المقدمة

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا. من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله .

{ يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون }[1]

{ يا أيها الذين آمنوا اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منها رجالًا كثيرًا ونساءًا واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبًا}[2]

{ يا ايها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولًا سديدًا، يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزًا عظيمًا } [3]

أما بعد …

يمثّل حجاب المرأة المسلمة اليوم في الحسّ الكوني مظهرًا من مظاهر الاستعلاء الفكري والسلوكي الإسلامي المتأبّي على التركيع في زمن تهاوت فيه الأنماط الفكريّة والأخلاقيّة الشرقيّة أمام سحر الليبراليّة الغربيّة التي أعلنت نهاية تاريخ الأفكار والقِيم عند سواحلها .. ويمثّل في الجدل الأيديولوجي والفكري داخل بلاد المسلمين, أحد عناوين الصراع بين حملة رسالة الإسلام والعالمانيين[4]..

وهو يشغل اليوم حيزًا كبيرًا من اهتمام الشرق والغرب, متصدّرًا عناوين المشهد السياسي والثقافي والإعلامي داخل بلاد المسلمين والبلاد الغربيّة لما يحمله من دلالة, ولما احتفّت به من هالة!

وتقع الحملة الموجّهة (لقولبة) الحجاب في صور نمطيّة متعددة الأوجه السلبيّة, ضمن سياق فكري تعاظمت فيه هجمات الصادين عن الحقّ, والمتسوّرين على حقائق الدين وثوابت الشرع؛ فقد أطلق المغرضون لألسنتهم عنان قذف المسلمات الملتزمات بأحكام الشرع بالرقيع من الدعوى, تحت ستار البحث الموضوعي والنقد الواعي, ممّا كشف أضغانًا داكنة قد أُشرِبتها قلوب المخالفين, وتبدّت أوهامهم شوهاء رغم أنّهم قد سعوا إلى أن يلبسوها دثار العقل والمنطق, وأن يجمّلوها بمطارف النصح والرفق..

وقد كان راكبو متون المحادة الفجّة للإسلام في النصف الثاني من القرن العشرين, خليطًا من الليبراليين والماركسيين, ولكن لماّ غيض الطرح الماركسي في تربة الأمة, وتبخّرت آخر قطراته تحت لفح الطرح القرآني الأصيل, التحق أبناء (الآفلين) بعربة دعاة الليبرالية, (متناسين) ما كان يفرّقهم ويثير بينهم النزاع والشقاق, ثم انضمّت لقافلة (الآبقين) فلول المنصّرين على تعدد كنائسهم وبرامجهم؛ فكان الركب المسارع إلى جَدْل خيوط الفتنة, خليطًا يجمع أضغاثًا من الأفكار المتنافرة والعقائد المتحادّة التي لم يلمّ شملها ويجمع (أعوادها) المتشاكسة غير (التململ) من جاذبيّة هذا الدين!

ويتولّى الإعلام العربي اليوم عمليًا (وظيفة) نشر هذا الفكر الفاسد, وتجديع جسد الأمّة وتمزيقه بإعلان المحادة الصريحة لفريضة الحجاب؛ فصارت القنوات الفضائية تنفث سيل الشتم والتشهير؛ تصريحًا وتلميحًا … وأصبحت الأذن تألف الكلمات النابيّة؛ تأنيبًا وتقريعًا … وفَشَت التشبيهات الفاحشة للمحجّبات؛ تجريحًا وتقبيحًا … (فالحجاب: حجاب على العقل), و(النقاب: خيمة), و(الملتزمة بأحكام الشرع: معقّدة), و(من تأبى الاختلاط: متخلّفة) .. وأضحت قيمة المرأة ترتفع كلّما تقلّصت مساحة القماش الذي تلبسه .. وكلّما غطّت المرأة من جسدها شبرًا؛ كلّما فقدت من قيمتها قدرًا .. وهكذا هي العلاقة (المتناغمة) بين (اللحم) المبذول و(القدر) المصون .. وذاك هو القانون المُحََكَّم؛ كلّما أبدت المرأة من نفسها جزءًا؛ كلّما زِِِيد لها في أفق (الوعي!!) مَدًا ..!!؟

وهكذا استقرّت الصور المشوّهة عن الحجاب الإسلامي في أذهان (الإسفنجيين) الذين تتشرّب عقولهم كلّ ما يلقى إليها من فكر فاسد, وهو أمر واقع في الغرب كما الشرق, وكما تقول ((كاثرين بلّوك)) فإنّ: ((الذين يستعملون التيار الإعلامي الرئيسي كمصدر وحيد للمعلومات عن الإسلام, لا يمكن أن يكتسبوا غير المنظور السلبي عن الحجاب.))[5]

لقد ركب العالمانيون والمنصّرون مَتْن (الدغدغة) واستثارة عواطف النساء, بشعارات لامعة خادعة, وفُتّحت الأبواب لكلّ مَنْ خوى وفاضه من الفهم والاطلاع؛ ليدلي بدلوه ويشنّع على الملتزمات باللباس الشرعي المطلوب..وليس على دعيّ (الفهم) و(البصيرة) إلاّ أن يدندن ببعض الكلمات التي يحسبها (ساحرة) ك:(المعاصرة) و(الحداثة) و(الحريّة)… ويزيد على ذلك بعض الكلمات الأعجميّة التي لا يفقه هو نفسه لها معنى (!), فإن فعل؛ فقد قدم المطلوب وبلغ ذرى المجد المنشود من (متنوّر!) يصارع قوى الظلام التي (تلوّث) عقول الفتيات المسلمات (!), ويصاول (الخفافيش المحنّطة) (!) التي تريد أسر المرأة بين آكام الماضي السحيق(!) .. وكلّما أحدث هذا (الدعيّ) مزيدًا من (الصفير)؛ كلّما انفرجت له مغاليق الإعلام العربي, واحتفت به منصّات الندوات النديّة بالهذر والكلام (الخفيف) المنمّق ..

في ظلّ هذا الجو البئيس وسيطرة التغريبيين على المنافذ الكبرى للبلاغ, تُمنع كلمة الحقّ بكلّ قوّة متاحة من الوصول إلى أسماع المسلمات .. ويُصوّر الحال على أنّ حملة الشريعة والداعين إلى استئناف الحياة الإسلاميّة, هم من السُوقة والمترديّة ممّن لا يعرفون غير سَوق الناس بالسياط إلى حتفهم, وأنّهم أغمار لا يزيدهم الطول من الأعمار إلاّ تحجّرًا وتبلّدًا .. وأنّ بينهم وبين هذا العصر عداوة وإحنًا .. وهكذا .. زد من كلّ وصف ماتح للبشاعة من قعر النفوس العليلة ..!!

لقد أطالوا في نقش وهم الكلام .. وحق علينا أن نجهر بالبيان ..!

لقد أمعن دعاة العالمانيّة في استخدام منهج الإسقاط النفسي والتلبيس العقلي بأسلوب إنشائي ساذج فجّ .. فقالوا وجالوا في الديار يَدْعون لقولهم ويقمعون بسلطان الترهيب كلّ مخالف عَلِمَ وهاء قولهم … فكان علينا أن ننزع عنهم وطاءهم؛ ليلامسوا جمر الحقيقة التي تحرق ما حاكوا من زور ..

وأفاض أرباب التنصير في القول بلا علم وإطلاق الدعوى بلا برهان ونسبة الأباطيل إلى الإسلام, وكالوا للقرآن الكريم بغير ما كالوا لدينهم, وطمسوا من أسفارهم وتاريخهم كلّ ما لا يناغم الدعاوى التي وُكّلوا بنشرها, وتوجّهوا إلى النساء المسلمات ليُحْدِثوا من خلالهن شرخًا في جدار الأمّة, وثلمة في حصن الدين .. [6]

وقد دفعنا ما سبق إلى أنّ نرد على هؤلاء وأولئك بالبيان الشافي والجواب الكافي من شهادات القرآن الكريم الذي يفترون عليه, والواقع البشري الذي يزيفون معالمه ليثبتوا منه غير منطوقه وظاهر نتوئه, وأسفار أهل الكتاب وأقوال أعلام علمائهم بلفظها الصريح المحكم لينكشف ما يخفيه المنصّرون!

ليست الغاية هي أن نقول للنصارى واليهود إنّ ديننا لا يدعونا إلى (عيب)؛ فإنّ عندكم الحجاب كما هو عندنا ..!

إنّنا لا نتبنّى هذا الخطاب الذي يرضى بأن يكون الشرع محلّ تهمة, وموضع حرج وريبة؛ حتّى نهرع لكلّ الأدلة لنقول لغيرنا إن ّالدليل على أنّنا على الحقّ, هو أنّ دينكم أيضًا يدعوكم إلى ما يدعو إليه الإسلام, وأنّ الحجّة على صواب مسلكنا, هي أنّ ذاك ما تدعو إليه عقائدكم ومذاهبكم!

إنّ غايتنا الحقّة هي تبشير المسلمة أنّ الله قد اصطفاها وخصّها بفضله أن تكون وحدها من بين نساء أمم الأرض محافظة على شريعته, مستجيبة لأمره, لمّا أوغلت الأمم الأخرى في الحرام, وتركت ما أنزل عليها من الحق القراح ..

ولسنا هنا ساعين لإقناع غيرنا أننا نشاركهم في ما عندهم, إذ إنّ بيننا وبينهم مفازات كما بين الدلسة والإشراق, أو ما بين الحقّ الصُراح والباطل البَواح, وإنّما نحن ندعوهم في هذا المقام إلى أن تبصر أعينهم كيف جنت عليهم أيدي رجال الدين, ونرغّبهم في الحقّ الذي طمست حروفه في أسفارهم المقدّسة!

وهاك هذا الكتاب, حجّة للحقيقة التي يُراد وأدها, ونصرة للمسلمة التي تُعَلّم العالم اليوم معنى الطهر وحقيقة العفّة, وتظهر جمال الأنوثة المصونة, وجلال الرقي الإيماني, بعد أن استمسكت بالكتاب الهادي وتفيّأت مقيله .. فهي أحقّ الخلق بقول الشاعر:

وهم النجوم لكل عبدٍ سائرٍ

يبغي الإله وجنة الحيوانِ[7]

وسواهم والله قطّاع الطـ

ـريق أئمةٌ تدعو إلى النيرانِ

وقد تحدّثنا في مبتدأ الكتاب عن شبهات العالمانيين (ومن تابعهم), وأظهرنا تهافتها وعوارها بالدليل والمثال؛ لتعلم المسلمة أنّ القوم ليسوا على شيء, وإنّما هي شبهات واهية ودعاوى واهنة ..

ثم انتقلنا إلى ما أثبتته الكتب التي يقدّسها اليهود والنصارى وأقوال أئمة المجتهدين في هاتين الديانتين, لنعلن أنّ اليهوديّة والنصرانيّة تجزمان بفرض الحجاب على النساء باعتباره شريعة ربّانيّة وفريضة أخلاقيّة ..

وقد آثرنا أن يكون الحديث مختصرًا والكلام مختزلاً مع بذل خلاصة الباب والعصارة واللباب, بما لا يأخذ من القارئ وقتًا ولا طول نظر, ونرجو أن نكون قد وفّقنا إلى ذلك ..

ونسأل الله بفضله أن ينير بهذا الكتاب بصائر, وأن يشرح به قلوبًا .. وأن يتقبّله من كاتبه في حياته, وأن ينير به قبره ويوسّع له فيه يوم يوارى تحت الجنادل بلا قوّة وسلطان, وأن يشفّعه فيه يوم تتطاير الصحف بعد أن تجفّ الأقلام ..

فلا يَشُحَّن القارئ على مؤلّف الكتاب بدعوة بظهر الغيب!


[1] سورة آل عمران/ الآية (102)

[2] سورة النساء/ الآية (1)

[3] سورة الأحزاب/ الآيتان (70-71 )

[4] العالمانيون, جمع عالماني, وهو المقابل العربي الصحيح لكلمة (laïque) الفرنسيّة, لا (عِلماني) بكسر العين, ولا (عَلماني) بفتح العين؛ إذ لا علاقة لأصل الكلمة الأعجميّة ((بالعِلم)), كما أنّه لا وجود لجذر ((عَلْم)) في المعجم العربي. وأصل الكلمة يعود إلى الكلمة اليونانية ((لاؤس)) ((λαος)) التي تعني الشعب الذي يفكّر في (العالم/الدنيا) ويعمل له, في مقابل طبقة رجال الدين المنشغلين بالآخرة.

[5] Katherine Bullock, Rethinking Muslim Women and the Veil, London: The International Institute of Islamic Thought, 2002, p.xxxvi

[6] قال إمام المنصّرين في القرن العشرين ((صامويل زويمر)): ((بسبب حقيقة أنّ تأثير الأم على الأولاد والبنات .. عظيم, وأنّ النساء هنّ العنصر المحافظ في الدفاع عن إيمانهم؛ فإننا نعتقد أنّ على الهياكل التنصيريّة أن تركّز بصورة أكبر على النساء المسلمات كوسيلة للتعجيل بتنصير البلاد المسلمة.)) (S. M. Zwemer, Moslem Women, p. 170, Quoted by, Katherine Bullock, op. cit., p.22), وقال أحد المنصّرين الآخرين العاملين مع ((زويمر)): ((إذا كسبتَ البنات للمسيح؛ فقد كسبتَ مصر للمسيح.)) (Van Sommer and Zwemer, Our Moslem Sisters, p.59, Quoted by, Katherine Bullock, op. cit., p.22)

[7] الحيوان: الحياة الحقّة.

© ARICR.ORG جميع الحقوق محفوظة لمبادرة البحث العلمي لمقارنة الأديان