لماذا لم يخلق الله عالمًا أقلّ شرًا؟!

ليس الألم هو عدونا، وإنما هو الكاشف الأمين عن العدو

الدكتور بول براند

يسلّم عموم الملاحدة أنّ في جنس الشرّ خيرًا وحِكمًا، ولا يرون أنّ وجوده يعارض وجود الربّ الرحيم، لكنّهم يقولون: ليت شرور العالم كانت أقلّ، فإنّ كثرتها وقوّتها تمنعان العقل من التسليم بوجود هذا الإله!

الظاهر العقلي لهذا الاعتراض لا يخفي حقيقة أنه صرخة وجع، لا همسة عقل، فهو على الحقيقة يريد للإنسان أن يفرّ من قرصة الوجع دون النظر إلى مآل!

إنّ طلب عالم أقل شرًا يقتضي أن نصارح أنفسنا بعدد من الأسئلة:

  • هل نحن نملك القدرة على تحديد الحد الأدنى من الشر المقبول؟
  • هل نحن على الحقيقة نعترض على الشر الزائد، أم على كلّ صورة قصوى موجودة للشر؟
  • هل حقًا لم يذهب أعظم الألم الذي لا نطيقه؟
  • ما هي صورة الألم الذي يقبله المعترض؟
  • هل الإزعاج الملازم للألم الناتج عن الشر، بلا حكمة؟

إننا بحاجة إلى أن “نصارح” أنفسنا بهذه الأسئلة لأنّها مكتومة في داخلنا، ولو صارحنا أنفسنا بها فسنكتشف حقائق تزعزع ثقتنا في نفسياتنا المتضجّرة دائمًا..

اعتراض على “منطقية” الاعتراض

إننا أسرى عجز معرفي عن تحديد الحد الأدنى المطلوب من الشر في عالمنا؛ فإنّ كلّ حدّ يتم تحديده لا يلزم من بعض الزيادة عليه أو التخفيف منه الخروج عن مقتضى الحكمة الإلهية؛ ولذلك يقول الفيلسوف (فان إنواجن): “التساؤل عن عدد الشر العظيم المسموح به المتوافق مع خطة الله هو أشبه بطرح سؤال يقول: “ما هو الحد الأدنى من حبات المطر التي من الممكن أن تنزل في إنجلترا في القرن التاسع عشر بما يتوافق مع طبيعة أنّ إنجلترا كانت بلدًا خصبًا في القرن التاسع عشر؟”.[1] وهكذا هي وقائع الشر كحبّات المطر في عالم واسع، تعجز الحكمة البشرية عن حصر المطلوب منها.

كما طرح الفيلسوف (بروس لِتل) إشكالية منطقيّةً حول رفع لافتة الاعتراض بقضيّة “الشر المنكر الذي لا يليق بالحياة البشريّة التي تتوافق مع حكمة الربّ.” يتمثّل هذا الإشكال في: تعريف الشر الذي يعتقد الإنسان أنّه شديد؛ ولذلك فهو يتعارض مع منطق الرحمة الإلهية.[2]

لتبسيط القضيّة، يقول (بروس لِتل): لنفترض أنّنا نرمز للشرّ بحرف (أ)، فتكون درجات الألم تصاعديًا على الشكل التالي: (أ+1) و(أ+2) و(أ+3)… وكلّما عَظُم الرقم كان الألم أشدّ. ولنفترض أنّ أقصى شرّ يتصوّره الإنسان هو (أ+5). ولذلك يطلب الإنسان أن يتمّ إلغاء (أ+5)، وهنا يتدخّل الربّ لمنع حدوث مثل هذا المستوى من الشّر في حياة الإنسان، وعندها سيكون أقصى الألم (أ+4). في هذه الحال سيعترض نفس المشكّك لأنّه يراه في ذهنه أقصى ألم متصوّر، ويرى أنّ الحكمة الإلهية تقتضي زواله. ثم يكون سقف الألم (أ+3)، ويعترض المشكّك مرّة أخرى على سقف الألم، لأنّ حسّه العاطفي يراه أكبر منغّص على سعادته. وهكذا يستمرّ الاعتراض حتّى لا يبقى هناك “شر”! ومآل اعتراضِ من ضاقت نفسه بالألم الذي ينغّص وجوده هو إلزام الربّ أن يرفعه من “دنيا الامتحان” إلى جنّة الجزاء، ليغيّر خطّة الوجود الإنساني، لمجرّد لجاجة النفس الإنسانيّة الطماعة التي لا تشبع، والتي كلّما منحت خيرًا طلبت المزيد، وكلّما رُفع عنها شر طلبت حطّ غيره عنها.

ما الذي يريده المعترض في دخيلة نفسه؟ يجيبنا (س. إس. لويس) بقوله: “الذي يمكن أن يرضينا حقًا [كبشر] هو إله يقول على أيّ شيء نحب أن نفعله: “ماذا يهم، طالما أنتم راضون وقانعون؟”. إننا في الحقيقة لا نريد “أبًا” في السماء[3] قدر ما نريد “جدًا” في السماء، شيخًا عجوزًا محسنًا، هو كما يقولون “يحب أن يرى الشباب يستمتعون”، وخطته لأجل الكون هي ببساطة أن يُقال فعليًا في نهاية كلّ يوم: “لقد استمتع الجميع بوقت طيب”.[4] إنّ الإنسان حين يضجّ من كلّ ألم وتعب ومسؤولية، هو يبحث في الحقيقة عن إله يوفّر له ملعبًا يمرح فيه، ومَعِينًا للّذات التي لا ترتوي، ثم ينال بركة الإله ورضاه! إنه يبحث عن “خادم” أو “يدٍ مصفقة”!

لم يبق من الألم إلّا قليله

النظر العلمي الموضوعي في بنية الإنسان الماديّة يكشف يومًا بعد يوم أنّ الله سبحانه لم يترك من الألم في حياة الإنسان إلّا أقلّ القليل، وأنّه سبحانه قد زوّد الإنسان بموانع بيولوجيّة كثيرة تقيه الألم، وكثير منها، بل كلّها مثيرة للدهشة عند التدبّر، والإعجاب كلّما دقّ البصر، ولو أنّ بعضها تخلّف؛ لتحوّلت حياة الإنسان إلى جحيم متواصل من الآلام الناخرة لهجعة النفس، وهذا أمر يكشف حقيقة ينفر منها عقل الملحد: غائية الخلق ورحمة الخالق…

من الأمثلة الطريفة في هذا الباب، ما يكشفه مرض (Motion sickness)، وهو مرض ابتليتُ به شخصيًا؛ إذ إنني أشعر بدوار ورغبة في الغثيان إذا ركبت في سيارة ولم أكن أنا السائق، وقد أنساني ما قرأته عنه، أنّه أذى؛ فقد أخذ بمجامع قلبي وعقلي التفسير العلمي الأرجح لهذا المرض.

“أشهر الفرضيات التي تشرح لنا سبب حدوث داء الحركة تقول إنّ داء الحركة هو آلية دفاعية للجسم ضد سموم عصبية. تقوم الباحة المنخفضة (Area postrema) الموجودة في الدماغ بتحفيز عملية التقيؤ عند اكتشاف هذه السموم وأيضا تقوم بتصحيح التضارب في معلومات الحالة الحركية بين العيون والجهاز الدهليزي. عندما نشعر بالحركة ولكن لا نراها (مثال: في سفينة لا نوافذ لها) تقوم الأذن الداخلية بإرسال معلومات للدماغ بأن الجسم يتحرك وفي نفس الوقت تقوم العيون بإرسال معلومات للدماغ بأن كل شيء ثابت ولا وجود لحركة. عندما يحدث هذا التعارض في المعلومات الواصلة للدماغ يتوصّل الدماغ إلى نتيجة أن إحداهما (العين أو الأذن الداخلية) قد أصيب بهلوسة ويفترض أن سبب هذه الهلوسة سموم عصبية تم ابتلاعها فيقوم الدماغ بإحداث القيء كي يتخلص من هذه السموم المفترضة”.

إنّ النظر التدبّري في الجهاز العصبي للإنسان حجّة للقول إنّ الله سبحانه قد رفع الكثير من الأذى الذي تقتضيه السنن الكونيّة لو جرت بعفويّة ضمن قوانينها الرتيبة. إنّه يمثّل شبكة اتّصال داخلية تعينه على التواؤم مع البيئة المحيطة به، ويكفي المرء لإدراك عظمة صنعه أن يعلم أنّ هذا الجهاز يتكون من 14 بليون خليّة عصبيّة، ويبلغ طوله 480 ألف كيلومتر، فلو وضع على شكل خط مستقيم، للفّ الأرض 12 مرّة، كما تصل سرعة الإشارات التي يرسلها هذا الجهاز إلى 400 كيلومتر في الساعة.[5] وهو جهاز حساس، ولذلك جعل الله أهم عناصره وأكثرها حساسيّة داخل الجمجمة، محمية بهذه العظام الصلبة، وداخل العمود الفقري لحمايتها من الصدمات. إنّه آلة قد صممت ليكون من أهم وظائفها حماية الإنسان من أذى العالم الذي يحيط به، أي تخفيف الشر الطبيعي.

ويخبرنا العلم أنّ للدماغ قدرة عالية على إسكات صوت الألم الصارخ عند الحاجة؛ فإنّ الجهاز العصبي الطرفي (Peripheral nervous system) قد يرسل رسالة الألم إلى النخاع الشوكي الذي يوجهها إلى الدماغ لتفسيرها كألم مزعج، لكنّ الدماغ يقوم بتحريف الرسالة حتى لا تتحوّل إلى مفهوم ألميّ، وهو ما يظهر في أرض المعركة أو عند أهل الرياضات الروحية.[6]

ويمثّل الإندروفين (Endorphin) -وهو من الكيميائيات الناقلة للإشارات بين الأعصاب- آية من آيات الرحمة؛ فهو موجود في أكثر من موضع في البدن، ويتمّ فرزه تبعًا للمؤثرات الخارجية، ويتعامل أساسًا مع المستقبلات في الخلايا الموجودة في الدماغ، وهو مسؤول عن حبس الألم وإحساسنا بالمتعة بأنواعها (كالأكل والري…)، ويعتقد كثير من العلماء أنّ من وظائفه إشعارنا أنّنا قد أخذنا نصيبًا كافيًا من الأمور الممتعة. والأندررفين أنواع كثيرة، أحدها (beta-endorphins)، وهو أقوى من المورفين الذي يعطى للمرضى الذين يعانون آلامًا مبرحة –كمرضى السرطان- لإخماد آلامهم.

إنّ الشكوى الوحيدة “المشروعة” التي من الممكن أن يعلنها الإنسان إزاء الألم، هي ما كان منه شديدًا لا يطاق ولا يمكن أن نفعل معه شيئًا، وهذا النوع من الألم –كما يقول الطبيب (براند)- لا يمثّل غير 1% من الآلام التي نشعر بها، أما الآلام الأخرى فمن الممكن علاجها بأكثر من سبيل.[7]

وينبهنا الفيلسوف (سونبرن) إلى أنّ الله برحمته قد خفّف الألم الشديد على الإنسان بوجهين عظيمين:

الأول: إذا وصل الألم إلى درجة تفوق طاقة الإنسان على التحمّل؛ يفقد الإنسان وعيه، ويذهب معه شعوره بالألم.

الثاني: ينهي الموت آلام الإنسان، خاصة إذا أصاب الإنسان الهرم، وضعفت مناعته عن تحمّل الأمراض والأوجاع.[8]

إنّ هذين الوجهين وحدهما حجّة أنّ الله قد خفّف عنّا أشدّ العذاب في هذه الدنيا!

وأوضح ما يكون انتباهنا لتخفيف كثير من الألم، إذا تفكّرنا في الجهاز المناعي للإنسان. “ويمكن تعريف الجهاز الدفاعي على أنّه “جيش عامل شديد التنظيم والتنسيق يقوم بحماية أجسامنا من هجمات الأعداء القادمين”. وفي هذه الحرب متعددة الجبهات، فإنّ الدور الأساسي للعناصر التي تقاتل على الجبهة الأمامية هو أن تقوم بمنع الأعداء مثل البكتريا والفيروسات من دخول الجسم…

وعندما يتحقّق للأعداء النجاح في غزو الجسم، بعد التغلّب على عقبات متنوعة مثل الجلد والقنوات التنفسيّة والهضميّة، عند ذلك سيكون هناك محاربون أشداء في الانتظار. هؤلاء المحاربون الأشداء يتم إنتاجهم وتدريبهم في مراكز خاصة مثل النخاع العظمى والطحال والغدّة التيموثيّة والعقدة الليمفاويّة. هؤلاء المحاربون هم “الخلايا الدفاعيّة” التي تشمل خلايا الماكروفاج والخلايا الليمفاويّة.

في البداية، تنطلق العديد من الخلايا الآكلة (eater cells) والتي تسمّى “خلايا الفاج” إلى العمل، يتبعها نوع متخصص من خلايا الفاج يسمّى خلايا الماكروفاج، ويبدأ في تأدية دوره، وهم جميعًا يقومون بالقضاء على العدو عن طريق ابتلاعه.

وكذلك تقوم خلايا الماكروفاج بوظائف أخرى مثل استدعاء خلايا الدفاع الأخرى لأرض المعركة”.[9]

ولو نظرت إلى الجلد الذي هو أوّل خطّ مناعي ضد غزو الأجسام الضارة، الكبير منها والدقيق، فستلاحظ طبيعة “الإصلاح الذاتي لنسيج الجلد بعد حدوث أي جرح. فعندما يُجرح الجلد، تقوم خلايا الدفاع بالتوجّه فورًا إلى المنطقة المصابة لتقاتل الجسم الغريب وتزيل المخلفات الناتجة من النسيج المصاب. في وقت لاحق تعمل مجموعة أخرى من خلايا الدفاع على حفز إنتاج الفيبرين، وهو بروتين يقوم سريعًا بتغطية الجرح مرّة أخرى باستخدام شبكة ليفيّة.”[10]

ولا يكتفي الجانب المبهر للجهاز المناعي في التخطيط الرائع لمحاربة الأجسام المؤذيّة، وإنّما يتجاوز ذلك إلى قيام الجسم بتخزين معلومات دقيقة عن هذه الأجسام حتّى تكون زادًا لردّ صولتها إذا عادت مرّة أخرى.

لقد استفزّت هذه الحقائق الطبيب الإنجليزي (إدوارد جِنّر) (Edward Jenner) مكتشف التلقيح الذي يراد به تكوين مناعة طارئة للبدن من أمراض مخصوصة، ليقول: “أنا لست مندهشًا أنّ الناس ليسوا ممتنين لي، وإنما أعجب أنهم غير ممتنين لله لأجل الخير الذي سخّرني كأداة لتبليغه لرفقائي من البشر!“.[11]

وإذا رفعنا رؤوسنا إلى أعلى، ونظرنا إلى السماء، وتفكّرنا في ظاهرة النيازك التي تصيب الأرض بصفة مستمرة منذ زمن بعيد، وأنّها لم تؤثّر في الوجود البشري على الأرض، رغم أنّها ظاهرة كافية وحدها أن تنهي حياتنا في لحظة لو كانت هذه النيازك تنزل في المناطق الآهلة بالسكان ودون أن يخفف الغلاف الجوي من قوّتها، حجمًا وسرعة، فسندرك مبلغ الرحمة في دفع هذا الشر.

وإذا نزلنا إلى الأرض وتفكّرنا في أمر الزلازل، فسيخبرنا العلم أنّ الجزء الأعظم منها يقع في البحر، فلا يصيب الإنسانَ منها شيء!

الخلاصة هي أنّ الله سبحانه قد جعل نواميس في الكون تمنع النواميس “العفوية” من العمل حتّى يكون الشر في حياة الإنسان هو الاستثناء. فهاهنا الرحمة والحكمة! وهاهنا قد خُفّف الألم إلى مدى بعيد جدًا!

لماذا لا يكون هذا الشر الضروري وهميًا-غير مؤذ؟

عرض الفيلسوف (سنايدر) الاعتراض الإلحادي الشائع وهو: إذا كان في الشر ضرورة تفيد الإنسان في تنمية شخصيّته وتهذيبها وتحقيق كمال الإنسانيّة فيها؛ فلِمَ لم يخلق الله عالما يكون فيه هذا “الشر” غير مؤذ؛ وذلك بأن يكون الإنسان، مثلًا، مرتبطًا “بآلات التجربة” دون علم منه، ويعيش مع هذه الآلات حالات التجربة والاختبار والمعايشات التي نعيشها في عالمنا، دون أن يناله أذى، لأنّ الشر هنا مجرّد وهم (illusory evil) برمجي في هذه الآلات.

يجيب (سنايدر) على هذا الاعتراض الذي يرغب في تحصيل خيرات عالمنا دون أن يصاب الإنسان بشيء من وجع الشر، بتحويل هذا الشر إلى وجود وهمي، بقوله إنّ تحويل هذا الشر من وجود موضوعي إلى مجرّد إيحاء آليّ مبرمج، قد ينمّي لنا شخصيتنا في ذاتها، لكنّه سيفقد العالم خيرًا كثيرًا. في هذا العالم، لن يُعين أحد أحدًا، ولن يُعان أحد من أحد. لن يتعاطف أحد مع أحد، ولن يتُعاطف مع أحد. لن يغفر أحد لأحد، ولن يُغفر لأحد من أحد. سيختفي التعاطف والتآلف بين الناس. لن يعوّض أحد أحدًا، ولن يُعوَّض أحد من أحد. لن يعجب أو يمجّد أحد أحدًا لأنه يسعى لهدف نبيل، ولن يُمجَّد أحد لذلك. لن يهب أحد من ماله أو وقته أو موهبته شيئًا للمحتاجين، ولن يُوهب أحد شيئًا من ذلك. باختصار، إذا أضحت تجربتنا لتنميّة شخصيتنا مجرّد توّهم حتى لا نشعر بوخز الألم؛ فإنّ “عالمنا” في هذه الحال سيكون ضيقًا جدًا، خُلْوًا من كلّ اتّصال حقيقي مع الغير.

وختم (سنايدر) ردّه بقوله: “يبدو إذن أنّه إذا أراد الله أن ينشئ فينا القدرة على تطوير ذواتنا وتجربتها وتأكيدها في سياق إنشاء البشر علاقات في ما بينهم، فلا بد[12] أن يَسمح بالشر”.[13] فالشر عنصر جوهري في إيجاد معنى حقيقي لواقع إيجابي تنمو فيه الذات، وليس وجودًا أجنبيًا مسقطًا على حقيقة علاقتنا بالبيئة التي تحتضننا.

إنّ عالما يكون فيه الشر هينًا ليّنًا خفيفًا حتى إنّ الإنسان لا يشعر بوكزه ووخزه، ولا يؤثّر في فعله، هو عالم يليق بما يسمّيه (سونبرن): “عالمٌ لُعْبَةٌ” “toy world”، عالم ليس فيه شيء مهمّ حقيقة، عالم ليس بإمكان أحد فيه أن يؤذي أحدًا؛ عالم ليس فيه لإرادة أحد أو عمله أثر حقيقي.[14] إنّه وجود وهمي، تتحوّل فيه ذواتنا ذاتها إلى وهم. إنّه علينا –كما يقول (سونبرن)- ألا نبالغ في التحرّج من “الألم” لصالح “السلامة”، حتى لا نفرغ منظومتنا القِيَميّة من “المعنى“.[15]

إنّ طلب “شر وهميّ” في حياة الإنسان الذي يحمل المواصفات الأرضيّة، هو في الحقيقة طلبٌ لعالمٍ وهمي، وحياة وهميّة!

الحكمة من الألم المؤذي في الشر

لا شكّ أنّ معايشتنا للحظات الألم تدفعنا قسرًا إلى النفرة من هذا الإحساس المزعج والرغبة في الهروب منه بكلّ سبيل ولو كلّفنا ذلك، أحيانًا دون أن ندرك، ألما عاقبًا أشدّ منه.

إنّ معايشة نقرة الألم تدفع بيد التأوّه عن أذهاننا التبصّر في حِكم هائلة لهذا الشعور البغيض إلى نفوسنا، ولعلّ انفصال الإنسان عن تلك اللحظة نافذة إلى ذاك العالم الفسيح. إنّ في طبيعة أوجاعنا نعمًا لو أدركنا فضلها لعلمنا قدرها ونفضنا عن رؤوسنا وهم العبث، ومنها:[16]

أولا: الألم يحفظنا من أخطار مهلكة:

إنّ نظرة علميّة ماديّة في الجهاز العصبي المعقّد الذي لا يزال العلم يسعى لكشف طبيعته وخريطته، تكشف أنّ إحساسنا بالألم ليس مجرّد حدث عبثي هامشي ناتج عن ضغط من الداخل أو الخارج، وإنّما هو جرس إنذار ينبّه الإنسان إلى أمر يدبّ على لحمه أو يجري في دمه. إنّ ضغطة الصدر قد تكون إنذارًا مسبقًا بجلطة، ووجع السن علامة على نخر السوس، وارتخاء المفاصل تنبيه لارتفاع السكر … إنّ استغناءنا عن هذه الآلام يعني إطلاق يد المرض تعبث بدواخلنا دون أن ندري، وإفساحٌ لميدان أجسادنا تخترقه الفيروسات أنّى شاءت.

من الأمثلة المهمة في هذا الشأن حديث العلماء اليوم أنّ فقدان الأصابع بسبب مرض الجذام لا يعود إلى الأثر المباشر لهذا المرض على الأطراف، وإنّما لأنّ المريض يفقد الإحساس في هذه المناطق مما يسمح للأمراض بأن تجد لها مجالًا للتأثير السلبي دون إزعاج من المنظومة العصبيّة التي تزرع الألم لتحصد المعالجة العاجلة.

ثانيا: حتّى يكون الألم فاعلًا لا بد أن يكون أحيانًا فوق قدرتنا الاعتياديّة على التحمّل:

إنّ الإهمال والاستصغار لكثير من عوارض الأبدان طبعٌ فينا، ولو تُركنا إلى ألم بسيط لا يهزّنا ويزعجنا، لغفلنا عن كثير من فواتك الأمراض التي تثخن في البدن وتزهق الروح. وممّا يذكر هنا أيضًا أنّ تزويد مرضى الجذام بآلات منبّهة صوتيّة مكان التفاعل التألّمي المعطّل، كان أدنى أثرًا عمليًا من الإحساس الفعلي بالألم بما يحدثه من معاجلة في تطلّب العلاج.

ثالثا: حتّى يكون الألم فاعلًا لا بدّ أن يكون خارجًا عن سيطرتنا:

إنّ الألم الذي ينغّص علينا نومنا أو يفسد علينا لذّة الأكل، هو رسالة جادة من البدن إلى وعينا حتّى لا نتراخى في الأخذ بأسباب العلاج. إنّ ألما يُكَفُّ نبضُه بضغطة زر كما يُكَفُّ صوت جرس المنبّه، سيلقى غالبًا مصير هذا المنبّه المعكّر لصفو ساعة الصفاء على الفراش الدافئ في ليلة مطيرة قارس بردها. ضغطة حادة على موضع منه تطفئ صخبه. إنّ نفوسنا أبلد من أن تُسلم إلى نظام مترف في إدلال الإنسان عند هجمة المرض.

إنّ دون حلاوة العسل قرصة النحل! أو كما يقول المثل الإنجليزي “no pain, no gain”” (إذا لم [تُصب] بالألم، لم [تَصِر] إلى مَغْنَم).

إننا أيضًا نحتاج إلى درجات متفاوتة من الألم تخاطب وعينا حتى ندرك حقيقة الخطر الذي يتهدّدنا. يقول الدكتور (بول براند) في كتابه “هِبة الألم”: “لقد احتاج الأمر إلى سنوات كثيرة من البحث لجمع كامل الصورة… يَستعمل الألم مجموعة واسعة من نبرات المحاورة. يهمس إلينا في المراحل الأولى: نشعر في اللاوعي بعدم ارتياح بسيط أو حاجة لتغيير الوضعيات على الفراش أو تعديل لطريقة الخطو عند الركض. ثم يتحدّث إلينا الألم بصوت أعلى عند تنامي الخطر: تزداد حساسية اليد بعد فترة من كنس أوراق الشجر، أو تتقرّح الرجل في الحذاء الجديد. ويصرخ الألم عندما يصبح الخطر عظيمًا: يُلزم المرء أن يعرج أو حتى يتوقف تمامًا عن الجري”.[17] إنّ الألم طبيب حكيم، وناصح رفيق، لا يتدرّج بنا إلى الوجع الأحدّ إلّا عندما تكون الحاجة أشدّ إلى الانتباه والتفاعل الواعي مع الأذى الداهم للبدن.

ويفيدنا الدكتور (بول براند) في حديثه عن تجربته كجراح مع مرضى الجذام ببيان كيف يؤول فقدان المرضى للإحساس إلى أن تتلف أطرافهم بالبتر، وربّما يصابون بالعمى لغياب الحافز الفيزيولوجي لأن يرمشوا. وكتب عن اكتشافه المفاجئ: “طَرْفُ العين اللاإرادي هو عجيبة من عجائب الجسم البشري. لا يوجد جهاز استشعار للألم أكثر حساسية من ذاك الذي على سطح العين”.[18] وهي نعمة لا يذكر الواحد فينا أنّ أحدًا تكلّم في فضلها، وعظيم قيمتها، وأثر هذه الحساسية البالغة في حماية الإنسان من بلاء عظيم في خطر العمى!

وما قيمة أن يسعل الواحد منّا؟ هل في ذلك نعمة؟ يقول (براند): “يكمن الخطر للإنسان الذي لا يشعر بالألم، في كل شيء. الحنجرة التي لا تشعر البتة بالدغدغة لا تُستثار لتسعل وتخرج البلغم من الرئة إلى الحنجرة، ولذلك فإنّ من لا يسعل أبدًا مهدد بمرض الالتهاب الرئوي”.[19]

ويعرض د. (براند) خلاصة تجربته مع الألم وموقعه في حياة الإنسان: “لقد تعلّمت أن أميّز بصورة جوهرية بين أمرين: الشخص الذي لا يشعر بالألم هو إنسان توجّهه مهامه في الحياة، أمّا الشخص الذي يتمتع بنظام سليم لاستشعار للألم ، فهو مُوَجَّه ذاتيًا. هذا الذي لا يشعر بالألم من الممكن أن يَعرف بعلامة ما أنّ فعلًا ما هو مؤذٍ، ولكنه إذا أراد -حقيقة- أن يأتي به، فإنه سيفعل ذلك لا محالة. أمّا الذي يستشعر الألم، فإنه سيمتنع عن الفعل لأجل خوفه من الألم مهما كانت رغبته في أن يأتي بالفعل عظيمة، لأنّه يعلم في أعماق نفسه أنّ حفظ نفسه أجلّ من أيّ شيء يريد أن يفعله.”[20]

إنه لا قدرة للإنسان على أن يحيا معافى، بلا طبيعة التألّم، ولا معنى للألم بدون طبيعة الإزعاج فيه؛ إذ إنّه بنقره المكدّر لراحتنا يُلزمنا أن نرهف السمع إلى رسالة التحذير، ونتحرّك لدفع الأذى عن أبداننا.

  1. Van Inwagen, “The Problem of Evil” in The Oxford Handbook of Philosophy of Religion, W. Wainwright, ed. Oxford: Oxford University Press, 2005, p. 215
  2. Bruce Alva Little, A Creation-Order Theodicy: God And Gratuitous Evil (Lanham, MD.: University Press of America, 2005), pp.163-164
  3. يشير إلى أن الله ينادَى عند النصارى “بالأب” (وهو أحد أقانيم الثالوث!).
  4. س. إس. لويس، الله – الإنسان والألم، تعريب: هدى بهيج (القاهرة: سباركل، 2014م)، ص44.
  5. محمد إسماعيل الجاويش، من عجائب الخلق في جسم الإنسان، القاهرة: الدار الذهبية للطبع والنشر والتوزيع، 1425هـ/2005م، ص49
  6. Paul Brand and Philip Yancey, The Gift of Pain, p.251
  7. فيليب يانسي، أين الله في وقت الألم، ص 43.
  8. Peter Vardy, The Puzzle of Evil (London: Fount, 1992), p.64
  9. هارون يحيى، الجهاز المناعي، نسخة إلكترونية، ص12-13
  10. المصدر السابق، ص20
  11. John Baron, The Life of Edward Jenner (London: Henry Colburn, 1888), 2/295.
  12. لست أرضى العبارات التي تلزم الله سبحانه بأمور –كما هو فعل المعتزلة في تاريخنا الإسلامي- إلا أنّه من الممكن تقويم العبارة بالقول: “إنّ حياتنا تحتاج هذا الشر لتحقيق هذه الغاية من وجودنا.”
  13. Daniel Howard-Snyder, “God, evil, and suffering,” in M. J. Murray, ed. Reason for the Hope Within, p.98-99
  14. Peter Vardy, The Puzzle of Evil, p.64
  15. Richard Swinburne, Providence and the Problem of Evil (Oxford: Clarendon Press, 1998), pp.171-172
  16. Norman L Geisler, If God, Why Evil, pp.52-55
  17. Paul Brand and Philip Yancey, The Gift of Pain, p.176.
  18. Ibid., p.145
  19. Ibid., p.185.
  20. Ibid., 195

© جميع الحقوق محفوظة لمبادرة البحث العلمي لمقارنة الأديان