الحجاب .. فريضة ربّانيّة في نصوص الوحي .. ومقصودنا ((بالحجاب)) هو اللباس الذي يغطي جسد المرأة كاملاً أو مع كشف الوجه والكفّين والقدمين [1].. وهو اللباس الذي تظهر به المرأة أمام الرجال الذين لا يحرم عليها أن تتزوج منهم على التأبيد, كابن العم وابن الخال ومن لا تربطها بهم قرابة..
وقد جاءت النصوص القرآنية في تفصيل هذا الأمر وبيان حدوده, رغم أنّ عامة آيات الأحكام في القرآن الكريم نزّاعة إلى ترك التفصيل, وتقديم قواعد شرعيّة عامة؛ وما ذلك إلاّ لأهميّة هذا الأمر وتعلّقه بصميم بناء الشخصيّة الإسلاميّة للمرأة المؤمنة ..
قال تعالى: {وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاء بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاء بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُوْلِي الإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاء وَلاَ يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُون} [2]
وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاء الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلاَبِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلاَ يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا}[3]
ففي الآية الأولى جاء التصريح بوجوب ستر الزينة كلها، وعدم إظهار شيء منها أمام الأجانب, ولا يستثنى من ذلك إلاّ ((ما ظهر)) من الزينة .. وهذا دليل أنّ على المرأة أن ترتدي ما تستر به نفسها, ولا يستثنى من ذلك إلاّ ما ظهر.. ولم يمتد خلاف أهل العلم في أمر الزينة (الظاهرة) إلى أكثر من الوجه والكفين والقدمين! [4]
قال تعالى: { وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ } [5]. وقد روى ((البخاري)) عن ((عائشة)) -رضي الله عنها- قالت: ((لما أنزلت هذه الآية أخذن أزورهن، فشققنها من قبل الحواشي فاختمرن بها.)) .. وفي هذا النصّ دليل قاطع على أنّ شعر المرأة عورة؛ فقد غطت الصحابيات رؤوسهن لمّا نزلت هذه الآية, وهو فهم للآية أقرّه عليهن الرسول صلى الله عليه وسلم .
وقال الرسول صلى الله عليه وسلم : ((المرأة عورة؛ فإذا خرجت استشرفها الشيطان))[6]. وهذا دليل على أن جميع بدن المرأة عورة؛ ومن أراد أن يستثني فعليه الدليل, ولا يعلم للمستثنين غير استثناء الوجه واليدين والقدمين .. وليس وراء ذلك مجال للزيادة ..
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((من جرَّ ثوبهُ خيلاءَ لم ينظرِ اللهُ إليهِ يومَ القيامةِ, فقالت أمُّ سلمةَ: فكيفَ يصنعُ النِّساءُ بذُيُولهنَّ؟ قال: يُرخينَ شبرًا، فقالت: إذًا تنكشفُ أقدامُهُنَّ، قال: فيرخِينهُ ذراعًا لا يزدنَ عليهِ.)) [7].. هذا الحديث دليل على أنّ الأصل في المرأة الستر, وقد كانت هذه الصحابيّة تخشى أن يظهر منها قدماها لحرمة ذلك .. فكيف يقال مع ذلك إنّ الإسلام لم يحدد للمرأة لباسًا شرعيًا ساترًا؟!! أو أنّه يجوز لها أن تلبس ما يظهر الركبة أو ما دونها بقليل مادام (محتشما!!) ؟!
هل اختلف أهل العلم في وجوب تغطية الرأس ؟
شاع بين العالمانيين القول إنّ الإسلام لا يمنع المرأة من أن تلبس (على الموضة) مادام اللباس محتشمًا(!), وجاؤوا بالدعاوى الكثيرة الباطلة التي ترفضها وتلفظها نصوص الكتاب والسنّة. وبلغ بهم أمر الجرأة على التحريف, أن قالوا إنّ علماء الإسلام لم يجمعوا على وجوب تغطية المرأة رأسها!
لقد اختار (بنو عِلمان) أن يزيفوا الحقيقة, وأن يسيروا على خلاف الكتاب والسنّة وإجماع الأمّة, ليحقّ عليهم وعيد الله -جلّ وعلا-بالعذاب وسوء المآل لمن خالف هذا الإجماع:
قال تعالى: {وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءتْ مَصِيرًا}[8] .. فمن خالف سبيل الأمّة في إجماعها على أمر من الأمور؛ فقد شاق الرسول صلى الله عليه وسلم وأهلك نفسه بلحوق الوعيد الشديد به.
لقد اتّفق علماء الإسلام منذ عصر الصحابة على أنّه على المرأة الحرّة أن تغطّي كامل بدنها, ولم يختلفوا إلاّ في الوجه والكفّين والقدمين. وهذا الاتفاق مبثوث في كتب أهل العلم, ومن هذه الشهادات التي تؤكّد حصر الخلاف في ما ذكرنا:
قال (( ابن حزم )) :
((واتفقوا على أن شعر الحرة وجسمها حاشا وجهها ويدها عورة, واختلفوا في الوجه واليدين حتى أظفارهما؛ عورة هي أم لا؟)) [9]
وأقرَّه شيخ الإسلام ((ابن تيمية)) ولم يتعقبه كما فعل في بعض المواضع الأخرى من تعقيبه على كتاب الإمام ((ابن حزم)) الذي خصّصه لنقل الإجماعات.
قال (( الجزيري )) :
((اختلف العلماء في تحديد العورة على مذاهب:
الشافعية في إحدى رواياتهم والحنابلة, قالوا: جميع بدن المرأة الحرة عورة, ولا يصح لها أن تكشف أي جزء من جسدها أمام الرجال الأجانب إلا إذا دعت لذلك ضرورة, كالطبيب للعلاج والخاطب للزواج, والشهادة أمام القضاء, والمعاملة في حالة البيع والشراء, واستثنوا من ذلك الوجه والكفين لأن ظهورهما للضرورة, أما القدم فليس ظهوره بضروري فلا جرم أنهم اختلفوا فيه أهو عورة أم لا؟ فيه وجهان, والأصح أنه عورة.
الحنفية والرأي الثاني للشافعية والمفتي به عند المالكية, قالوا: جميع بدن المرأة الحرة عورة إلا الوجه والكفين فيباح للمرأة كشف وجهها وكفيها في الطرقات, وأمام الرجال الأجانب, ولكنهم قيّدوا هذه الإباحة بشرط أمن الفتنة, أما إذا كان كشف الوجه واليدين يثير الفتنة لجمالها الطبيعي أو لما فيهما من الزينة وأنواع الحلي؛ فإنه يجب عليها سترهما ويصيران عورة كبقية أعضاء جسدها, وذلك من باب سد الذرائع …))[10]
لم يتجاوز أهل العلم عند استعراضهم المذاهب الفقهية في أمر حدود ما يباح كشفه, الوجه والكفين والقدمين, فدلّ ذلك بذاته على إجماعهم على حرمة كشف ما عدا ما سبق.
شبهات حول الحجاب في الإسلام
في زمن (إفراغ) المسلم من ماهيّته, وتسطيح وعيه, وحجزه عن الانحياز إلى دينه وحضارته, بفعل التعليم الملحد[11] عن صراط الحقّ, والإعلام المجيّر لخدمة العالمانيين والإباحيين, ورفع النماذج الفاسدة والتائهة لتكون قدوات تشرئبّ لها أعناق النائشة ويحتذى (بهديها!) .. في هذا السياق العقدي والثقافي, أوجد المناوئون للإسلام منفذًا إلى عقول شباب الإسلام, وتخلّلوا من خلال هذه الثغرة المعرفيّة في بنائهم العلمي ليصرفوهم عن دينهم الذي هو لبّ وجودهم وجوهر كيانهم ..
ولمّا كانت العالمانية في تضاد دائم مع الإسلام, فقد وجد المنصّرون بذلك جوًا مهيّأ وسعة ويسرًا لمشاركة (إخوانهم) العالمانيين في السعي لزعزعة الثوابت الشرعيّة والحقائق الإيمانيّة الإسلامية, رغم اختلاف مشاربهم وتباعد مذاهبهم ..
وبدأت القنوات الفضائيّة اليوم في خدمة هذا (المشروع) والترويج له؛ فهي تجمع في برامجها (التوجيهيّة!) إلى جانب العالماني الذي يحاول أن يخفي جحده لمبدأ الوحي المنزّل -بدعوى الفهم العصري للإسلام-, المنصِّرَ صاحب الأسفار المحرّفة والأفكار المعطّلة .. كلّ يشتكي في لوعة موجوعة حزينة من (أسلمة المجتمع) و(أصوليّة المجتمع) و(تحجّر المجتمع) .. وغير ذلك من (القوالب) المألوفة من الشتائم المعروفة التي توصم بها مجتمعاتنا التي هي أبعد ما تكون عن أن تعدّ ممثّلة للإسلام, رغم ما فيها من خير متنامٍ .. فكيف لو كان العالمانيون والمنصّرون يعيشون في مجتمع تحكمه ضوابط الشريعة, ويسلك الناس فيه صراط الأحكام القويمة؟!!
إنّ العالمانيين والمنصّرين ليسوا (هبلاً) حتى يلتبس عليهم الأمر وتأخذهم الظنون إلى أنّ مجتمعاتنا على جادة الإسلام حقًا .. وإنّما هم يسعون –من وراء خطابهم المتّقد حنقًا- إلى الحيلولة دون عودة هذه المجتمعات إلى موئلها الأوّل والأخير: (الإسلام) .. ولذلك فهم يستحييون مشاعر (الريبة) و(الرُهاب) في أنفس أضرابهم؛ وكأنّ القوم تتهددهم جحافل الإجرام, أو كأنّهم يئنّون تحت كلكل (الظلاميات) التي تنشر في آفاق أبصارهم حجب الفقر والمرض والتخلف بأسبابه وأنواعه .. إنّه استباق (للكارثة) الكبرى التي يخشونها؛ وهي انخلاع أمّتنا من ربقة الفكر الوافد الاستلابي ..فعندها سينفض الناس عنهم, وينضب ضرع (العطايا) التي يستحلبونها باسم نشر (التنوير)!!
ويشكّل الحجاب الإسلامي مصدر (قلق) لدعاة العالمانيّة وإخوانهم المنصّرين؛ ذلك أنّ الفكر التغربيبي والعمل التنصيري قد ظنّا –في بداية القرن العشرين- أنّ المرأة هي أضعف مناطق المناعة في الأمّة, فهي منفذ سهل لزرع الأدواء فيها ..فبذلوا كلّ نفيس لأجل اختراق أجيال المسلمين من خلال المرأة, وأنشؤوا لذلك الجمعيات, وأقاموا لذلك المخططات طويلة النفس وقصيرة الزمن .. لكنّهم فوجئوا بعودة الفتاة المسلمة إلى دين الطهر وإدبارها عن الفتنة الزائفة التي عرضوها أمامها رخيصة, مستعصية بذلك على الذوبان في حوامض الفكر الاسترقاقي.. وهنا فقدوا اتزانهم المزيّف, ووسطيّتهم المختلقة المزوّقة, وسقطت أقنعة الخديعة, وأدبر عنهم شعارهم القديم: (حقّ الاختلاف), وأرسلوا من ألسنتهم التهم والسباب, ولم يتوانوا عن تحقير كلّ امرأة رفضت أن تشتري منهم كفن هلاكها ورَمْس فنائها.. لأجل ذلك ردّدوا شبهاتهم الطاعنة في الحجاب, والتي سنستعرضها الآن؛ لنكتشف مبلغ ظلم أصحابها وعِظم مجافاتهم للحقّ .. وهي شبهات مكرّرة, تطرق أسماعنا كلّ حين بفعل الجوّ الثقافي والإعلامي الذي يتّخذ العالمانيّة محرابًا, وقِبلة, وشعيرة, ومهوى فؤاد .. ولا سبيل لنقض هذه الشبهات إلاّ أن نعرضها كما هي على ألسنة (أهلها), ونعرّيها عن بريق الحقّ الذي تسربلت به على حين غفلة من حماة الفضيلة ..
[1] اختلف أهل العلم من المسلمين في حدود عورة المرأة أمام الرجال غير المحارم .. ولسنا هنا بصدد الانتصار لمذهب دون آخر, وإنّما نقول إنّ الحد الأدنى هو تغطية البدن كاملاً دون الوجه والكفين والقدمين.. وعلى هذا طائفة من أهل العلم والإمامة .. أمّا تغطية الوجه والكفين والقدمين, فهي في حكم الواجب على قول وسنّةٍ على قول آخر ..
[2] سورة النور/ الآية (31)
[3] سورة الأحزاب/ الآية (59)
[4] لا تذكر القدمان في هذا الاستثناء عند عامة من ينقلون الخلاف, ويُكتفي في الأغلب بالإشارة إلى الوجه والكفين.
[5] سورة النور/ الآية (31)
[6] رواه الترمذي, وابن خزيمة, وابن حيان, والطبراني في معجمه الكبير والأوسط, والبزار, وابن أبي شيبة. وصحّحه الألباني.
[7] رواه النسَائي, والترمذي وصحّحه.
[8] سورة النساء/ الآية (115)
[9] ابن حزم, مراتب الإجماع, مصر: دار زاهد القدسي, ص 29
[10] الجزيري, الفقه على المذاهب الأربعة, القاهرة: دار المنار, 1420هـ-1999م , 5/47
[11] الملحد: المائل