مشكلة الشر الأخلاقي

-ب-

يحتجّ المعترض بوجود الشرّ على إنكار وجود الله، بقوله: أنتم تقررون أنّ الله لا يفعل الشرّ كما سبق أن بيّنتموه، لكنّه مع ذلك سمح بوجوده؛ إذ لا يكون شيء في ملكه رغمًا عنه! فكيف نوفّق بين علم الله وعدله وقدرته من جهة وسماحه للشرّ النابع من أفعال الناس بالوجود في العالم؟

التوفيق بين كمال الله سبحانه وسماحه للشرّ بالوجود يسير إذا بدأنا النظر بالقول إنّ الله لا يفعل شيئًا إلا بحكمة يحمد عليها وغاية هي أولى بالإرادة من غيرها، فلا تخرج أفعاله عن الحكمة والمصلحة والإحسان والرحمة والعدل والصواب، كما لا تخرج أقواله عن العدل والصدق.[1]

قال نبيّ الله (هود) عليه السلام: {إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللّهِ رَبِّي وَرَبِّكُم مَّا مِن دَآبَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيم}[2] فوصفُ اللهِ بأنّه على صراط مستقيم دال أنّه لا يفعل الشر المحض المجرّد عن الحكمة، ولا يأتي العبث الذي لا يقود إلى غاية مستحسنة.

إذا علمنا ملازمة فعل الله للحكمة، فأين إذن يقع الشر الأخلاقي من المخطط الإلهي في الأرض؟

الشر نتيجة لمنحة الإرادة الحرة

الشر الأخلاقي هو أفعال أو تروك السوء التي يأتيها الإنسان بإرادته الحرّة، كالكذب، والسرقة، والقتل.

قال تعالى: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُون}[3]. قال (الطبري): “ظهرت الـمعاصي فـي برّ الأرض وبحرها بكسب أيدي الناس ما نهاهم الله عنه”[4]، فإنّ ما يتلبّس به الناس من شرور قبيحة ورذائل شنيعة يسمّيها الفلاسفة “بالشر الأخلاقي” “moral evil”، هي نتاج فعل الناس بمحض إرادتهم الفاسدة.

هذه الإرادة المنطلقة إلى “الشر” كما “الخير”، هي إرادة حرّة، ضمن حدود القدرة الإنسانيّة التي أنشأها الله سبحانه في البشر. فالشر هنا استخدام لعطيّة القدرة في غير موضعها وتوجيه للفعل البشري إلى أمر سلبي. وهذا الإنسان المتحرّك في الأرض بالفعل الحر، والذي يصيب ويخطئ في استخدام حريّته، هو الإنسان الذي خلق لهذه الدنيا، ولولا حريّته لما كان إنسانًا دنيويًا. وهذه الإرادة الحرّة هي التي تميّزه عن الجمادات غير المريدة والملائكة غير الحرّة لجبلها على الخير المحض.

يعتبر الفيلسوف الأمريكي (ألفن بلنتنجا) أهم من دافع ويدافع في الغرب عن حجّة “الإرادة الحرّة” “Free Will” في نقض دعوى لامنطقية الشر في عالم أنشأه إله حكيم ورحيم. وهو يرى أنّ ملَكة حريّة الإرادة عند الإنسان مبرّر معقول لنفي عدم تساوق وجود الإله الكامل مع وجود الشر؛ فإنّ الشر الأخلاقي هو نتيحة لممارسة الإنسان الفعل النابع من إرادته الحرّة. فالشر هنا ضريبة لازمة ومنطقيّة ومرضيّة لنعمة الإرادة الحرّة؛ وبذلك ينتقض الاعتراض على عدل الله أنّه يسمح للشر بالوجود. إنّه لا معنى عقلًا وواقعًا أن نتحدّث عن كائن حر يملك إرادة الاختيار ضمن الطبيعة البشريّة المحضة، ثم هو لا يفعل إلّا الخير.[5]

يطلق (بلنتنجا) دعواه إلى مدى أبعد بالتأكيد على أنّ “حقيقة أنّ مخلوقات حرّة تزلّ أحيانًا، لا تحسب ضد وجود قدرة الله الكليّة ولا ضد خيريّته؛ لأنّه ليس بالإمكان أن يُمنع وقوع الشر الأخلاقي إلّا بمنع إمكانية الخير الأخلاقي”.[6] أي إنّنا أمام استحالة عقليّة محضة، ملخصها أنّه يمتنع عقلًا الجمع بين وجود إرادة حرّة تفعل ضمن حريّتها –كما هي في المفهوم الدنيوي البشري-، وعجز هذه الإرادة عن أن تفعل غير الشر. كما أنّ منع هذا الشر يعني إلغاء حريّة الإنسان، وتحوّله إلى كائن موجّه غير مريد، وهو ما يؤول إلى منع تسمية فعله الميكانيكي الصواب، خيرًا؛ لأنّه ليس فعلًا اختياريًا.

يوسّع الفيلسوف (مايكل بترسون) (Michael Peterson) دلالات الحاجة إلى الفعل الحر، بقوله إنّه كلّما كانت الاختيارات أمام الإنسان أوسع، وكانت إرادته قادرة على انتقاء أحدها، كلّما كان الإنسان أقدر على خير أكبر وشر أبلغ، وكلّما ضُيّق على الإنسان في إرادة الفعل عنده؛ كلّما تقلّصت قدرته على فعل كلّ من الخير والشر.[7] فالشرّ في أعظم صوره هو الوجه الآخر للخير في أعظم صوره، وكلاهما تعبير عن مِنْحَة حريّة الإرادة التي هي أبرز عنصر في كينونته.

بإمكاننا الآن أن نعيد صياغة المعادلة:

  1. خلق الله سبحانه كلّ أمر حسنٍ.
  2. من الأشياء الحسنة التي خلقها الله، الإرادة الحرّة.
  3. الإرادة الحرّة سبب لإمكانيّة وقوع الشرّ.
  4. = إذن، المخلوق الذي خلقه الله خَيِّرًا من الممكن أن يفعل الشرّ.[8]

إنّ هذه العطيّة الثمينة للإنسان لا بدّ أن تُوصَل بحقيقة الوجود الامتحاني للإنسان على الأرض لندرك أنّها ليست عطيّة مجانيّة، وأنّ ما ينتج عنها من أثر سلبي إنّما هو جزء جوهري في هذا الامتحان. يقول (هوبرت بوكس) (Hubert Box): “يبدو أنّ السماح بوجود الشرّ الأخلاقي، هو أمر قابل للتفسير عندما يُعترف أنّ حياة الإنسان، امتحانٌ. […] بما أنّ الله قد جعل الإنسان ينال عاقبة فعله، فإنّ تلك النعمة ينبغي أن تمنح له كجزاء لجهده، فليس هناك إذن مفر من أن يكون للإنسان إمكانية اختيار الخطأ. فقط عندما نكون معرّضين لإمكانية الهزيمة، نكون مستحقين لجزاء النصر“.[9]

هل يُلام الربّ على الشر الأخلاقي

قد يعنّ للمعترض أن يرى في الشر الأخلاقي حجّة أخلاقية ضد الله سبحانه، بالقول إنّ الإنسان هو نفسه صنعة الله، ولذلك فكلّ أفعاله لا بدّ أن تنسب إلى خالقه.

يردّ القرآن على هذه الشبهة بقوله تعالى: {لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيم ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِين إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَات}.[10]

لقد خلق الله –سبحانه-البشر على أصل الاستقامة والمعرفة بحقيقة الخير والشر، ثم دفعهم بعدله إلى هذه الحياة ليعيشوا محنة اختبار العقل والقلب والجوارح، فالإنسان مخلوق على صورة تهيئه لإدراك الأمور “إدراكًا مستقيمًا مما يتأدّى من المحسوسات الصادقة، أي الموافقة لحقائق الأشياء الثابتة في نفس الأمر، بسبب سلامة ما تؤديه الحواس السليمة، وما يتلقاه العقل السليم من ذلك ويتصرف فيه بالتحليل والتركيب المنتظمين، بحيث لو جانبتْه التلقينات الضالة والعوائد الذميمة والطبائع المنحرفة والتفكير الضار، أو لو تسلطت عليه تسلطًا ما فاستطاع دفاعها عنه بدلائل الحق والصواب، لجَرى في جميع شؤونه على الاستقامة، ولما صدرت منه إلا الأفعال الصالحة، ولكنه قد يتعثر في ذيول اغتراره ويُرخي العنان لهواه وشهوته، فترمي به في الضلالات، أو يتغلب عليه دعاة الضلال بعامل التخويف أو الإِطماع فيتابعهم طوعًا أو كرهًا، ثم لا يلبث أن يستحكم فيه ما تقلده فيعتاده وينسى الصواب والرشد.”[11]

إنّ صبغة الفطرة التي خُلق عليها الإنسان هي التي تمنعه من توجيه إرادته إلى الشر وأسبابه، وهي صنعة الله سبحانه، أمّا يد الفساد التي تنشب أظفارها في جمال الذات البشرية فتشوّه رقيق قسماتها، فهي غوائل خارجية لا تنجح في إفساد الإرادة إلا حين يخفت صوت الفطرة الربانية.

  1. ابن القيم، شفاء العليل، ص407-408
  2. [هود:56]
  3. [الروم:41]
  4. الطبري، جامع البيان في تأويل القرآن، تحقيق: أحمد شاكر، بيروت: مؤسسة الرسالة، 2000م، 20/107
  5. Alvin Plantinga, God, Freedom, and Evil (Grand Rapids: Eerdmans, 1977).
  6. Alvin Plantinga, The Nature of Necessity (Oxford: Clarendon Press, 1974), p.167
  7. Michael Peterson, “The Problem of Evil: The Case against God’s Existence,” in Michael L Peterson; et al., Reason and Religious Belief: an introduction to the philosophy of religion (New York: Oxford University Press, 1998), pp. 126-127.
  8. Norman L Geisler, If God, Why Evil?, p.29
  9. Hubert S. Box, The Problem of Evil (London: The Faith Press, 1934), p.56
  10. [التين:4-6]
  11. محمد الطاهر ابن عاشور، التحرير والتنوير (تونس: الدار التونسية للنشر، 1984م)، 30/425.

© جميع الحقوق محفوظة لمبادرة البحث العلمي لمقارنة الأديان