داخلها مخزونًا معرفيًا متصلاً بحبل سُرِّي بالثقافة السائدة في الفكر الغربي الرافض لكلّ ثابت إنساني حيث تتبدّل القيم و(تتطوّر) بتبدّل الزمان!
إنّ إدانة ((الرجعيّة)) تعني إدانة كلّ حقيقة نازلة من السماء أو نابعة من اجتهاد بشري سليم, قُدِّر لها أن توجد في يوم من أيام (الماضي) .. ويترتّب على ذلك القول إنّ كلّ القيم الجميلة التي تبنّاها أجدادنا, وكلّ الأفكار الرائعة التي نافحوا عنها؛ يجب تجاوزها لأنّها من الماضي .. فكلّ ((ماضٍ)), هو (فكر مرفوض) لا يجوز (الرجوع) -أو (الدعوة إلى الرجوع)- إليه, دون النظر في حقيقة قيمته ومبلغ صوابه!
هذه هي حقيقة تهمة ((الرجعيّة)) وذاك أصلها في منبتها الأوّل .. فهل يقبل العاقل من صاحبها تهمته لصاحبة الحجاب؟!!
وماذا لو أنزلنا حكم ((الرجعيّة)) على الواقع الغربي؟! ماذا ترى هذا المعترض يقول!؟؟
سأضرب مثالين اثنين, أظنّ أنّهما يغنيان عن التفصيل!
المثال الأوّل: انتقلت الأسرة في الغرب في ظلّ الأنظمة ((الرأسماليّة المتوحشّة)) ((capitalisme sauvage)) [1] من نموذج العائلة المتماسكة حيث يتقاسم الوالدان تربية الأبناء, ويربيانهم على مراعاة الأخلاق الفاضلة واحترام النظم العامة التي تخدم مصالح الشعب, إلى شكل الأسرة التي يعمل فيها كلّ من الأبوين لتحصيل أكبر مبلغ من المال دون الاهتمام بتنشئة الأبناء على القيم المحمودة؛ حتّى أصبح الأبناء نهبًا للفساد الإعلامي والجشع التجاري الذي يستثمر سذاجة النشء لتحقيق مبالغ هائلة من الأرباح ..
وقد نشأت اليوم تيّارات في الغرب تدعو إلى إصلاح الأنظمة الأسريّة, وإعادة اللحمة القديمة التي كانت تربط أفرادها وتحكم علاقاتها, بتعميق الارتباط بين الزوجين والأبناء, وحماية الأجيال الصاعدة من سموم الإعلام التجاري والقيم الهابطة .. ولا شكّ أنّ هذا التيّار يعتبر من ناحية الاصطلاح, تيّارًا (رجعيًا)؛ لأنّه طبق التعريف السالف, يدعو إلى العودة إلى أنظمة اجتماعيّة قديمة .. فهل يستحقّ هؤلاء الداعون إلى العودة إلى النظام الأسري القديم الإدانة لمجرّد أنهم على مذهب (رجعي)؟!! وهل كلّ دعوة للتغيير ومفارقة القديم هي دعوى محمودة؟ وهل كلّ دعوة للعودة إلى القديم هي دعوى مدانة مرذولة؟!!
المثال الثاني: دعا الغرب في مؤتمر السكّان في القاهرة, وفي غيره من المؤتمرات إلى تغيير ما سمّاه ((الشكل التقليدي للأسرة)) .. والمقصود بهذا الشكل التقليدي هو أن يكون الزواج قاصرًا على طرفين: رجل وامرأة .. والشكل الحديث المطلوب, بل والذي تتبنّاه عامة المجتمعات الغربيّة –ممارسةً-, ومن اليقيني أنّ كلّ الدول الغربيّة ستتبنّاه قريبًا –قانونًا- لتعاظم نفوذ الداعين إليه وتناقض التيّارات الغربيّة الرافضة له, هذا الشكل هو: زواج رجل برجل .. وزواج امرأة بامرأة .. مع الصورة (القديمة): زواج رجل بامرأة ..!
وقد ظهر تيّار غربي يدعو اليوم إلى المحافظة على الصورة التقليديّة لشكل الأسرة الموافقة لأحكام الدين ونواميس الطبيعة, لكّنه قوبل بصدّ حاد وردّ جاف من دعاة ما يسمّى بـ(حقوق الشواذ), واتُّهم هذا التيّار, بأّنه تيّار (رجعي) .. ولا شكّ أنّ وصفه (بالرجعيّة) هو وصف سليم منضبط؛ لأنّه حسب تعريف ((الرجعيّة)), يُعدّ الداعي إلى كلّ نظام قديم, رجعيًا!!
فهل يصحّ القول إن منع الزواج بين الرجال فيما بينهم, أو بين النساء فيما بينهن, يعدّ فعلاً (ظلاميًا) (ظالمًا)؛ لأنّه يرفض الواقع الجديد, ويدعو إلى نموذج أسري قديم؟!!
الإجابة على السؤالين السالفين, أَظَهَرُ من أن نفصّلها, إلاّ أن يكون المخالف لا يرى تربية الأبناء شيئًا جديرًا بالاعتبار, ولا يجد حرجًا -أو ما دون ذلك- في زواج الرجل بالرجل والأنثى بالأنثى!!؟؟
إذن .. ((الرجعيّة)) ليست تهمة تخشاها صاحبة الحجاب؛ لأنّ ((الرجـعيّة)) قد تكون إيجـابيّة أو سلبيّة, تبعًا لصلاح الأمر الذي يعمل المرء على ((الرجوع)) إليه؛ فإذا كانت الرجعية هي العودة إلى الصالح من الأفكار والأفعال, فنِعمّ الرجعيّة هي! وإذا كانت الرجعيّة هي العودة إلى القبيح والمشين من الأفكار والأفعال, فبئس الرجعيّة هي!
إنّ (الإنسان) هو (الإنسان) في علاقته ببيئته بما فيها من البشر وبقيّة الأحياء والأشياء, ولا تكاد تتغيّر فيه إلاّ وسائل الإشباع, أمّا الحاجات الأساسيّة الكامنة فيه؛ كالأكل والشرب والزواج وطلب الأمن والسكينة والأنس؛ فهي نفسها في القديم والحديث, ولم يكد يمسّها تطوّر إلاّ في وسائل التعامل معها لتحقيق الإشباع المطلوب.. إنّ قيم الإنسان الجميلة التي تؤسّس فيه حقيقة انتمائه للجنس الآدمي المكرّم, لا تَنْدَرِسُ لمجرّد تغيّر الزمان وتبدّل البلاد .. إنّ الإنسان قيمة ثابتة, لا تتغيّر منها إلاّ الظواهر السطحيّة .. ولو فصلناه عن حقيقة الجمال الكامنة فيه لمجرّد أنها قديمة في ذاته وأصيلة في وعيه بنفسه؛ فلن تكون النتيجة غير تحويل الإنسان إلى منتج صناعي هشّ بلا أصل له ممتد في تربة التاريخ, وإنشاء حالة اغتراب لروحه في جنبات كيانه ..
ثانيا/ يعيش الغرب اليوم من الناحيتين الفكرية والقِيَميّة تحت سلطان فكر ((ما بعد الحداثة)) ((Post-modernism)), وهو الفكر الذي يضخّ في شرايين أنسجة البناء الأسري والمجتمعي الغربي المفاهيم والقناعات والتصورات ..ونظرًا للطبيعة الإسفنجيّة الرخوة للعالمانيين العرب؛ فإنّهم لا ينظرون بعين النقد إلى الأصل الرَحِمِيّ لمتبنيّات الغرب, وإنّما قد شغلهم النقل والنسخ والتكرار الغرّ عن التدبّر والتفكّر!
فما هو فكر ((ما بعد الحداثة)) الذي يعدّ مخالفه (رجعيًا)؟
((ما بعد الحداثة)) هو فكر ((اللافكر)) أي هو فـكر لا يستمد وجوده من نفسه, وإنما يعود في تشكيل ماهيّته إلى نفي غيره ((اللا))؛ فهو (ليس) غيره, أي ليس (الحداثة) ولا غيرها من المنظومات الكليّة المعروفة .. هو فكر عاجز أن يثبت ذاته (من) ذاته! إنّه فلسفة الرفض والتيه, وإفناء كلّ الأنماط القديمة, وإلغاء (المركز) الذي يدور حوله الموجود الإنساني, وإلغاء فكرة الحقيقة المطلقة, وفاعلية العقل على إفراز مدركات يقينيّة .. إنّه المظهر الشمولي للعدميّة ( nihilism)!
يعتبر المنهج ((التفكيكي)) من أهمّ آلية التفكير والتفسير في فكر ((ما بعد الحداثة)), وهو منهج ((يفكّك)) الإنسان إلى قطع من ((الأشياء)) و((النزعات)) لتشريحه وفهمه. وعـمليّة التفكيك هذه هي جوهر ما يسمّى ((الاستنارة المظلمة)) أي رؤية الإنسان باعتباره كائنًا طبيعيًّا تحرّكه غرائزه الوحشيّة المظلمة القابعة داخله, أو القوانين الآليّة الموجودة خارجه ولا يمكنه تجاوزها.[2]
لقد تحوّل (الإنسان) في النسقين الفكري والقيمي في زمن ((ما بعد الحداثة)) إلى (كائن سائل) فاقد للمعالم الثابتة التي تمنحه تفوّقًا (حقيقيًا) على (الحيوان)!
في ظلّ هذا التصوّر الهدمي (للإنسان المكرّم), تتشكّل التصوّرات الغربيّة عن (المرأة), وهي تصوّرات ظاهرة الملامح في الدراسات السوسيولوجيّة والنفسيّة, وقد تُسمّى فيها بمسيّاتها الحقيقيّة, إلاّ أنّها مغيّبة الألـوان في الخطاب الإعلامي العالمـاني الموجّه إلى الغربي العـامي أو المصدّر إلى العالم الإسلامي؛ لبشاعتها وشناعة مآلاتها .. ولعلّنا نلخّص ما يعنينا منها هنا, في نقاط سريعة تظهر معالم الكيان الأنثوي في زمن ((ما بعد الحداثة)) الذي يُعدّ (المواجه له) أو (المنتكس عنه), (رجعيًا), مقبوحًا (!):
المرأة المثاليّة: إن (المرأة المثـاليّة) التي يدعو إليها التيّار النسـوي الغربي في زمن ((ما بعد الحداثة)), هي تلك التي حدّدت ((سيمون دو بوفوار)) ((Simone de Beauvoir))[3] ملامحها في كتابها الذي يعدّ (دستور) الموجة الثانية للنسويات [4]: ((الجنس الثاني)) ((Le DeuxièmeSexe))؛ إنّها المرأة التي ترفض أن تكون زوجة (((كائن طفيلي))), وتأبى أن تكون أُمًا (((امرأة غير راضية))), وتأنف أن تكون لها علاقة حب مع رجل (((امرأة مذعورة))) [5] .. إنّها المرأة المستقلّة بنفسها عن (الأسرة) و(الزوج), والمنخلعة من صميم (أنوثتها)!
المرأة كـ(شيء جنسي): في إحصائية تمّت سنة 1993م, أجاب 65% من المراهقين الأمريكان أنّه يجوز أن يجبر الرجل المرأة على المواقعة الجنسيّة, بعد لقائهما الأول بستة أشهر. وأجاب ربع المراهقين أنّه يجوز إجبار المرأة على المواقعة الجنسيّة, إذا كان الرجل
قد أنفق عليها سابقًا من ماله![6]
لقد أضحت المرأة في واقع التوحّش الليبرالي في زمن ((ما بعد الحداثة)) أشبه (باللعب الجنسيّة)؛ فهي على الحقيقة لا المجاز توضع في (فترينات) في محلات الدعارة في الغرب, ويمتهن جسدها على مدار اليوم في المجال البصري للرجل من خلال وسائل الإعلام والإشهار والترفيه؛ فكانت نهايتها أن تعامل من الرجل على أنّها لا تملك من جسدها شيئًا إذا ما رأى الرجل أنّه قد صار له حق فيها لمجرّد أنه التقى بها لمرات في مطعم, أو أنفق عليها دولارات معدودة!
الأنثى في محرقة (الانفجار الجنسي): كشف رئيس التخطيط الأبوي لمدينة نيويورك سنة 1997م أنّ 75% من المراهقين الأمريكان يمارسون الجنس قبل الانتهاء من سنوات التعليم في المدرسة الثانوية, وأنّ في مدينة نيويورك وحدها تحمل كل عام أكثر من 45 ألف فتاة في السنوات العمرية بين 15 و19 سنة. [7]
وفي دراسة أجريت سنة 1993م حول النساء اللواتي يدرسن في الجامعات الأمريكيّة, كشف الإحصاء أنّ 69,8% من الطالبات قد تعرضن (لإكراه لفظي) بالدعوة إلى (مواقعة جنسيّة لا يرغبن فيها)![8]
لقد تحوّلت (الليبراليّة الجنسيّة) في زمن ((ما بعد الحداثة)), من حلم أنثوي وردي بعد زمن (التابوهات), إلى كابوس أخلاقي واجتماعي واقتصادي امتدّ تأثيره إلى البنيّات الصغيرات في المدارس الإعداديّة بسبب محاولة إلغاء قيم ((العفّة)) و((الحياء)) و((الأسرة)) التي قيل إنّها صناعة (المجتمعات الباطريركيّة) [9]…
(الأسرة) كمفهوم: أنتج النسق القانوني الذي ظلّ مسيطرًا على أوروبا منذ زمن تبنّي الدول الغربيّة للنصرانيّة, إلى بداية القرن العشرين, والذي سلب المرأة حقّها في جوانب أساسيّة كبيرة من حياتها كأمور الطلاق والملكيّة والميراث والتعليم, مفاهيم قانونيّة جديدة تطمع في أن تحمي المرأة من الظلم القديم, وأدّى ذلك إلى محاولة إلغاء المؤسسات القديمة التي هضمتها حقوقها أو تقزيمها إلى حدّ إفقادها الكثير من قيمتها. وقد تواكب هذا الأمر مع إقصاء الممارسة الجنسيّة البهيميّة غير المسؤولة من دائرة (الذنب). ورافق ذلك تفاقمُ النزعة الاستهلاكيّة وتعقّد الأنماط الاقتصادية وما تفرزه من ازدياد ثقل المسؤوليّة على من يرى أخلاقيّة القيام بأعباء أسرةٍ ..
اجتمع كلّ ما سبق في سياق زمني واحد ليفرز نفورًا عارمًا للرجال من (مؤسسة الزواج) بما تمثّله من أثقال قانونيّة وواجبات أخلاقيّة ومسؤوليات ماليّة, فانحاز الرجل إلى نمط المخادنة حيث لا تكلّفه العشيقة شيئًا؛ إذ هو غير ملزم قانونيًا ولا أخلاقيًا بالإنفاق عليها, كما (يوفّر) هذا النمط المعيشي للرجل أن يغيّر من عشيقاته كلّما استهوته امرأة جديدة دون الإحساس باقتراف جناية قانونيّة أو أخلاقيّة!
وبسبب تضخّم (مؤسسة) المخادنة؛ فقد اتّسع أثرها ليصيب بنصله الجارح مؤسسة الزواج؛ فانتشر تفلّت الرجال من مسؤولياتهم, وتفشّي الطلاق, وتعاظمت الخيانة الزوجيّة إلى درجة وبائيّة؛ حتّى إنّ إحصائية لسنة 1988م, أثبتت أن 78% من الأزواج البريطانيين قد خانوا زوجاتهم, ومثل ذلك في الولايات المتحدة التي كانت فيها النسبة سنة 1965م 47%.[10]
لقد أصبجت (الأسرة) في زمن ((ما بعد الحداثة)) (شبه كيان!) مفرّغ من حقيقته, وافتقدت للروابط الأصيلة لأجزائها؛ فتفلّتت أبعاضها وتناثرت حبّات عقدها مخلّفة شتاتًا في النفس وتقلّصًا (مخيفًا) في آفاق العين؛ ليشعر الفرد بعد ذلك أنّه (جزيرة) نائية عن كل أرض, وقد انقطعت بينه وبين نسبه ونسله وشائج الفكر والشعور!
العلاقة العاطفيّة بين الرجل والمرأة: في زمن محاربة الكثير من النِِِسَويّات -وهن اللواتي يَصُغن برامج وزارات الأسرة في الغرب- مؤسسة الزواج ذاتها؛ باعتبارها مؤسسة إلغاء للمرأة, صرّحت إحداهن – ((أندريا دوركن)) ((Andrea Dworkin)) – أنّ الحبّ الرومانسي هو ((احتفال أسطوري بنفي المرأة)), وأنّ الزواج ليس إلاّ ((اغتصابًا مشروعًا بالقانون)) ((Legalized rape))!![11]
لقد تحوّل الإحساس الوجداني العفوي الذي يعبّر عن صميم الذات البشريّة, إلى عنوان (هزيمة) وبصمة (استلاب) في التصوّر النِسوي لزمن ((ما بعد الحداثة))!
هذا هو (الواقع) الفكري والقِيمي الذي يُعدّ الرافض له (رجعيًا) .. فهل (للعاقلة) اليوم أن تأنف من أن تكون (رجعيّة)؟!
ثالثا/ أثبتت الإحصائيات العلميّة الجادة, أنّ الأفكار الحديثة التي يعدّ الرافض لها رجعيًا, تقود الآن الفرد والأسرة إلى (وادي) الإفلاس القِيمي حيث لا قمم يحثّ المرء السعي إليها للارتقاء بكيانه؛ فانتشرت بذلك الأوبئة الأخلاقيّة, والقلق المرضي, والانتحار, والتحلّل الجنسي, والشذوذ, والأمراض الفتّاكة .. وفي مقابل هذا الواقع الانحداري المنبثق من تحلّل الإنسان من نواة إنسانيته وأصالتها, استبان للراصدين للواقع الغربي وتحوّلاته, أنّ الأنظمة المحافظة أخلاقيًا والتي كانت لها اليد العليا في الغرب في زمن ما قبل الحداثة, كانت أفضل وأجدى وأنفع للفرد والأسرة والمجتمع[12] .. فهل يجوز للمرء أن يعاند الحقائق, ويعانق الأوافل, ويترك النافع الهادي ليأخذ بالفاسد الضار؛ لمجرّد أنّ الفاسد هو (الجديد), وأنّ النافع من (القديم) المتصرّم؟!!
رابعا/ الدعوة إلى التبرّج هي أيضًا دعوة إلى الرجعيّة والعودة إلى ما كانت عليه حضـارات
قديمة وفلسفات كانت تمجّد حريّة المرأة في أن تفعل ما يحلو لها كالإبيقوريّة[13] والمزدكية [14] وغيرهما .. فهي ليست دعوة خرجت لتوّها من رحم (الإبداع), كما أنّها ليست من طريف الفكر الإنساني!
ولا يصحّ أن يُعترض علينا في هذا المقام, بأنّ المنكرين للحجاب والراغبين في السفور لا يدعون إلى كشف المرأة مفاتنها من باب تقليد الحضارات القديمة, وإنّما من باب موافقة صواب هذه الآراء .. لأننا سنقول نحن أيضًا؛ إننا لا ندعو المرأة إلى التزام الحجاب, لمجرّد أنّ الأمم السالفة أو الأجيال المسلمة السابقة قد فعلت ذلك, وإنما لأنّه الحقّ من ربّ العالمين!
خامسا/ تحدّث ((ساركوزي)) -رئيس فرنسا ذات التاريح الاستعماري البغيض- عن (الحجاب) الإسلامي؛ فأتى بمرّ القول وشنيع الدعوى؛ إذ قد صوّر الإسلام على أنّه يختزل المرأة في أنّها (عورة) لا بدّ أن تمنع أنفاسها من معانقة أنسام الحريّة, ممّا يعارض الأنموذج الغربي (الراقي) (!) للمرأة الحديثة, ذاك الأنموذج الذي لا يمكن أن تترددّ المرأة في أيّ مكان كان من أن تأخذ به وتتشبّث بأهدابه؛ فهو جزء أصيل من المنظومة الفكريّة والقِيميّة الغربيّة التي تمثّل (ذروة) (!) ما بلغه (الإنسان) ..!!؟ لكنّ ((ساركوزي)) في حقيقة نفسه, وفي قرارة قناعته يعلم أنّ الإسلام كتصوّر إيماني يَصِل الدنيا بالآخرة, والزمني بالمطلق, وكممارسة ماديّة ذات جذور أيديولوجيّة متماسكة ومتناغمة مع أجزائها, لا يمكن أن تقف أمامه ثقافة أوروبا في زمن ((ما بعد الحداثة)) , حيث الثقافة (التهادميّة) والاختزال المُشطّ [15]؛ ولذلك قال هو نفسهُ بالحرف: ((إنّ أسلمة أوروبا تُعد أمراً لا يمكن تفاديه.)) ((l’islamisation de l’Europe est inéluctable)) !![16]
فليست دعاوى ربط (الحجاب) بالرجعيّة التي روّج لها ((ساركوزي)), وسنّ لأجلها قانونًا يقضي بمنع المحجبات من دخول المدارس؛ إلاّ حالة دفاع نفسي متشنّج وليست هي موقفاً عقلياً بقناعات موزونة؛ إذ كيف يجتمع القول بظلامية شرائع الإسلام مع حقيقة تفوّق هذا الدين وجاذبيّته في أوروبا نفسها, رغم غياب الكيان السياسي الذي يتبنّى حمل هذا الدين إلى الأمم الغربيّة, في نفس الآن؟!!
إنّها ازدواجيّة الخطاب .. خطاب التشويه والتخدير الموجّه إلى العامة عن طريق الإعلام .. وخطاب التحذير النابع من وعي –ولو كان جزئيًا- بقدرة هذا الدين على فرض بدائله لحلّ المشاكل الفرديّة والجماعيّة المزمنة في أوروبا!
ولا يستغرب أن تصدر هذه التعليقات والمواقف من رئيس دولة لازال شعبـها يعيش في (جيتو) ضيق داخل أوروبا حيث ينامون ويصحون على أمجاد التراث التليد (المجيد), و(الثورة الفرنسيّة) العتيـقة, في عجز عن التواصل حتى مع الثقافات الأوروبـيّة الأخرى, وذعر من
النموذج الثقافي الأمريكي ..![17]
[1] اصطلاح باللغة الفرنسيّة, وهو مفهوم طوّره عدد من علماء الاجتماع الفرنسيين لوصف واقع المنظومة الرأسماليّة منذ العقد السابع من القرن العشرين, ونقدها.
[2] عبد الوهاب المسيري, العلمانية تحت المجهر, بيروت: دار الفكر, 2000م, ص 56
[3] سيمون دو بوفوار 1908م- 1986م: فيلسوفة وروائية فرنسيّة. عرفت بدعوتها الانقلابيّة إلى تغيير وضع المرأة.
[4] Second wave feminism : اصطلاح يطلق على التيار النسوي الذي ظهر في الستينات, وعرف بمتبنيّات فكريّة ومطالب تختلف عن التيار الذي أسسته ((إليزابث كادي ستنتن)) وبقيّة النسويات في القرن التاسع عشر.
[5] انظر؛ Simone de Beauvoir, The Second Sex, pp. 540, 733 (Quoted by, Wendy Shalit, A Return to Modesty, p.40)
[6] انظر؛ Wendy Shalit, A Return to Modesty, p.40
[7] انظر المصدر السابق, ص 24
[8] انظر المصدر السابق, ص 29
[9] أي التي يحكمها الذكور.
[10] انظر المصدر السابق, ص73
[11] Andrea Dworkin, Our Blood: Prophecies and Discourses on Sexual Politics, pp. 27, 105 (Quoted by, Wendy Shalit, op. cit., p.112)
[12] انظر؛ Mary Ann Lamanna and Agnes Riedmann, Marriage and Families: Making Choices in a Diverse Society, Cengage Learning, 2008, 10 th edition, pp 70-73
[13] الإبيقورية: نسبة إلى مؤسسها الفيلسوف اليوناني ((إبيقور)) ((Ἐπίκουρος)) (341ق.م-270 ق.م). فلسفة سيطرت على حوض المتوسط قبل قرنين من ظهور المسيح, وقد قام مذهبها الأخلاقي على أنّ متعتي الجسد والبطن هما غاية الحكمة.
[14] المزدكيّة: نسبة إلى ((مزدك)) (487م-524م). ديانة فارسيّة تدعو إلى المُشاعيّة في النساء والأموال.
[15] يعيش الغرب اليوم في ظلّ مناهج ((ما بعد الحداثة)) أشد أزماته الفكريّة تهديداً لكيانه الحضاري الذي يستمد
منه مبرّر فلسفته التمدّدية, بعد أن كَفَر بالحقيقة المطلقة, وسادت فيه المدراس الفكرية التي تتصادم ولا تتكامل, واجتاحته التيارات الأيديولوجية والفلسفيّة والعلميّة التي تختزل الإنسان في جانب واحد بسيط من مجموع بنائه المعقّد أو ربّما حتّى دخيل على حقيقة بنيانه؛ فهو مرّة (كائن مستهلك), وفي أخرى (كائن جغرافي), وفي ثالثة (كائن منطلق بلا حد), وفي الرابعة (كائن بلا قيمة؛ لا يشدّه إلى الأرض وتد) …!
[16] نقل ((Philippe de Villiers)) هذا الكلام عن ((ساركوزي)) في حديث خاص بينهما, مع العلم أنّ ((Philippe de Villiers)) هو من الشخصيات المقرّبة من ((ساركوزي)), وقد عرض بعضًا مما جاء في هذا الحوار, في لقاء صحفي مع مجلّة ((Famille Chretienne)), وانتشر هذا الخبر على الكثير من مواقع النت..
المقال من موقع المجلّة الأسبوعيّة ((Famille Chretienne)):
http://www.famillechretienne.fr/societe/politique/philippe-devilliers-pour-sarkozy-lislamisation-de-leurope-est-ineluctable_t7_s37_d52259.html
[17] صُنّف الفرنسيون على أنّهم (أسوأ) (سيّاح) سنة 2009 ؛ لجهلهم التام باللغات الأجنبيّة, وعجزهم عن التعامل (المهذب) مع غيرهم .. وذاك ولا شكّ ناتج عن فساد النظام التعليمي الدوغمائي الفرنسي, وانحسار أفق الفرنسيين عند قوالب قيميّة ومعرفيّة بائدة تبدأ مع الثورة الفرنسيّة (البورجوازيّة) وتنتهي عند بداية القرن العشرين مع انتهاء بريق الاستعمار العسكري الفرنكفوني ..
انظر الخبر في:
http://www.channelnewsasia.com/stories/travel/view/441534/1/.html (10/1/2009 )