جاء في رسالة بولس الأولى إلى كورنثوس 11/4-10: ((فكل رجل يصلي أو يتنبأ، وعلى رأسه غطاء، يجلب العار على رأسه.وكل امرأة تصلي أو تتنبأ، وليس على رأسها غطاء، تجلب العار على رأسها، لأن كشف الغطاء كحلق الشعر تماما. فإذا كانت المرأة لا تغطي رأسها، فليقص شعرها! ولكن، مادام من العار على المرأة أن يقص شعرها أو يحلق، فلتغط رأسها. ذلك لأن الرجل عليه ألا يغطي رأسه، باعتباره صورة الله ومجده. وأما المرأة فهي مجد الرجل. فإن الرجل لم يؤخذ من المرأة، بل المرأة أخذت من الرجل؛ والرجل لم يوجد لأجل المرأة، بل المرأة وجدت لأجل الرجل. لذا يجب على المرأة أن تضع على رأسها علامة الخضوع، من أجل الملائكة.))
صرّح ((بولس)) في النصّ السالف أنّه لا يجوز للمرأة أن تكشف شعرها داخل الكنيسة إذا كانت تصلّي أو تتنبّأ .. ونقول: تبعًا لذلك فمن باب أولى عدم كشفه خارجها .. إذ الفتنة خارجها أشدّ .. فإذا كان المنع مقررًا داخل دور العبادة حيث الأصل أن تكون الأنفس أكثر استعدادًا لمواجهة فتنة الشيطان؛ فمن باب أولى حرمة هذا الأمر في الخارج حيث عوامل الاستثارة والاستجابة أكبر .. وهو نفس ما قرّره ((ترتليان)) إذ قال في الفصل 22 من كتابه ((حول الصلاة)) ((De Oratione)) –وإن كان قد طرحه بصورة عكسيّة؛ إذ إنّ من النساء في زمانه من كن يرتدين الحجاب في الشارع, ويعرين رؤوسهن في الكنيسة- : ((لماذا تكشفن أمام الله, ما تغطينه أمام الرجال؟ هل أنتن محتشمات في الشارع أكثر من الكنيسة؟))[1] .. إنّ العفّة بارتداء الحجاب عند ((ترتليان)), فريضة في الشارع كما في الكنيسة!
ومما يؤكّد أنّ ((بولس)) كان يرى وجوب الحجاب, أنّ الفيلسوف والمؤرّخ ((ديو ذهبي الفم)) ((Dio Chrysostom)) -وكان من معاصري ((بولس))- قد أشار إلى أن النساء في طرسوس-بلد ((بولس))- كنّ يغطين أنفسهن عندما يكنّ في الشارع فلا يظهر منهن شيء[2]..
كما أنّ أهل كورنثوس الذين تنصّروا, والذين وجه إليهم ((بولس)) رسالتيه, كانوا في الأساس على قسمين: اليونان الأمميين, واليهود المتنصّرين (كما هو ظاهر من الحديث عن الرجال الذين ختنوا والآخرين الذين لم يختنوا في 1كورنثوس 7/18) ..
ونعلم تاريخيًا أنّ لباس النساء اليونانيات كان معتنيًا بصورة كبيرة بالستر؛ إذ إنّ أشهر أنواعه والمسمّى ((peplum)), هو رداء تضعه المرأة على رأسها؛ فلا يظهر منها شيء, كما أنّه كان من عادة اليونانيات أن يغطين وجوههن فلا تبدو منهن إلاّ عين واحدة [3].
لقد ((كانت عادة (اليونانيات) أن يغطين أنفسهن في الحياة العامة (كما تؤكّد ذلك المنحوتات), على خلاف أمرهن في بيوتهن أو في علاقاتهن داخل بيوتهن. ما كان حال اليهوديات قاصراً على عقد شعورهن, وإنمّا كنّ يغطينها بطريقة آمنة عندما يكنّ خارجًا, لقد كنّ بالتأكيد مغطيّات في الأماكن العامة, وما كنّ يتكشفن في الهيكل.)) [4]
أمّا فيما يتعلّق بنساء الإمبراطوريّة الرومانيّة, فكنّ يغطين رؤوسهن دلالة على أنّهن نساء محترمات, وكنّ يلبسن إمّا النقاب أو غطاء رأس, وهنّ في ذلك يُعلِمن من يراهن من الرجال أنّه لا يجوز لهم الاقتراب منهن, وأنّ أيّ فعل متعد منهم سيكلّفهم عقوبة زاجرة.[5]
ويعلّق المؤرّخ اليوناني المشهور ((بلوتارك))[6] –وقد عاش في اليونان وروما- بعد ذكره لأعراف زمانه عند الحِداد على الميت وأنّ الأبناء كانوا يغطون رؤوسهم فيما تكشف البنات رؤوسهن: ((ينتمي الحِداد إلى المخالف للعادة))[7]؛ وفي ذلك دلالة على موافقة حجاب النساء للمألوف والمقبول في القرن الأول ميلادي؛ فليس كشف النساء رؤوسهن علامة على الحزن عند وفاة قريب إلاّ استثناءً مخالف لأصل الستر.
وقد كان مجتمع ((قمران)) الذي ساهمت مخطوطاته المكتشفة في منتصف القرن العشرين, في تحقيق فهم أفضل للبيئة التي ظهر فيها المسيح, يرى أن المرأة غير المحجّبة أشبه بمن يعاني إعاقة بدنيّة؛ ممّا يلزم منه أن تقصيها جماعة الناس عن المجتمع؛ احترامًا للملائكة.[8]
في ظلّ هذه الأجواء, لا يمكن أن نتصوّر أنّ ((بولس)) كان يقول لأهل كورنثوس: على نسائكم أن يغطين رؤوسهن في الكنائس, فإن لم يفعلن ذلك؛ فلتُقصّ شعورهن إهانة لهن, أمّا في الشارع أمام جماهير الرجال؛ فلهنّ أن يتبرّجن!!!
إنّ أسلوب الأمر والزجر الوارد في كلام ((بولس)) يظهر أنّه يدعو إلى مزيد حشمة والتزام, وما كان بصدد تخفيف ما يفرضه العرف في بيئته وزمانه.
إنّ آفة عامة التفاسير المعاصرة- كما اعترف بذلك بعض النقاد الغربيين المحققين – أنّها تفسِّر بعقليتها الغربية الأوروبيّة المعاصرة, كتبًا شرقيّة كتبت في أزمنة قديمة ..
إنّ وَصْلَ كلام ((بولس)) إلى أهل كورنثوس, ببيئتة الطرسوسية, وخلفيّته اليهوديّة, وأعراف من وجه إليهم رسالتيه؛ ليجعلنا ندرك معنى حديثه عن حكم الحجاب داخل الكنيسة بصورته الأجلى والأوسع …
كما أنّه من غير المنطقي أن نتحدّث عمّا قرّره العهد الجديد من حرمة النظر إلى النساء بشهوة, وأنّ ذلك فعل قبيح يستدعي من المرء أن يقلع عينه لأجل تفاديه-سواء أكان الحديث على الحقيقة أم على المجاز- , وما أعلنه النصارى في القرن الثاني للميلاد بأنهم يتميّزون بالعفّة والتباعد الشديد عن دواعي إثارة الشهوة ولو بالنظر [9] من (جهة) .. ثمّ نقول من (جهة أخرى) إنّ النصرانية تعلن مع ذلك في قرونها الأولى أنّها قد قررت مخالفة شريعة اليهود وأعراف الرومان واليونانيين التي تفرض على النساء الحجاب!!!
كيف تتميّز النصرانيّة –على ألسنة دعاتها الأوائل- بالدعوة إلى العفّة, ثم تخالف كلّ شرائع البيئة التي وجدت فيها وأعرافها, بإباحة السفور الذي كان يعدّ في ظلّ ذاك الواقع اجتراءً على الثوابت الأخلاقيّة للمجتمع؟!!
كيف يصحّ أن تكون النصرانيّة في القرون الميلاديّة الأولى أرقى أخلاقيًا من شرائع الأمم الأخرى وأعرافها؛ باستبشاعها الشديد للتبذّل الجنسي إلى حدّ اعتبار نظرة الرجل إلى المرأة مهلكة من المهالك, وزنى قد اكتملت أركانه .. ثمّ هي تقرّر مخالفة ما استقرّت عليه الأمم التي ظهرت فيها؛ بإباحة السفور للمرأة؟!!
أين المنطق؟!
ثمّ إنّ المنطق الاستنباطي والترتيبي ((لبولس)) في حديثه عن حجاب المرأة في الكنيسة؛ ليدلّ بذاته على أنّ ((بولس)) كان يرى فريضة الحجاب ملزمة للمرأة في الكنيسة وخارجها؛ إذ إنّه قد أكّد على أنّ المرأة خاضعة للرجل: ((فكما أن الكنيسة قد أُخضِعت للمسيح، فكذلك الزوجات أيضًا لأزواجهن، في كل شيء.)) (أفسس 5/24), ورتّب على هذا الخضوع إلزام المرأة بوضع علامة له, وهو الحجاب كما هو متبادر من السياق: ((لذا يجب على المرأة أن تضع على رأسها علامة الخضوع، من أجل الملائكة [10].)) (1كورنثوس 11/10 )[11] .. فكان (الخضوع) و(الحجاب) متلازمين .. ولمّا علمنا من كلام ((بولس)) أنّ المرأة خاضعة للرجل في جميع شأنها, كما أنّ الكنيسة خاضعة للمسيح في جميع أمرها؛ أدركنا أنّ هذا الحجاب ملازم لها دائمًا ملازمة خضوعها المتواصل للرجل.
[1] Tertullian, ‘On Prayer,’ in The Ante-Nicene Fathers, Edinburgh: T. & T. Clark, 1869, 11/197-198
[2] انظر؛ Dio Chrysostom, Discourse 33.48 (Quoted by, Karen L. King, ed. Images of the Feminine in Gnosticism, Pennsylvania: Continuum International Publishing Group, 2000, p.277)
[3] انظر؛ Charles Hodge, Commentary on the First Epistle to the Corinthians, Michigan: Wm. B. Eerdmans Publishing, 1994, p.209
[4] John Duncan Martin Derrett, Studies in the New Testament: Glimpses of the Legal and Social Presuppositions of the Authors, Leiden: Brill, 1977, p.171
[5] انظر؛ A. Rousselle, ‘Body Politics in Ancient Rome,’ in G. Duby and M. Perrot, eds.A History of Women in the West, I: From ancient Goddesses to Christian Saints, Cambridge, Mass.: Harvard, 1992, p.315, D. B. Martin,The Corinthian Body, New Haven: Yale University Press, 1995, 229-249 (Quoted by, Anthony C. Thiselton, The First Epistle to the Corinthians: a commentary on the Greek Text, Michigan: Wm. B. Eerdmans Publishing, 2000, 801 )
[6] بلوتارك 46م-120م: مؤرّخ يوناني وراوي تراجم, اكتسب الجنسيّة الرومانيّة أثناء حياته.
[7] Plutarch, Quoest. Rom. Xiv (Quoted by, Frédéric Louis Godet, Commentary on the First Epistle of ST. Paul to the Corinthians, tr. A. Cusin, Michigan: Zondervan Publishing House, 1957 , 2/104)
[8] نقل الناقد الكاثوليكي البارز ((فتزماير)) ((Fitzmyer)) هذا التصوّر عنهم, وشاركه في ذلك أيضًا الناقد ((هـ. ج. كدبوري)) ((H. J. Cadbury))؛ انظر؛ Gordon D. Fee, The First Epistle to the Corinthians, Michigan: Wm. B. Eerdmans Publishing, 1996, p.521
[9] انظر مثلاً, الخطبة الشهيرة المنسوبة إلى الفيلسوف النصراني ((أثناغوراس الأثيني)) ((Αθηναγόρας ο Αθηναίος)) في القرن الثاني ميلاديًا أمام الإمبراطور ((ماركوس أورليوس)) وابنه. (انظر؛ Athenagoras, A Plea for the Christians, in the Ante Nicene Fathers, Buffalo: The Christian Literature Publishing Company, 1885, 2/146)
[10] الخلاف حول معنى ((الملائكة)) هنا واسع؛ فقد قيل إنّها الملائكة الساقطة, وقيل إنّها الملائكة الصالحة, وقيل إنّها الملائكة التي تحضر في الكنائس, وقيل إنهم رجال الدين في الكنيسة, وقيل إنّها الملائكة التي تحرس المؤمن في كل مكان (انظر؛ Thomas Charles Edwards, A Commentary on the First Epistle to the Corinthians, London : Hodder and Stoughton, 1885, pp. 277-288), ومهما كان المعنى فإنّ الصواب كما قال الناقد ((توماس شارلز إدواردز)) ((Thomas Charles Edwards)) هو عدم حصر الأمر في الملائكة التي تحضر في الكنيسة؛ لأنّ ((بولس)) قد تحدّث عن النظام الطبيعي للخضوع, والملائكة حاضرة في الكنيسة وغيرها لرعاية هذا الترتيب الكوني, كما أنّ للملائكة حضورًا في المشهد الكوني عامة كما هو مصوّر في الكتاب المقدّس (انظر المصدر السابق, ص 278)
[11] جاءت ترجمة ((The New Living Translation)) مراعية للمعنى المقصود: ((A woman should wear a covering on her head to show she is under authority))