مشكلة الشر المجاني

-ث-

لقد أصبح جلّ الناس في الغرب –حيث لمشكلة الشر وزنها التاريخي واللاهوتي- على قناعة أنّه لا تعارض بين وجود إله ووجود الشر،[1] ولذلك عدَّل كثير من أعلام الدعوة الإلحادية طرحهم من مجرّد الاعتراض بوجود الشر إلى شبهة عبثيّة الشر التي يعبّرون عنها بـ”مجانيّة الألم” “gratuitous suffering”، أي الأذى الذي لا يخدم هدفًا.

ما يُستخلص من هذا التقهقر هو أنّ وجود الشر في ذاته ليس مشكلًا؛ فهو لا يتعارض مع علم الله وقدرته ورحمته، وإنّما المعارض لكمال الله –بزعمهم- هو الشر المجاني. وقد حمل الفيلسوف الملحد (ويليام رو) في الغرب لواء المنافحة عن حجيّة الشرّ المجاني لنفي وجود الخالق. وقد صدرت ردود عديدة في نقض مذهبه، وأبانت عن تهافت دعواه إبستيمولوجيًا من أكثر من وجه. [2]

يمثّل “الشرّ المجاني”، أو “الشر الذي لا هدف من ورائه”، وغير ذلك من التسميات، تعبيرًا عن أقصى ما بلغه فلاسفة الإلحاد في الانتصار لعالَم بلا إله رحيم. ظاهر هذا الاعتراض البساطة وباطنه من قِبَله التشعّب والغموض، إذ هو مرتبط أساسًا برفع الحُجُب عن كلّ ظواهر الكون وبواطنه، كما أنّه يستبطن تصورًا لعالم شفاف، دون أن تُثبت شفافيته. فما هي هذه الشبهة؟ وما مدى معقوليتها؟ وما صواب تضميناتها؟

“الشرّ المجانيّ” في تعريف (ويليام رو) هو الشرّ الذي لا يقود إلى خير يوازيه أو يربو عليه. وقد ساق له مثالين (صارا بذلك شهيرين). المثال الأول: الموت البطيء والمؤلم لغزالة في حريق غابة، والمثال الثاني –وقد استفاده من (برتراند راسل) – هو اغتصاب طفلة سنّها خمس سنوات وقتْلها على يد عشيق أمّها.

وهو يعرضه على الصيغة التالية:

  1. توجد حالات معاناة شديدة بإمكان الإله القدير العليم أن يمنعها دون تفويت خير أكبر منها أو السماح لشر يوازيها أو يربو عليها.
  2. على الإله العليم، كامل الخيريّة أن يمنع وقوع كلّ معاناة شديدة إلّا أن يؤدّي المنع إلى تفويت خير أعظم من هذه المعاناة أو السماح لشر يوازيها أو يربو عليها.
  3. = إذن، لا يوجد إله قدير، عليم، كامل الخيريّة.[3]

المقدمة الأولى لـ(رو) هي التي يجادل الإلهيون بشدة في صوابها،[4] ويرون أنّها نقطة ضعف الاستدلال بالشر المجاني، فهي تقوم على أصل “عدم العلم”، بما يفترض أنّ كلّ ما لا يعلمه الإنسان هو في حكم العدم. وهذا مذهب من ينفي الإله المتعالي (transcendent) لصالح البشر المتألّه الذي لا يعزب عن علمه شيء في الأرض. إنّ دعوى (رو) لا تفترض جهل الإنسان ولا دقّة ما يخفى على علمه أو تعقيده الذي يتجاوز إدراكه. إنّها في الحقيقة تخلط بين “الشر الغامض” (inscrutable evil) الذي لا يدرك الإنسان الحكمة من ورائه و”الشر المجاني” (gratuitous evil) المقطوع أنّه بلا حكمة.

يجيب المؤمنون بالله عامة على مشكلة الشر بحل من ثلاثة:

  • الإجابة تفصيلًا على السؤال: الحل الثيوديسي، وهو المتمثّل في بيان كلّ أسباب وجود الشر أو جلّها. وقد عرضنا هذا الحل عند مناقشة الشرين، الأخلاقي والطبيعي.
  • بيان سبب العجز عن الإجابة على السؤال كليًا أو جزئيًا: القصور المعرفي للإنسان.
  • تعديل السؤال: “تحويلة مور”، وسنعرض لها لاحقًا.[5]

ولنا على هذه الصيغة (الحلول الثلاثة السابقة) تعليقان:

أولًا، نحن لا نرى أنّ هذه الإجابات تتنافى؛ فإن قبلنا واحدة رفضنا الجوابين الآخرين، وإنما نرى أنها تتكامل، فمثلًا نحن نرى قصور العقل في فهمه لدقائق العالم، لكننا نعتقد مع ذلك أننا إن قَلَبنا السؤال على الملحد، وتحدَيناه أن يجزم أن شرًا بعينه لا يمكن أن يكون سبب وجوده حكمة من الحكم التي أوردناه، فلن يحر جوابًا. وهو ما يعني أنّنا حتى لو تنزلنا في الجواب، وقلنا بقدرة العقل على إصابة الحكمة التي وراء كل شر، فلن يتمكن الملحد من إقامة اعتراضه.

وثانيا، نحن نرى أن نرتب مباحث الحديث في موضوع الشر المجاني بصورة واضحة؛ لأننا بذلك نحيط بأوجه الخلل في الاعتراض الإلحادي، مع استيعاب –في نفس الآن- الصيغة التقليدية للرد. وهذه الاعتراضات هي:

  1. السؤال ملغوم في داخله بأسئلة محرجة للملحد.
  2. يقوم الاعتراض على التسليم بيقينية الشر المجاني، وقد كان عليه أن يجعله موضع استشكال ونظر.
  3. الإشكال يفترض كمال العقل الإنساني وبساطة الكون، وبالتالي قدرة الإنسان على كشف حقائق كل موجود.
  4. ينفي الاعتراض الإلحادي الحكمة من عجز العقل عن سبر كلّ حقيقة.
  5. يرى الاعتراض الإلحادي أنّ سنن الكون المادية التي ينجم عنها كثير من “الشر المجاني” أمر عارضي، وأنّ من الحكمة الاستغناء عنها.
  6. يرى الاعتراض الإلحادي أن ثبوت مجانية الشر مرهون بحقيقته في الحياة الدنيا دون افتراض تتمة لقصة الوجود في الآخرة.
  7. يتجاهل الاعتراض الإلحادي مشكلة الخير المجاني.

***

ما يستشكل على الاستشكال

يفترض الملحد أنّ مشكلة الشر المجاني بدهية في تعارضها مع رحمة الله؛ إذ كيف يسمح الإله الرحيم بهذه الشرور الكثيرة أن تسكن أرضنا؟ وإذا كانت هذه الشرور التي تبدو مجانية، تخفي وراءها حكمًا؛ فلِمَ لا يخبرنا الله عنها، إلّا أن تكون بلا حكمة؟! والإلحاد لم ينصف الحق في هذين التصوّرين.

تركيم الشر وخديعة النظر

يقوم المشكّكون، في مسلك ساذج للتهييج العاطفي، بتجميع جميع الشرور في العالم باعتبارها كتلة شر واحدة، حتى إنّ عددها يبدو للوهلة الأولى هائلًا مفزعًا؛ للإيحاء أنّ الشرور في العالم بالغة الكثرة إلى درجة بالغة المعاندة لدعوى الحكمة والرحمة في الخلق. وهذا منطق متكلّف لأنّ الصواب أن نتحدّث عن الشر الذي يصيب الفرد الواحد باعتباره محنة للإنسان كفردٍ من جنس، أمّا جمع الشرور جميعًا فإنّه يخرج الدعوى من المعقولية إلى المبالغة والعاطفية. وكما قيل فإنّ كلّ شرور العالم لا تزيد على ما يعانيه كائن واحد يعاني أعظم البلاء؛ فإنه لا يوجد فرد يعاني كلّ شرور الدنيا. وإذا صحّت الحكمة في معاناة أشدّ الناس بلاءً، صحّت في غيره من باب أولى.

كما أنّ هذا المنطق يعتبر خاطئًا حسابيًا؛ لأنّ الأصل في هذا الكون الخير والانتظام لا الشر والفوضى؛ فإنّ عدد الأصحاء الذين لا يعانون آلامًا تتجاوز المعدل المتوسط لتحمّل الأذى، أعظم بكثير ممن يعانون الأمراض التي تحرم الإنسان لذّة الحياة، والكوارث الطبيعية الكبيرة استثناء في الوجود لا أصل… ولو أنّنا حسبنا الأمر بالنسب المئويّة، فلا ريب أنّ نصيب الأذى سيكون بالغ الضعف.

ثم إنّ أصل دعوى “الشرّ المجاني” هو النظر إلى كلّ شر كوحدة منفصلة، في حين أنّه لو نُظر إلى هذه الشرور كأجزاء من صورة العالم في كليّته، فستتضح حِكم لا تدرك إذا عزلنا كلّ جزء على حدة. فموت الحشرات مثلًا، بدونه تصبح حياة الإنسان مستحيلة في سنة واحدة، وافتراس الحيوانات بعضها البعض تجديد للدورة الطبيعيّة…إنّ الوجود البشري في كليّته –كما قيل- أشبه بلوحة فسيفساء تحمل صورة جميلة رائقة، لكنّ إحساسنا بهذا الجمال يزول إذا نظرنا إلى كلّ قطعة من هذه اللوحة على حدة، عندها لا تبصر العين غير أحجار مكسّرة أو زجاج غير مهذب الأطراف لا يحمل من معنى الجمال شيئًا، وكذلك هي الحياة أو بعضها إن عزلنا لحظاتها عن دفقها.

لماذا لا يخبرنا الله بسبب كلّ شر؟

السؤال عن عدم إخبار الربّ لنا بالحكمة من كلّ شرّ يتكرر كثيرًا على ألسنة المتشككين، وهو تعبير عن حاجة نفسيّة متّقدة وليس ثمرة ضرورة عقليّة. إنّه تعبير عن رغبة المبتلى في مسكّن لألمه، ورجاء بعد وجعه، وفرج بعد كربه .. وليس العقل مضطرًا إلى طرحه؛ بل العقل يقضي أنّه سؤال بلا معنى، لسببين:

أولا: قد أخبرنا الله أنّ الشر فتنةٌ واختبار في رحلة الحياة، على وجه العموم، فليس في الحياة شيء من العبث القدري. كما أنّ مما يظنه المرء شرًا هو خير له في الدنيا.

ثانيا: عند التفصيل، يفقد الشر خيريته إذا كان كلّ شر ينزل بالإنسان تنزل معه وثيقة تشرح سببه وترفع غموضه وتبيّن مآله. على هذه الصورة، يفقد الشر الكثير من الحكمة التي وراءه، لتتحول الحياة إلى دبيب ميكانيكيّ ممل، يعرف المرء في أوله مآله، فلا مقام أو معنى فيه للاختبار الإلهي الذي يعقبه جزاء الجنة أو عذاب النار. “وهذا هو المعنى في الابتلاء… فإنّ الكلّ لو كان ظاهرًا جليًا بطل معنى الامتحان ونيل الثواب بالجهد في الطلب. ولو كان الكل مشكلًا خفيًا لم يُعلم شيء حقيقة، فجعل بعض [الأمور] جليًا ظاهرًا وبعضها خفيًا ليُتوسّل بالجليّ إلى معرفة الخفي بالاجتهاد وإتعاب النفس وإعمال الفكر، فيتبيّن المجدّ من المقصّر والمجتهد من المفرّط، فيكون ثوابهم بقدر اجتهادهم ومراتبهم على قدر علومهم… [كما أنه] لو لم يبتل العقل الذي هو أشرف الخلائق لاستمر العالِم في أبّهة العلم على المرودة، وما استأنس إلى التذلّل لعزّ العبودة. والحكيم إذا صنّف كتابًا ربما أجمل فيه إجمالًا وأبهم فيما أفهم منه إشكالًا ليكون موضع جثوة التلميذ لأستاذه انقيادًا فلا يحرم باستغنائه برأيه هداية منه وإرشادًا.”[6]

***

تحويلة مور!

تنطلق شبهة الشر المجاني من مُسلَّمة وجود الشر المجاني لنفي وجود الله، ويقول المؤمنون بالله -ومنهم الفيلسوفة (جان ماري ترو)- إنكم تبتدئون الجدل ببدهية موهومة تحتاج إلى نظر؛ فإنّ مقتضى الانضباط العقلي أن نقول:”ليس بإمكاننا تفسير حالات تبدو ظاهريًا كشر مجانيّ، حتّى نعلم إن كانت مجانيّة أم لا. وليس بإمكاننا أبدًا أن نقطع بهذا الأمر إلّا إذا كنّا متأكّدين من الوضع الأنطولوجي لله. بما أنّه ليس بإمكاننا نفي أو إثبات وجود الله [عبر حجّة الشر المجاني]؛ فعلينا أن نثبت أولًا وجوده أو عدمه، وحتّى يتمّ ذلك؛ ليس بإمكاننا أن نعرف إن كانت هناك حالات شر مجانيّ”.[7] ويسمى هذا الاستدلال أحيانًا باسم “تحويلة ج. إ. مور” “G. E. Moore shift” على اسم الفيلسوف الإنجليزي (مور) الذي نبّه لهذه الحجة.[8]

وقد عبّر اللاهوتي والفيلسوف (ف. ج. فتزباترك) (F. J. Fitzpatrick) عن صميم هذا المعنى أثناء نقاشه الأذى الذي يطال الحيوانات، بقوله: “إذا استطاع المؤمن بإله أن يستظهر حجّة صائبة لوجود الله فسيكون معذورًا في قوله إنّه لا بد أنّ هناك تفسيرات لـتألّم الحيوان بما ينزّه بصورة تامة العناية الإلهية عن الظلم، رغم الغياب الظاهري لهذا التفسير”.[9]

وبعبارة أخرى، نسأل: هل يعجز الإله أن يجعل وراء كلّ ما يبدو شرًا مجانيًا، حكمة وتعويضًا؟ إن قال الملحد: إذا افترضنا وجود إله، فإنّ العقل لا يمنع من وجود هذه الحكمة وهذا التعويض للمبتلى؛ سقط اعتراضه، وإذا قال إنّ هذا الأمر ممتنع عقلًا؛ طولب بالدليل العقلي، ولا دليل؛ واستبان عندها أنّه لا يعرف معنى كمال الألوهيّة. وهذا إلزام قوي قاطع لدعوى الملحد، بل هو من أقوى الردود وأعظمها؛ إذ هو يقلب “معادلة” الملحد من:

  1. وجودُ شرّ مجاني هو أمر يقينيّ.
  2. وجود إله هو مجرّد فرضية بحاجة إلى بحث.
  3. وجود الشرّ المجاني حجّة على نفي وجود إله؛ لأنه لا يمكن أن يوجد إله قدير وعليم ورحيم ويوجد في خلقه شرّ مجاني.
  4. = إذن لا وجود لإله!

لتصبح المعادلة المعقولة هي:

  1. الأدلّة المادية في الكون وفي التجريد العقلي قاطعة بوجود إله.
  2. وجود الشرّ المجاني مجرّد فرضية بحاجة إلى بحث.
  3. يقيننا العقلي أنّ هناك إلهًا قديرًا وعليمًا ورحيمًا يقتضي أن نلزم عقولنا بالقول إنّ هذا الإله قادر على أن يخفي وراء ما يبدو شرًا مجانيًا حِكَمًا وخيرًا.
  4. = إذن لا وجود لشرّ مجانيّ!

إنّ الصورة المنطقيّة للتفكير التصاعدي لا بدّ أن تبدأ بيقين ثابت؛ حتى لا يتيه المفكّر في فرضيات الممكنات. ولذلك لا يصحّ أن ننطلق من افتراض وجود شر مجانيّ لأنّ القطع بمجانيّته هو مجرّد احتمال عقلي لا يمكن القطع به في مبتدأ النظر، أمّا القول بوجود خالق أخرج المادة من العدم إلى الوجود وصوّر الكون فأحسن تصويره، فهو حقيقة ماديّة يشهد لها الحسّ والمعادلات العقليّة.

إنّ مسلكنا في ترتيب الأفكار لا يلغي الحقائق -على خلاف المنطق الأوّل الذي ينفي ما يقطع به العقل من وجود إله-، وإنّما هو يثبت المدركات اليقينيّة الكبرى، ثم يقيم على أعمدتها فهمًا مدركًا لغوامض الكون.

***

أوهام كمال العقل البشري

يقيم الإلحاد ردّه لعقيدة الإيمان بالخالق القدير الرحيم على أنّ وجود القدرة أو الرحمة عند هذا الإله يتعارض مع مدركات العقل، دون أن يخبرنا فلاسفة الإلحاد عن قدرة العقل وفاعليته، وهل له أفق ينتهي عنده نظره. إنّ الظنّ أنّ العقل لا يرى حكمة في شرور العالم، يلزم منه أنّ العقل قد أحاط بكلّ شيء علمًا، علنه وسرّه، جلبته وحسيسه، ولكن هل يسلّم العقل الواعي لنفسه بهذا الأمر؟

حدود العقل البشري

أهم تضمينات اعتراض (ويليام رو)، افتراضه أنّ الإنسان يملك إدراكيًا معرفةَ كلَّ سبب ممكن لوجود الشرّ إن وُجد إله،[10] ولكنّ ذلك يخالف بدهيةً معرفيّةً يسلّم لها علماء الإبستمولوجيا، وهي أنّ الملكات الإدراكية والخيالية للإنسان محدودة، فسواء قلنا بوجود الله أو جحدنا ذلك، أو قلنا بوجود الحكمة الكليّة أو اعتنقنا العشوائية العابثة، فقدراتنا العقلية أدنى من أن تتجاوز ما توحيه إلينا الظواهر والجزئيات البارزة.

وإذا نحن نظرنا في قضيّة الشر برويّة فسنجد أنّ البت في جميع جزئياتها محال، لأنّ الإنسان لا يحيط بواقع الشر من جميع جوانبه، ولا صلته بما قبله وما بعده؛ ولذلك فإنّ قضيّة الشر وعلاقته بالحكمة الإلهية لا يمكن أن تُتناول إلّا ضمن كليّات عامة فقط.

وإذا أردنا بيان القصور العقلي عند تناول المسألة الثيوديسيّة عينًا، فإنّنا نقول مع الفيلسوف (ويليام ألستون) (William Alston)، إنّ العقل أَسِيرُ ستة معوّقات:

  1. قصور المعلومات (Lack of data): وهي تبدأ من أسرار القلب البشري إلى عناصر الكون وتكوينه، وتشمل الماضي السحيق والمستقبل الآتي.
  2. تعقيد أكبر من طاقة إدراكنا (Complexity greater than we can handle): الموضوع متداخل العناصر على صورة أعظم من طاقتنا على التفكيك والإدراك.
  3. صعوبة تحديد ما هو ممكن أو ضروري ميتافيزيقيًا (Difficulty of determining what is metaphysically possible or necessary): عالم الماورائيات هو عالم يقع خارج دائرة إدراك التفكير البشري ونحن لا نعرف عنه غير القليل مما تدلّ عليه قرائن الوجود المادي، ولا يبقى بعد المعارف المتلقاة من الوحي مصدر آخر لفهم هذا الوجود المتنائي عن إدراكنا.
  4. جهلنا بالقائمة التامة للممكنات (Ignorance of the full range of possibilities): تواجهنا هذه المشكلة عندما نبحث عن نتيجة سلبيّة (للنفي لا للإثبات)؛ فنحن مطالبون هنا باستحضار جميع الممكنات لاستنباط نتيجة من نفيها. وهي مسألة هامة جدًا في حديثنا عن الحكمة الإلهية من فعل الله سبحانه في خلقه مما يبدو ظاهرًا كشر محض.
  5. جهلنا بالقائمة التامة للقيم (Ignorance of the full range of values): استخلاص دلالة إيجابية من الفعل البشري أو الحدث الكوني لنفي أنه شر أو النظر إليه سلبًا على أنّه شر يقتضي إدراكًا لجميع القيم الإيجابيّة أو السلبيّة التي من الممكن أن تتصل بهذا الفعل.
  6. حدود ملكاتنا في شأن تقديم أحكام قِيَميّة كاملة (Limits to our capacity to make well considered value judgments): تظهر أساسًا في صعوبة إصدار أحكام مقارنة بشأن قضايا كبرى معقّدة. [11]

ولذلك أكّد (ألستون) أنّ “الأحكام المطلوبة من الدليل الاستقرائي للشرّ ذات طابع طموحٍ خاص جدًّا وهائل من حيث المبدأ، وليست ملكاتنا المعرفيّة التي تفيدنا عادة بصورة جيّدة في الأعمال الأضيق، مؤهلة لذلك”.[12] وهذا هو عين التواضع المعرفي المطلوب من الإنسان إذا عَرض لقضايا بهذا العمق والتعقيد. إنّها حقيقة موضوعيّة، سواء قلنا بوجود الخالق أو أنكرنا ذلك. إنّ العقل الإنساني محدود الأدوات والغايات، ومن الجهل بحقيقته أن يُزعم له الكمال فيُنفخ فيه حتى يكون في حجم الكون أو يُطوى الكون كلّه ثم يحشر في بؤرة الإدراك فيه.

لا شكّ أنّ معارفنا المعاصرة اليوم تؤهّلنا إلى درجة أعلى من التواضع بعدما استبان حجم الترابط المعقّد لهذا العالم. وهو ما أكّدته ” نظرية الشواش”[13] “Chaos Theory”، خاصة في مثالها الطريف عن “تأثير الفراشة” “The butterfly effect ” فإنّ “رفرفةُ جناحِ فراشة في ريو دي جانيرو [في البرازيل]، تتضخّم بسبب التيّارات الجويّة، قد تسبّب إعصارًا في التكساس بعد أسبوعين” ” The fluttering of a butterfly’s wing in Rio de Janeiro, amplified by atmospheric currents, could cause a tornado in Texas two weeks later.”، كما هي عبارة ومثال مؤسّس[14] هذه النظريّة العلميّة التي تؤكّد الترابط الشديد بين أحداث الكون، وأنّ الحدث الكوني الصغير مهما ضؤل، وبدا بعيدًا عن أحداث أخرى مكانًا وزمانًا، فإنّه من الممكن أن يكون بينه وبين حدث كوني هائل ترابطٌ سببيٌ حقيقيٌ وإن كان بطيئًا في تفاعله.

وتقتضي ديناميكية الشواش ثلاثة أمور تتعلّق بصورة عميقة بمسألة الشر، أوّلها الترابط الهائل بين أفراد الكون وأحداثه، وهو ما يدلّ على ارتباط ما يحصل في الكون من تغيّرات بما يتتالى من أحداث، وثانيها أنّ عظيم الأحداث وبسيطها وعرضيها سواء في تشكيل أحداث المستقبل، وثالثها أنّ تشعّب الأحداث يمنعنا أن نحسم نظرتنا التنبؤيّة.[15] والشر بذلك ليس نتاج تطوّر خَطيّ (linear progression) وإنّما هو حصيلة شبكة بالغة التعقيد والتداخل، لا تعرف مقدماته لكثرتها وتنوّعها وتشابكها، تصنعه الأحداث الجليلة والأمور الحقيرة. وهو ما يضطرّنا إلى الإقرار بخفاء الجزء الأكبر من السلسلة السببية لما يطرأ من شر في وجودنا الكوني.

إنّ ظنّ المشكّك أو المتشكّك أنّه بإمكان عقله الضعيف أن يستوعب جميع المعادلات الخلُقيّة لهذه الحياة، لظنّ ساذج غرير؛ لأنّه يتصادم مع حقيقتين، واحدة كونية وأخرى وجوديّة:

أمّا الكونيّة فهي أنّ عقل الإنسان عاجز فعلًا عن استيعاب جلّ المعادلات الماديّة الكونيّة التي تحتوي حياته، فهو لا يعرف عن قوانين الوجود إلّا قليلها، كما أنّ الكثير من هذه المعادلات لا يستوعبها إلّا خاصة العلماء، فكيف يظنّ أنّه بإمكانه أن يدرك مفهوم العدل الإلهي في تفصيله المعقّد والخفي المتداخل، وهو العاجز عن إدراك قوانين المادة البسيطة في حضورها وعملها؟!

ومن العِبر في هذا الباب زعم التطوّريين أنّ في بدن الإنسان مائة وثمانين عضوًا بلا وظيفة، وأنّ هذه الأعضاء اللاوظيفية (vestigial) هي من بقايا المراحل التطوّرية السابقة للإنسان. وقد استمرّ هذا العدد في التناقص يومًا بعد اليوم على مدى القرن الماضي حتى قيل إنّه قد وُجد لجميعها دور وظيفي في النشاط البدني.[16]

أمّا من الناحية الوجوديّة؛ فالإنسان مختبر في امتحان، وهو جزء من هذا الامتحان؛ وهو مع ذلك يطلب من ممتحنه أن يهبه جميع الأجوبة التي بجوابها يفقد الامتحان طبيعته الاختباريّة الابتلائية!

قد يقول المخالف إنّك ترمي غير المعقول في منطقة الظلام التي تُسمّيها منطقة “القصور العقلي”؛ وهي شمّاعة من الممكن أن يعلّق عليها كلّ إنسان ما يخالف العقل.

والجواب هو أنّنا ننكر أن يكون في الجمع بين الإيمان بالله سبحانه والشرّ مخالفة للعقل، ونحن هنا نميّز بين محالات العقول ومحارات العقول؛ فعجز العقل وحيرته في فهم أمر ما لعجز أصيل فيه، غيرُ نسبة الأمر إلى المحال والتناقض؛ فلا يَلزم إذن من العجز عن الإحاطة بواقع الشر القول إنّه بلا غاية ولا حكمة، ولا يلزم العقلَ بالإيمان بالربّ جلّ وعلا والشر، محالٌ عقلي، بل نقول إنّ وجود الشرّ في عالم الامتحان هو عين الحكمة.

ويوضح (فتزباترك) سبب الخطأ الذي وقع فيه المتخوّضون في مسألة وجود الشر غير المبرّر للقول بنفي وجود الخالق، بقوله: “على المرء أن يُظهر من خلال مقارنة كلّ أنواع الشر الموجودة ودرجاتها وطريقة توزّعها في العالم، أنّ هذه المجموعة الكاملة من الشرور مطلوب وجودها، كشرط جوهري لتحقيق الخير المطلوب. هذا المشروع لا يمكن أن يتحقّق واقعًا إلّا إذا افتُرِض من البداية أنّ فهمنا لطبيعة الأمور الخيّرة التي يريد أن يوجدها الله، وإدراكنا للعلاقات الضروريّة التي من الممكن أن تكون بين الخيرات والأنواع الممكنة من الشرور، يكفيان لضمان فرصة نجاح معقولة في محاولتنا. تم طرح هذا الافتراض بصورة متكررة بطريقة غير نقدية من طرف من كتبوا في مشكلة الشر، خاصة من طرف أولئك الذين يحاولون استعمال هذه المشكلة كأساس لنفي وجود الله. ويبدو أنّه من العقل الشك في ما إذا كان مدى معرفتنا قريب من المستوى الذي يتصوّره هؤلاء الكتّاب“.[17] أي بعبارة أكثر اختصارًا إنّ أدوات العمليّة العقليّة للوصول إلى نتيجة مستوعبة لهذا الأمر الدقيق، فيها قصور جوهري (intrinsic) واضح، لِعِظم المعرفة الأوليّة المشترطة مقابل قصور أدواتنا الإدراكية.

ويعبّر الفيلسوف (بيتر كريفت) (Peter Kreeft) عن أثر محدودية فهمنا للحكمة الإلهية على وعينا بالعالم بقصّة طريفة تقرّب إلى القارئ معنى قصور العقل الإنساني عن إدراك حقيقة ما يحيط به: تَصَوَّرْ دبًّا في مصيدة، وصيّادًا بسبب تعاطفه معه يريد أن ينقذه مما هو فيه. حاولَ الصيّاد أن يكسب ثقة الدب، فعجز. لم يجد الصيّاد بدًا من تخدير الدبّ تخديرًا كاملًا، ولما همّ بذلك، فَهِم الدبّ أنّ الصيّاد يريد قتله. لم يدرك الدبّ أنّ الحقنة التي انغمس رأسها الحاد في لحمه، يراد منها إنقاذه ممّا هو فيه. بدأ الصيّاد في دفع الدب داخل المصيدة ليخفف ضغظ الزنبرك. ولو بقي من وعي الدب شيء بعد التخدير ورأى الصيّادَ يهزّ جسده، فسيزداد يقينًا أنّ الصيّاد يكاد يزهق روحه، وأنّه مصرّ على أن يكون سبب ألمه ومعاناته. لقد كان الدب مخطئًا، بل قل لقد التبس عليه الأمر بصورة حادة؛ ففهم الأمور على عكس مقصدها ..[18] وهكذا الإنسان أحيانًا حينما يحاول إدراك مقاصد أحداث الوجود؛ فيرى وقائع يومه تغلّق دونه أبواب الخير وتضرب عليها بالأسداد، وهو لا يدرك أنها من وراء تلك الحجب الداكنة تسير به إلى النجاة.

علينا أن ندرك أيضًا أنّ وجودنا في عالمٍ جوهره امتحان إيماننا وأعمالنا، يقضي ألّا تُبذل لنا إجابات مادية مباشرة عن كلّ ما يطارحنا من أسئلة وما يشاكسنا من مستصعبات. إنّ المؤمن بالله لا يشكّ أنّ رحمة الله ستتداركه بإنقاذه من معضلات الأسئلة وقوارض الشبهات، لكنّ ذلك لا يكون في كلّ حين بإجابة تفصيليّة عن كلّ مسألة، وإنّما يكون بإجابة عامة مطلقة تستوعب جزئياتها الصغرى، أو هي مفاتيح للإجابة تحتاج نظرًا وجهدًا من المكلَّف.

إنّ نظرة الإلهيين لقضيّة الشرّ وارتباطها بالحكمة الإلهية تتميّز بواقعيتها الواعية؛ إذ هي تقوم على أركان ثلاثة:

  1. الإقرار بأنّ العقل البشري محدود بمحدودية أدوات النظر ومجال النظر؛ وهو ما يسمح لأبعادٍ من الحكمة أن تكمن وراء آفاق وعينا.
  2. يُعلمنا الوحي الإلهي بحكم كثيرة من وراء فعل الله في الأرض مما يبدو شرًا في ظاهره (كالمرض والجدب…)، كما وهب الله عقولنا القدرة على إدراك أوجه من الخير والنعمة في مظاهر الألم والنقص.
  3. العلم بكمال الربّ سبحانه حجّة للاعتقاد أنّ لله جلّ وعلا حكمًا خافية عن مداركنا تسمح للشرور أن توجد في كوننا.

المنطقة المظلمة في وعينا

لا يرى العاقل في المنطقة المظلمة في وعي الإنسان، والتي هي نتاج حتمي لقصور أدواته الإدراكيّة، تبريرًا لعجزه عن الجمع بين المتناقضات، وإنّما هي حجّة لإنشاء تصوّر إيماني متناسق في غياب حجّة قاطعة على إثبات هذا التناقض.

هذه المنطقة المظلمة ذاتها باسطة سلطانها في ذهن الملحد؛ إذ الملحد بلا ريب يؤمن بعدد من الغيبيات التي يريد من خلالها إنشاء تصوّر عقدي متناسق، فهو يؤمن بنشوء الحياة في المادة بصورة ذاتية، وبنشوء طبيعة التوالد في الأحياء من غير تدبير خارجي، وبنشوء الأخلاق بفعل الانتخاب الطبيعي… فالمنطقة المظلمة هي نتاج آلي للقصور العقلي الذي لا يماري فيه مؤمن ولا ملحد.

إنّ هذه الحقيقة الوجوديّة تؤكّد صواب قول الفيلسوف (ستيفن ج. وِكسترا) (Stephen J. Wykstra) في ردّه على (رو) إنّه بسبب عدم محدوديّة علم الله ومحدودية علمنا، فإنّ غموض (mysteriousness) الشر في هذا العالم هو ما علينا أن نتوقّعه،[19] أي إنّ فارق العلم (الهائل) بيننا وبين الإله، والذي يتجاوز في مداه الفارق بيننا وبين الحيوانات العجماوات؛ يستدعي منطقيًا أن يكون في إدراكنا للحكمة في أفعال الله قصور؛ لأنّ المقدمات المختلفة تقتضي نتائج مختلفة. وقد انتصر لهذا القول الفيلسوف الأمريكي (ويليام ب. أَلستون) في مقاله الهام والشهير ” The Inductive Argument From Evil and the Human Cognitive Condition” حيث قال: “الحجّة اللاهوتيّة الإلحاديّة لإنكار وجود الله باعتماد القول بوجود الشر قد أُفسِدت بالثقة غير المبرّرة في قدرتنا على القول إنّ الله لا يملك حججًا كافية للسماح بوجود بعض الشر الذي نراه في العالم”.[20] فهذا اليقين في كمال العقل الإنساني على الإحاطة بالحكمة الإلهية أصل فساد هذا المذهب؛ ولذلك أضاف (أَلستون): “إنّ جهلنا بالحقائق المتّصلة [بما يبدو شرًا مجانيًا] واسع، والعيوب في قوّة تمييزنا جدّ جوهريّة؛ مما يجعلنا عاجزين، فيما يتعلّق بأعيان المسائل[21]، عن امتلاك أساس للقول إنّه لا يسمح بها لأسباب هي كيت وكيت”.[22] ولذلك، وكما قال الفيلسوف (فتزباترك)، فإنّ “العبء يقع على الملحد في إظهار أنّه يوجد شيء ما غير مرضي بصورة عميقة في ما يتعلّق بتقويم المذهب الإلهي لمجال المعرفة البشريّة بالله وحدودها“.[23] أي إنّ الحجّة مردودة على الملحد بإلزامه هو بأن يقيم الحجّة على أصل الدعوى.

ليس في هذا القول إذعان للجهل، واتّخاذٌ لقصور عقولنا أداةً لتبرير الباطل باختلاق معنى وهمي نخفي به اضطراب دعوانا. مَثَّلَ (وكسترا) لهذا الأمر بالاعتراض على نظريّة (كوبرنيكوس) بغياب “الاختلاف الظاهري النجمي” (Stellar Parallax)[24] الملاحظ، فقد اضطر (كوبرنيكوس) إلى افتراض أنّ النجوم بعيدة عنّا بمسافات هائلة جدًا يصعب تصوّرها. الفرق بين قولنا وقول (كوبرنيكوس) هو أنّ نظرية (كوبرنيكوس) قد احتاجت إلى دليل خارجي لتثبت صدق النظريّة، في حين أنّ الشرّ الملاحظ في العالم يفترض منّا أن نعتقد وجود خير يربو عليه، وإن كنّا لا ندركه، وليس هذا الافتراض مقحمًا، وإنّما هو مُضَمَّن في إدراكنا لمعنى الإيمان بالألوهية (implicit in theism)؛ فمعنى الألوهيّة يقتضي في ذاته علمًا وحكمة مطلقين لا تدركهما عقول المخلوقات المحبوسة ضمن جدران أدوات التفكير القاصرة عن تجاوز آفاق نظرها القريبة. [25]

نحن لم نختلق (منطقة مظلمة) لنجعل منها عذرًا لمخالفة الحقيقة، وإنّما نحن نثبت أربعة أمور تستوعب حقيقة وعينا بالشر وعلاقته بعالمنا:

أولا: نحن ننطلق من حقيقة لا مراء فيها بين “المؤمنين” والشكّاكين، وهي ثبوت هذا القصور العقلي عند الإنسان. وأنّ الإنسان عاجز عن الإحاطة بكلّ خير من الممكن أن ينتج عن أعيان الشرور، كما يجهل بصورة كبيرة العلاقات المنطقيّة التي من الممكن أن تقوم بين أعيان الشرور والخير الذي من الممكن أن يتحقق منها، -ولذلك كما يقول (أهرن)-: “يبدو أنّه من المستحيل إظهار أنّ هذا الشر المعيّن، هو بالضرورة المنطقيّة، غير مبرّر بالنسبة لله”.[26]

ثانيا: ثبت، كما فعلنا في هذا الكتاب، وكما فعل (ألستون) في مقاله، وجود حِكَمٍ كثيرة مرضية للعقل تفسّر بطريقة إيجابية وجود الشر في العالم. وهي حكم كما فصّلنا ذلك وانتصر لها أيضًا (ألستون)،[27] ينطبق كل منها على أحداث بعينها، وهو ما يسقط أهم اعتراض للملاحدة على عامة الأطروحات الثيوديسية باتهامها أنّها لا تغطّي بتفسيراتها ظواهر الشر بتعدد أنواعها.

ثالثا: وَعْيُنا بحكمة الله البالغة، يقودنا إلى الاعتقاد بوجود حِكم أخرى (خاصة عند التفصيل والارتباط بالأحداث المعيّنة) تتجاوز معرفتنا.

قال (ابن تيمية): “والذي يجب على العبد أن يعلم أن علم الله وقدرته وحكمته ورحمته في غاية الكمال الذي لا يتصور زيادة عليها، بل كلما أمكن من الكمال الذي لا نقص فيه فهو واجب للرب تعالى. وقد يعلم بعض العباد بعض حكمته، وقد يخفى عليهم منها ما يخفى . والناس يتفاضلون في العلم بحكمته ورحمته وعدله، وكلما ازداد العبد علمًا بحقائق الأمور ازداد علمًا بحكمة الله وعدله ورحمته وقدرته، وعلم أن الله منعم عليه بالحسنات عملها وثوابها، وأن ما يصيبه من عقوبات ذنوبه فبعدل الله تعالى وأن نفس صدور الذنوب منه – وإن كان من جملة مقدورات الرب – فهو لنقص نفسه وعجزها وجهلها الذي هو من لوازمها …

لكن تفصيل حكمة الرب مما يعجز كثير من الناس عن معرفتها، ومنها ما يعجز عن معرفته جميع الخلق حتى الملائكة؛ ولهذا قالت الملائكة لما قال الله تعالى لهم : { إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء}[28] قال : {إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُون}[29]. فتكفيهم المعرفة المجملة والإيمان العام .”[30]

وقال (ابن القيم): “العقلاء قاطبة متفقون على أنّ الفاعل إذا فعل أفعالًا ظهرت فيها حكمته ووقعت على أتم الوجوه وأوفقها للمصالح المقصودة بها، ثم إذا رأوا أفعاله قد تكررت كذلك ثم جاءهم من أفعاله ما لا يعلمون وجه حكمته فيه لم يسعهم غير التسليم لما عرفوا من حكمته واستقر في عقولهم منها، وردّوا منها ما جهلوه إلى محكم ما علموه. هكذا نجد أرباب كل صناعة مع أستاذهم … فهلا سلكوا هذا السبيل مع ربهم وخالقهم الذي بهرت حكمته العقول، وكان نسبتها إلى حكمته أولى من نسبة عين الخفاش إلى جرم الشمس. ولو أن العالم الفاضل المبرز في علوم كثيرة أعرض على من لا يشاركه في صنعته ولا هو من أهلها وقدح في أوضاعها لخرج عن موجب العقل والعلم وعد ذلك نقصًا وسفهًا، فكيف بأحكم الحاكمين وأعلم العالمين”.[31]

رابعا: غياب مانع عقلي يقضي باستحالة وجود هذه الدواعي المنطقيّة التي تليق بكمال الله –سبحانه- وترتقي فوق معرفتنا المحدودة. إنّ ادعاء الحكمة المحيطة بجميع أفراد الكون؛ وأنّ ما لم نعرف له حكمة مباشرة فهو عبث وخروج عن حد الحكمة، هو أمر يرفع الوعي الإنساني –بلا دليل- إلى مرتبة الإحاطة الكليّة بعِلاّت الموجودات كلها، ما عظُم منها وما دَقّ!

أغلوطة (no-seeum)

تقوم حجة الشرّ المجاني على أصل حجة الجهل (argumentum ad ignorantiam)؛ أيّ إنّ ما يبدو لوعينا مجانيًا من الشّر، هو كذلك على ظاهره لأننا نجهل الحكمة من وراءه، مما يلزم منه نفي وجود الإله الحكيم. وقد أطلق (ستيفن وكسترا) على هذه الأغلوطة اسم: “no-seeum fallacy”، ذلك أنّ حشرات الـ” no-see-ums” صغيرة جدًا ومن العسير على العين أن تراها، ولذلك فإذا كنّا لا نستطيع رؤية هذه الحشرات فإننا لا نملك القطع بعدم وجودها. [32]

لسنا نرى “مغالطة no-seeum” مدانة على إطلاقها، وإنّما نقول إنّ عدم العلم بوجود الشيء لا يقضي بالقول بعدمه إلّا إذا توفّر شرط إضافي وهو وجود قرائن على أنّ من طبيعة ما نبحث في وجوده ألّا يُفلِت من آلتنا الإدراكيّة البشريّة، أمّا إن كان خفاء الشيء عن إدراكنا ممكنًا لصغره ودقته مثلًا، فعندها نقطع أنّ من المغالطة أن نزعم أنّ عدم العلم هو علم بالعدم.

الإشكال هنا هو في تصنيف مشكلة “الشرّ المجانيّ”، هل هي دقيقة في حجم حشرة لا تبصرها العين أم هي كبيرة لا يمكن أن تغفل عنها أبصارنا؟

وجواب ذلك أننا إذا نظرنا إلى “مغالطة no-seeum” آخذين بالاعتبار (1) القصور الإدراكي الأصيل في آلة النظر البشرية من جهة، (2) وتعقيد شبكة التواصل بين أجزاء عالمنا المعقّد، أدركنا أنّ عدم العلم أو الرؤية في مقام النظر في ما يظهر من شرّ مجانيّ لا يلزم منه القول بمجانيّة هذا الشرّ، فإنّ الأمر قد يدقّ حتى تعجز عقولنا عن رؤية أوتاره الدقيقة التي تربط بين أحداث حياتنا، والتي قد تحمل من أسباب التواصل والتأثير ما يمتنع على كائن أسير دماغه وقلبه أن يدركه.

ويجيبنا (ألفن بلنتنجا) بجواب آخر بقوله: نظرًا لأنّ الله عليم في مقابل محدوديتنا الإبستيمية الجوهرية؛ فإنه ليس من المفاجئ لنا أن تفلت من قدرتنا معرفة الحكمة الإلهية من وجود ما يبدو شرًا مجانيًا، [33]أي إنّ التواضع الشديد لقدراتنا العقليّة أمام كمال علم الله وقدرته سبب قوي للتواضع في الحكم على ما نجهله في أمر من شأنه أن يتجاوز وعينا البشري الضيّق.

ويضع (ابن الجوزي) هذا الأمر في نصابه عند تدارس ما يخفى من حِكم في هذا العالم، بقوله: “العقل قد عرف حكمة الخالق سبحانه وتعالى وأنه لا خلل فيها ولا نقص، فأوجبت عَليهِ هذه المعرفة التسليم لما خفي عنه، ومتى اشتبه علينا أمر فِي فرع لم يجز أن نحكم عَلَى الأصل بالبطلان.” [34]

وفي قصّة (موسى) عليه السلام والخضر رسالة واضحة البيان في ألّا يمنح الإنسان لنفسه حقّ الكلمة الأخيرة في ما لا يعلم بواطنه مما يَظهر أنّه شرٌ لا حكمة تخالطه.

قال تعالى:

{وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لاَ أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا}

{فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا}

{فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءنَا لَقَدْ لَقِينَا مِن سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا}

{قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنسَانِيهُ إِلاَّ الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا}

{قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا}

{فَوَجَدَا عَبْدًا مِّنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْمًا}

{قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَن تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا}

{قَالَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا}

{وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا}

{قَالَ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ صَابِرًا وَلاَ أَعْصِي لَكَ أَمْرًا}

{قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلاَ تَسْأَلْنِي عَن شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا}

{فَانطَلَقَا حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا}

{قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا}

{قَالَ لاَ تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلاَ تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا}

{فَانطَلَقَا حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلاَمًا فَقَتَلَهُ قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَّقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُّكْرًا}

{قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِي صَبْرًا}

{قَالَ إِن سَأَلْتُكَ عَن شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلاَ تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِن لَّدُنِّي عُذْرًا}

{فَانطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَن يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنقَضَّ فَأَقَامَهُ قَالَ لَوْ شِئْتَ لاَتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا}

{قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِع عَّلَيْهِ صَبْرًا}

{أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدتُّ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءهُم مَّلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا}

{وَأَمَّا الْغُلاَمُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَن يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا}

{فَأَرَدْنَا أَن يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِّنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا}

{وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلاَمَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَّهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِع عَّلَيْهِ صَبْرًا}.[35]

ما الحكمة التي من الممكن أن تتصوّرها عقولنا لخرق رجل عاقل ظاهرهُ الحكمة سفينة مما قد يؤدي إلى تلفها وهلاك أصحابها؟ وما الحكمة من قتل طفل صغير بريء؟ لا تسمح لنا عقولنا بإبصار حكمة وراء هذا الشرّ الذي يبدو بوضوح (ظاهري) أنه شرّ مجاني، لكنّ كشف الغطاء عن خيوط دقيقة غير مرئية تربط بين أشياء الواقع وعلائقه مما يتجاوز تفكيرنا المحدود، يظهر أنّ حكمة بالغة مشبعة بالرحمة الإلهية تكمن وراء هذا الشرّ الذي أوهمتنا عقولنا أنّه مجانيّ. إنّ قصّة النبي العظيم الحكيم (موسى) عليه السلام مع الخضر تأخذ بأيدينا إلى حقيقة تواضع معارفنا أمام هذا العالم الهائل في تعقيده وخفاء أسراره، فخرق سفينة سبيل لعيبها حتى لا ينتهبها من أصحابها ظالم، وقتل طفل لم يجر عليه القلم سبب لرحمته وأهله من شرّه إن كبر.

الحيوان والشرّ المجّانيّ!

لم يكن لمشكلة ألم الحيوانات حضور كبير في النقاش حول مشكلة الشرّ بعمومها إلّا أنها كانت تطرح في ثنايا الجدل الفلسفي-الثيوديسي، غير أنّه مع صعود الفكر الدارويني في عالم البيولوجيا ونفي التميّز السُلالي للإنسان، والثورة الإيكولوجية، وتزايد اهتمام الإنسان الغربي بإلحاق الحيوانات الأليفة بمجموع الأسرة، كالقطط والكلاب، ظهرت مشكلة ألم الحيوانات بصورة أكبر، وأضحت عنصرًا مهمًا في الجدل الإلحادي لصالح كون بلا إله كامل القدرة والرحمة.

أ-مبادئ النظر في مشكلة ألم الحيوانات:

يتمثّل التحدّي الإلحادي في مشكلة ألم الحيوانات في أنّنا لا نملك أن نمدّ الحكم من الأذى الذي يطال الإنسان إليها؛ فهي لا تختبَر بالصبر على البلاء، ولا تعاقب به في الدنيا، ولا تنمّي شخصيتها به.

للردّ على هذه الشبهة لا بدّ أن نوضّح خمسة أصول أولى يقوم عليها التصوّر الإسلامي:

الأول: ليس للحيوانات نفس مقام الإنسان في المعتقد الإسلامي، فالحيوانات كلّها مخلوقة لأجل الإنسان، فليست الحكمة من وجودها غير أن تسخّر للإنسان سواء بطريق مباشر (الأكل من لحمها، والإفادة من حليبها وصوفها…) أو غير مباشر (التوازن الطبيعي عامة). قال تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً}،[36] وقال سبحانه:{وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُون}،[37] وقال:{اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَنْعَامَ لِتَرْكَبُوا مِنْهَا وَمِنْهَا تَأْكُلُون}،[38] وقال: {وَإِنَّ لَكُمْ فِي الأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُّسقِيكُم مِّمَّا فِي بُطُونِهَا وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُون وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُون}.[39]

الثاني: معرفتنا بنفسيّة الحيوانات محدودة جدًا لأنّ تقدير الجانب النفسي مرتبط بالوعي الذاتي للكائن، ولذلك فعامة معرفتنا بنفسيّة العجماوات مرتبط بالظواهر الخارجية.

الثالث: من المسلّم به أنّ التركيب العصبي للحيوانات مختلف بصورة كبيرة عن نظيره في الإنسان. [40]

الرابع: تشعر الحيوانات بالألم، عضويًا ونفسيًا، كما هو ظاهر حالها عندما يصيبها أذى، وكما تدلّ عليه الأحاديث النبويّة التي تأمر بالإحسان إلى الحيوانات وتحذّر من إذايتها، وهو ما يخالف التصوّر الديكارتي التقليدي الذي يرى في تألّم الحيوان مجرّد ردّ فعل آلي غير حقيقي. [41]

الخامس: تُمثّل نِسبة المشاعر الإنسانية إلى الكائنات غير البشرية نوعًا صريحًا من المغالطات، وتسمى بـ(anthropopathism)، وهو مصطلح حصيلة إدماج كلمتين يونانيتين في بعضهما، إنسان (ἄνθρωπος ) ومعاناة (πάθος )؛ إذ ليس لنا أن نفترض من خلال مشاركة الحيوانات لنا شعور الألم أنّ ألمها كألمنا. وللأسف، فإنّ نزوع الإنسان إلى أن ينسب إلى ما حوله الذكاء والمشاعر البشرية سببٌ لإثارة إشكالات في فهم العالم حوله. يقول (ستيوارت جثري) (Stewart Guthrie) إنّ هذا الطبع “ليس محصورًا في نظراتنا إلى الحيوانات الأخرى، وإنّما هو أوسع وأعمق في كلّ أفكارنا وأعمالنا. إنّه يلوّن إدراكنا ويؤثّر على وعينا عبر الحياة، كحال حديثنا إلى النبات والسيارات وأجهزة الكمبيوتر… حقيقةً، الدافع لاكتشاف صفحات الوجوه على السحب والأغصان المتشابكة والأشكال الأخرى غير البشرية، والشعور بوجود إنسان من خلال أصوات مبهمة في الليل، يبدو أمرًا عالميًا”.[42]

النقاط الخمس السالفة سبب لأن نحوّل النقاش من كون ألم الحيوانات شرٌّ في ذاته إلى مناقشة إشكالية كونه شرًا زائدًا عن مقتضى العدل، أو بعبارة أخرى: “شرًا مجانيًا”. وبذلك يصبح السؤال مرتبطًا بكفاءات ملكاتنا البشريّة لتقدير ألم الحيوانات، وقوّته، ومدى تعارض ذلك مع كمال خيريّة الله وعدله.

ب-كيف ننشئ جدلًا حول مشكلة ألم الحيوانات

السؤال عن مدى معرفتنا بألم الحيوانات، وعلاقة ذلك بعدل الله ورحمته، يدفعنا إلى أن نرتّب النقاش على وجه جديد، كالتالي:

  • الله موجود.
  • لله الصفات (الأخلاقية) المذكورة في القرآن.

السؤال الآن هو: هل من الممكن التوفيق بين التقريرين السابقين وألم الحيوانات؟

للإجابة على السؤال السابق نحتاج أن نضيف الفرضيات التالية:

  1. الله هو أرحم الراحمين (سورة الأعراف/151، سورة يوسف/64، 92، سورة الأنبياء/83).
  2. خلق الله الحيوانات وأمر الإنسان بالإحسان إليها.
  3. الأمرُ بالإحسان إلى الحيوانات دال على أنّ الله يرحم شعورها ولا يقصد إلى أذاها مجانًا.
  4. الحيوانات تتألّم في عالمنا.
  5. لا تُجازى الحيوانات بالجنّة يوم القيامة لأنّها ليست من أهل التكليف.

إذا كان الله موجودًا فلا يمتنع تصوّر أنه سبحانه

  1. جعل إحساس الحيوانات بالألم أضعف من إحساس الإنسان به.
  2. أعدّ بعدله للحيوانات في الدنيا تعويضًا عمّا يصيبها من أذى.[43]

هذا هو تصوّرنا لألم الحيوانات في عالم خلقه أرحم الراحمين. فهل ينقضه المنطق أو العلم أو العدل الخُلقي؟

منطقيًا: لا يستلزم القول إنّ الله قد جعل إحساس الحيوانات بالألم أدنى من إحساس البشر به تناقضًا ولا أية استحالة عقلية. ولا يلزمنا العقل بباطل إن تصوّرنا تعويض الحيوانات عن أذاها في الدنيا.

علميًا: لا شكّ أننا نجهل حقيقة إحساس الحيوانات بالألم، وإن كنّا ندرك أنّها تتألّم على الحقيقة. ويوفّر لنا العلم اليوم قرائن توحي أنّ إحساس الحيوانات بالألم أدنى من إحساسنا به. وهو ما يظهر في النقطتين التاليتين:

أولا: التركيب العصبي للكائنات الحيّة:

أ-يكشف تشريح الحيوانات أنّ هناك اختلافات كبيرة في جهازها العصبي المركزي، فالجهاز العصبي للدودة والمتمثّل في عقدة مرتبطة بألياف عصبية، يختلف بصورة واسعة عن نظام عصبي يضمّ حبلًا طويلًا من الأعصاب الشوكية (النخاع الشوكي)، ودماغًا كبيرًا أربعون بالمئة من وزنه قشرة مخيّة. [44]

ب- لا يلزم ضرورة من وجود جهاز عصبي عند الحيوانات، أنّ هذه الكائنات تتألّم إذا حدثت استجابة شرطيّة عند إصابتها بأذى، أو أنّ حجم استجابتها للأذى يعكس حجم تألّمها، فقد يكون شكل الاستجابة للأذى مجرّد تعبير عن انقباضات آلية لا غير، خاصة إذا كان الجهاز العصبي غير معقّد أو لا يمتد إلى أطراف كامل الأعضاء. كما أنّ طبيعة افتراس الكثير من الحيوانات لبعضها لا تورث ألما كبيرًا. وقد شهد عالم الإثولوجيا (علم دراسة سلوك الحيوانات) البريطاني الشهير (جون غودال) (Jane Goodall) أنّ تجربة مشاهدة افتراس الحيوانات الضارية لضحاياها الحيّة تظهر أنه رغم بشاعة المنظر للرائي إلّا أنّ الضحايا تموت بسرعة في غضون دقائق وبالتالي لا تشعر بكثير ألم.[45] وقال صاحب كتاب: “هجوم سمك القرش”: “ليس هجوم سمك القرش بالضرورة عنيفًا إلى درجة أن يجرح ضحيته بصورة بالغة. من الممكن أن يكون قطع اللحم بأسنان سمك القرش لطيفًا وغير مؤلم كما لو أنه بمشرط جرّاح. وقد شهد حوالي ربع ضحايا سمك القرش أنهم عاشوا اضطرابًا بسيطًا أو لا اضطراب، ولم يدرك الكثير منهم أنّ أمرًا خطيرًا أصابهم.”[46]

ثانيا: وعي الكائنات الحيّة بألمها:

ينبّهنا عدد من ملاحظاتنا أنّ تجربة الألم عند الكائنات الحية ليست سواءً:

  • يبدو أنه ليس عند الحيوانات رؤية ذاتية بتجربتها (first-person perspective on their experiences)؛ ولذلك فلنا أن نشكّ في أنّها قادرة على أن تحمل إحساسًا واعيًا بنفسها غير متقطّع عبر مدى حياتها.
  • تتّفق الدراسات الفلسفية لظاهرة الوعي (consciousness) أنّ طبيعة الوعي في الكائنات الحيّة ليست على شكل واحد، وإنّما هناك عدّة مفاهيم ودرجات للوعي. [47]
  • الإنسان نفسه يتعايش مع درجات مختلفة من الوعي بذاته، فالعُمي الذين فقدوا أبصارهم نتيجة تلف في القشرة البصرية الرئيسية (primary visual cortex)، رغم أنهم يعتقدون أنه ليس بإمكانهم رؤية الأشياء من حولهم إلا أنهم قادرون على تحديد ما في مجالهم البصري وما يحدث فيه من تغيير. وهم بذلك على وعي بما لا يرون.[48] كما يذكر مرضى آخرون ممن أجريت عليهم عمليات جراحية على القشرة المخية أنهم “يشعرون” بالألم كالسابق لكنّهم توقّفوا عن الشعور بأنّه شيء بغيض. [49]
  • يبدو أنّ الحيوانات لا تملك القدرة على مراكمة تجربتها مع الألم لأنّها لا تفكّر في معاناتها، ولذلك فهي لا تعيش تجربة الألم على الصورة التي نعيشها. إنّ طبيعة النسيان فيها تحميها من معاناة تراكم تجربة الماضي مع الحاضر، أو بعبارة أخرى تعيش الحيوانات تجربة الماضي والحاضر باعتبارها واحدة، فهي ترى الماضي والحاضر في صورةِ “الآن”، أي إنّ تجربة الماضي تنبّه تجربة الحاضر ليكونا واحدًا،[50] في حين أنّ تجربة الإنسان ليست مجرّد استرجاع للألم الماضي وإنما هي أكبر من ذلك، فالإنسان يقارن بين آلامه، وينشئ ترتيبًا بينها، وتجتمع في ذهنه تجارب الماضي وهواجس المستقبل. إنّ الحيوان لا يحمل تصورًا عن الزمن، ولا معرفة بالماضي، ولا اعتبارًا للمستقبل بما يجعله غير مثقل بآلام الماضي وخوف المستقبل عندما يعيش لحظة الآن الموجعة…

نحن لا ننكر إحساس الحيوان بالألم وإنّما نوضّح أنّ افتقاد الحيوان للوعي الزمني التراكمي يجعل إحساسه بالألم أدنى بكثير من الإنسان الذي يعود جلّ ألمه إلى طبيعة وعيه وتركيبه العصبي والنفسي.

  • يجب أن يُلحق الألم “بالوعي” لا “الشعور” لأنّه أقرب إلى البنيان السيكولوجي منه إلى الفيزيولوجي[51]، وهذا أمر تشهد له ساحات المعارك والقتال، كمثال، حيث كثيرًا ما يفقد المقاتل “شعوره” بالألم على خلاف ما لو كان في حال أكثر طبيعية. [52]

بإمكاننا أن نقرّر انطلاقًا من الملاحظات السابقة أنّ:

  1. استمرار التجربة هو عنصر أساسي لوعي الكائن الحي بألمه.
  2. تفتقد الحيوانات خاصية دواميّة التجربة، ولذلك
  3. = لا تعيش الحيوانات الألم كما نعيشه. [53]

خلُقيًا: يجب أن ننظر إلى أربعة أمور عندما ندرس ألم الحيوان:

الأول: إذا كانت الحيوانات تتأذّى بغير جرم ارتكبته، لأنّها غير عاقلة (وغير مكلّفة)، فكذلك هي تتنعّم بغير فضل أتته. علمًا أنّ حياة الحيوان في مجملها تنعّم بالخيرات التي وهبت له من غير جهد.

الثاني: من أين للمعترض أنّ الله سبحانه لم يعوّض هذه الدواب؟ هل علم كلّ ما منحها الله من خير؟ وهل قاس النعم التي أوتيتها البهائم بالعذاب الذي يصيبها ليدرك أنّ الألم يربو على المصائب؟ هل تبيّن له أنّ الله سبحانه لا يرزق البهيمة بعد كلّ بلاء تعويضًا؟ إنّ عدم العلم ليس علمًا بالعدم! وليس الجهل حجّة للنفي. والأصل الذي يجب أن يُردّ إليه الأمر –إذا كنّا نفكّر ضمن منظومة التصوّر الإسلامية- هو قوله تعالى: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ}.[54]

الثالث: لا يصحّ القول إنّ ظاهر الأذى الذي يصيب الحيوان مجاني بلا قيمة؛ إذ إنّ الكثير من هذه الآلام تساهم في النماء البدني للحيوان: فإحساسه بالجوع مثلًا، يحفزّه على تطلّب الغذاء، وألمه منذر له بأسباب الأذى والهلاك. فالأذى من هذا الوجه هو من أسباب الحفاظ على الحياة.

الرابع: صلاح الكلّ يقتضي تضحيات من الأجزاء، وصلاح المنظومة البيئية يقتضي أن يكون هناك تكامل بين أفرادها، حتى يصبح موت الحيوانات سبيلًا لبقاء النوع الحيواني. [55]

***

امتحان الإيمان

ما هي صورة الكون الخالي من الشر المجاني في حسّ المعترض؟ إنّه عالم محدود الآلام، يدلّ كلّ شر فيه على حكمة وراءه؛ فما إن تبصر عينك شخصًا يتوجّع حتى تعلم أنّ هناك خيرًا يوازي هذا الأذى أو يربو عليه.. إنه كون بسيط، شفاف، لا يزعج العقل ولا يقلقل النفس!

تُعارضُ الطبيعة الشفافة للكون الذي عقلنه الملحد حقيقةَ الإيمان الذي يطلبه الربّ، والذي هو إيمان فطري وبرهاني لكنه محاصر بالشبهات. وبيقين المؤمن بحقيقة الخلق والعناية يتغلّب على الشبهات؛ فوجود شبهات تفوق في ظاهرها الحد الأقصى المفهوم فهمًا مباشرًا هو ما يتوقعه المؤمن في عالم يُمتحن فيه بالشبهات كما بالشهوات، ولذلك بدأت سورة البقرة بمدح المؤمنين الذين من صفاتهم أنهم {يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ}.[56] وأقصد “بالفهم المباشر” ما يدلّ عليه النظر المباشر في أعيان الشرور وعلاقتها بمآلها اللحظي الذي يسهل على الجميع إدراكه.[57]

***

العناية الإلهية والسنن الكونية

ذهب بعض الثيوديسيين إلى أنه يحسن بالإلهيين ألا ينكروا وجود الشر المجاني، ومن هؤلاء الفيلسوف (بروس لتل) (Bruce little) الذي أكّد أنه علينا أن نتخلى عن التصوّر الكلاسيكي”للعناية الإلهية الدقيقة” “classic meticulous providence” لاعتقاده أنّه يلزم من القول بالعناية الدقيقة أن يتدخّل الله كلّ مرة ليخرق النواميس الكونية منعًا لوقوع الشر إذا لم يكن سينتج عنه خير أعظم أو يندفع به شر أكبر، وانتهى إلى أنّ هذا العالم سيكون عالما جبريًا لا مكان فيه لحريّة الإرادة. [58]

وأضاف أنّ السماح بوجود الشرّ في عالم تحكمه القوانين الكونية المستقرة يلزم منه وجود الشرّ المجاني لأنّ هذه القوانين لا تحابي أحدًا ولا تميّز بين حال وآخر، وهو ما يسمح لنا بتقرير أنّ وجود هذا الشرّ المجاني لا ينال من الكمال الأخلاقي لله. [59]ولذلك ميّز (بروس لتل) بين العناية التي تسلب العالم ذاتيته والإنسان حريّته – كسلطان قائد السيارة لسيارته-، والعناية التي تسمح للخلق أن يختاروا ويتحمّلوا آثار اختياراتهم -كعناية ربّ الأسرة بأسرته-. العناية الأولى ذات طابع ميكانيكي، في حين أنّ الثانية تُعنى فقط بالخطوط العريضة لمسار أفعال الناس، وللعبد أن يفعل بإرادته ما شاء بين هذه الخطوط. [60]

الميزة الكبرى لهذا الطرح الثيوديسي أنّه لا ينكر وجود الشرّ المجاني، ولذلك فهو يسحب من الملاحدة أقوى ما يملكون، أي ظاهر مجانيّة ما نعرف من شرّ، بما ينقل باب المواجهة مع الملاحدة من وجود الشرّ المجاني إلى دعوى اقتضائه أن يكون مطعنًا في عدالة الله المتنازع في وجوده!

نحن لا نتبنّى ظاهر هذا الطرح، وإن كنّا نعتقد أنّ خلافنا معه بالأساس هو خلاف لفظي، فإنّ وصف الشرّ بالمجانيّة غير سليم إن كان في مقابل المحافظة على (1) حريّة الإرادة التي هي شرط الاختبار الديني في هذه الحياة و(2) السنن الكونية الطبيعية التي لا حقيقة لحريّة الإرادة بدونها. فالقول إنّ الشرّ الذي يبدو مجانيًا هو على حقيقته مجاني لأنه ضريبة لوجود حرية الإرادة والسنن الكونية غير سليم، وإنّما الصواب القول إنّ هذا الشرّ “مبرّر”[61] لأنّ السماح بوجوده مقابَلٌ بخير أعظم منه، وهو حرية الإرادة وثبات النواميس الكونية، وبذلك نلتقي مع طرح (بروس لتل).

إنّ العالم الذي تُعطّل فيه النواميس كلّ حين، حيث تتدخّل الملائكة لإنقاذ الغزلان من خطر أن تحترق وهي حيّة، وتتلاشى الكائنات المجهريّة بصورة سحريّة من على جلود الحيوانات، وتختفي الخرفان بصورة إعجازيّة من أمام الأسود … هو عالم معيب، والعيب فيه “في أقلّ اعتبار، هو في نفس حجم العيب المتمثّل في وجود أنماط من المعاناة مساوية خلقيًا للموجود في هذا العالم”،[62] وهو ما عبّر عنه (سنايدر) بأنّه عالم فوضى، لانتفاء العلاقات الدائمية المنتظمة بين الأحداث المتتالية؛ فلو رميتَ كرة إلى الأعلى، فقد تنزل مرّة، وتستمر في الارتفاع في أخرى، وتميل في ثالثة يمينًا أو شمالًا دون داع فيزيائي. إنّ عالما بلا ناموس طبيعي مستقر بإمكاننا أن نتنبّأ فيه بمآل حركاتنا وأفعالنا، هو عالم لا معنى فيه للإرادة والاختيار والحريّة.[63]

إنّ توفّر طبيعة الانتظام في أحداث الكون، وثبات أصل السببية، هما من أعظم شروط الحياة المعقولة والإيجابية، إذ بالانتظام تتوفر عدة أمور، أهمها:

  1. وجود الإرادة العاقلة الحرّة: الانتظام السنني يوفّر بيئة ضرورية لسلامة التفكير العقلي واستنباطاته وتوقعاته؛ إذ إنّ عالما بلا قانون فيزيائي مستقرّ، لا يمكن أن يقبل في إطاره ذاتًا عاقلة تريد أن تفعل، وتأمل في الفعل، وتحلم أن تجتني من فعلها ما تريد.
  2. وجود الكائن الأخلاقي: ما الخير والشرّ في عالم الفوضى العشوائية أو الخوارق المستقرة؟! إنّ الخير لا يُتوقّع من إنسان إلّا إذا كانت له نيّة خاصة لإحداث أثر مخصوص، وكذلك الشرّ، هو فعل بنيّة سيئة لإحداث أثر مخصوص، ولكن كيف يحدث الخير أو الشرّ في كون لا يملك الفرد أن يختار فعله وأن يحقّقه في الأرض؟! إنّ الإنسان في عالم اللاناموس لا يملك أن يكون كائنًا أخلاقيًا؛ إذ “الإلزام السُنَني.. شرط أساسي ليكون العالم مسرحًا لحياة أخلاقية”. [64]
  3. تنمية الذات: لا يملك الإنسان في كون لا يحكمه قانون مادي أن يعرف نفسه ولا أن ينمّيها لأنه لا يراكم على مرّ الأيام تجربة من زَرْع التكرار.
  4. معرفة الخالق: لا يملك الإنسان في عالم الفوضى أن يعرف ربّه وصفاته؛ إذ إنّ معرفة الربّ عقلًا وعلمًا هي ثمرة النظر في الكون وأشيائه والقوانين وإبهارها، والثبات وإيحائه، ولا تملك الفوضى أن تبعث من هذه الأمور في النفس شيئًا؛ إذ الفوضى لا تورث في النفس غير الحيرة وشعور الاغتراب.

إنّ عالم الملحد، الكافر بالسببية، هو في أقصى صوره تفاؤلًا لا يَفضل عالمنا في جوهره، بل هو عالم “لا يطاق”. والقول بفساده وأنّ شرّه يربو على شرّ عالمنا، هو أحد اعتراضاتنا على شبهة الشر الإلحادية، وهو ما سمّاه (إنواجن) بـ “The anti-irregularity defense”.

إنّ ما يبدو “شرًا مجانيًا” هو عنصر أساسي وجوهري في كمال عمل السنن الكونيّة؛ فإنّ عمل السنن المحايد في الكون مبرّر لأحداثٍ لا تبدو أفرادها –إذا نُظر إليها وهي منعزلة- موصولة بالحكمة. فلا بدّ إذن أن يُنظر إلى الأحداث المتفرّقة ضمن نسق كوني كامل يسير ضمن منطق داخلي خاص يفقد حكمته إذا تسلّطت عليه الخوارق المكثّفة حتى يتحوّل خرقها إلى ناموس جديد خارق لناموس العادة. إنّ هذه الشرور التي تبدو مجانية، مبررة في ميزان الحكمة بالخير العظيم الذي يربو عليها والذي هو أثر للانتظام السُنَني (nomic regularity)، وهو ما يجعل هذا الشرّ خارجًا عن تعريف الشرّ المجاني في معجم (ويليام رو) نفسه إذا ما نظرنا إليه من هذه الزاوية!

إنّ تصوّر وجود إله يتدخّل بصورة مكثّفة لنقض النواميس الكونية المدركة عيانًا يعني أنّ هذا الإله قد خلق عالما سيئًا فاسدًا مما اضطره إلى التدخل بلا توقّف ليصلح فساد ما خلقه، وهذا تصوّر فاسد ينقض نفسه ابتداءً!

لا يلزم مما سبق أنّا نوافق من ينتصرون للثيوديسيا الناموسيّة الصارمة –كالفيلسوف (بروس ريكنباك) (Bruce Reichenbach) الذي يرفض أيّ خرق لانتظام السنن المادية للكون لدفع بعض شروره-،[65] وإنّما نقول إنّ معبود المسلمين –سبحانه- متعال على الإله الأرسطي، فهو حاضر بسلطانه وعدله ورحمته في كلّ حين، وهو يصرّف الأمور ويعدّل الأحوال، ولكن دون أن يكون ذلك عبر خوارق مكثّفة ظاهرة تذهب بالحكمة من السنن المادية، وإنما بتوفيق الإنسان إلى اختيارات صائبة، ودفعه إلى غير مواطن الضرر، وتهيئته لأمور نافعة، أو تعديل طبائع الأشياء على صورة خفيّة، كلّ ذلك على صور لا تكسر أمام عينيه قوانين المادة[66]، وإلّا فما معنى إجابة الدعاء، وإغاثة الملهوف، ونجدة المحتاج؟!

***

التعويض الأخروي

قد يقول معترض: “أنا أوافقكم أنّ صلاح الكلّ يربو في قيمته على السماح لبعض الشرّ أن يوجد، لكنّ ذلك لا يلغي حقيقة أنّ أبرياء يقعون ضحيّة هذا الشرّ؟!”

وجواب ذلك هو أنّ اختزال الوجود الإنساني في هذه الحياة الدنيا وقطعه عن كل وجود آخر، يسبغ صفة السلبيّة على ما يؤذي الإنسان. إنّ الحياة الأخرى في التصوّر الإسلامي هي تتمّة لازمة للفصل الأول من الوجود البشري في الحياة الدنيا، بل هي الحياة الحقّة. قال تعالى: {وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُون}،[67] هي الحياة الحقّة، أمّا دار الدنيا فكالخيال الذي لا حقيقة له. ولما لم يهتم الثيوديسيون الغربيون بأمر الآخرة، إلا قلّة قليلة كـ(ـتشاد مايستر) (Chad Meister)،[68] بقيت نظرتهم إلى الشر عاجزة أن تجمع بين الشر وبين مفهوم العدل الإلهي المطلق.

إنّنا نقرّ للملحد أنّ الحياة الدنيا كما نعيشها لا تعكس في أوجه منها العدالة التي نريدها، ونوافقه أنّ “الحياة غير منصفة”، كما يُقال في المثل الشعبي الغربي، لكننا لا نردّ ذلك إلى أنّ عالمنا يفتقد إلهًا حكيمًا، وإنما أصل الخلل هو في قصور رؤية الملحد لمجال حياة الإنسان؛ إذ قَصَرَ نظره على حياة الامتحان والمكابدة على هذه الأرض، فرأى إجرام (نيرون)، وفظاعة (هتلر)، وشناعة أحداث (نكازاكي)، وأحزان الأطفال المشوهين، وأوجاع العجائز المشرّدين، لكنّه لم يمدّ نظره إلى الحياة الأخرى التي تمثّل حياة الجزاء حيث تجزى كلّ نفس بما كسبت، ودار المستقر حيث لا دار بعدها، وهي بقياس الحساب أطول وأعظم من هذه الدنيا الضئيلة بما لا يقدّر بعدد؛ إذ كلّ شيء عدم أو يكاد أمام حياة الأبد.

إنّ ضيق النظرة والحدود المتقاربة لأضلع الوجود الإنساني زمانًا، هي التي جعلت الفيلسوف الملحد (ويليام رُو) يرى في محنة الطفلة المغتصبة شرًا خالصًا لا حكمة من الممكن أن ترفع عنه “مجانيّته” الظاهريّة. وهنا لا يجد المسلم نفسه في مأزق؛ لأنّ الأطفال وإن كانوا لا يتحمّلون وزر هذا الإجرام ولا يفيدهم هذا النوع من الوحشيّة المهلكة شيئًا في الدنيا، إلّا أنّنا نعلم أنّهم في الآخرة في الجنّة متنعّمين فيها أبدًا، سواء كانوا من أبناء المسلمين أم من أبناء الكفار.[69] فهل تقاس محنة دقائق أو ساعات أو أيام أو أشهر أو سنوات بنعيم مقيم لا تنضب حلاوته وتتجدّد نداوته؟! إنّنا –كمسلمين- لما نقرأ قول الرسول صلّى الله عليه وسلّم: “يَوَدُّ أَهْلُ العَافِيَةِ يَوْمَ القِيَامَةِ حِينَ يُعْطَى أَهْلُ البَلَاءِ الثَّوَابَ لَوْ أَنَّ جُلُودَهُمْ كَانَتْ قُرِضَتْ فِي الدُّنْيَا بِالمَقَارِيضِ”،[70] ندرك أنّ ابتلاءات الدنيا هدر إذا ذكر نعيم الآخرة، وأنّ محنة هذه الطفلة لا تساوي قطرة في بحر النعيم الذي يرتقبها، وأنّ الله يعاملها بفضله لا بعدله، إذ يدخلها الجنّة التي يتضاءل أمامها كلّ أذى دنيوي.

فإن قيل اعتراضًا: قد سلّمنا أنّ مآل الطفلة قد رفع عنها الظلم، لكنّ ذلك لا يُثبت لوقوع هذه الجريمة حكمة!

قلنا: إنّ حقيقة خلق الله إرادة في الإنسان على فعل الخير والشر ضمن قصّة الوجود الدنيوي حتّى يتنعّم المحسن ويعذّب المسيء، تقتضي ألّا يُحدّ فعل الإنسان الضال بأمور لا يتعدّى ضررها غيره، إذ إنّ طبيعة الوجود الإنساني فيها من التداخل والتشابك ما يجعل حياتنا أرض امتحان وابتلاء. ولما كان الفعل الإنساني الشرير يتعدّى في غالب أمره إلى غير فاعله، أبقاه الله سبحانه حتّى يتسلّط على إرادة غيره، ثم يكون القصاص يوم القيامة. أمّا ضحيّة الفعل الشرير؛ فإنّ رحمة الله سبحانه تناله في الآخرة يقينًا، وفي الدنيا غالبًا؛ مما يرفع عنه مظلمته. إننا لن نفهم الشر والحكمة منه إن أصررنا على النظر إلى الدنيا كقصة تنتهي عند حافة القبر دون أن نجعلها فصلًا أوّل في قصة أطول لا تنتهي أبدًا، بل تتالى أيامها بلا انتهاء.

خلاصة الكلام أنّ حريّة الإرادة البشريّة عنصر جوهري في الوجود الإنساني يربو فضلها على كلّ شر دنيوي؛ لأنّها مرتبطة بسبب وجود الإنسان على الأرض ومآله يوم القيامة.

تصرّ بعض الأنفس المهتاجة على المكابرة في هذا المقام، تقليلًا من أمر النعيم المقيم، بقولها إنّ أيّ نعيم عاقبٍ لا يبرّر أذى عاجلًا! وهنا يقف العقل ولا يدري كيف يجيب إذ يعاند هؤلاء في التفاضل اللامتناهي بين حلاوة الآخرة وعذوبة نعيمها الذي لا ينتهي، وأذى قصير لا يلبث أن يمضي. هنا ينكشف الفارق بين النفس التي تبحث عن الحق لأجل الاهتداء، والنفس العنيدة التي تبتغي الانتصار لهواها أو عاطفتها بعد أن أصابها الظلم والكدر.

هذا الذي يعاند في قيمة جنّة الخلد هو نفسه يشقى بأعوام الدراسة والاختبارات والسهر الطويل لينال شهادة يطلب بها رزقًا يقيم أوَده، ولا يرى في تعب تلك السنين ولا مشقّة العمل اليدوي أو الذهني الذي يفارق النوم لأجله صباحًا ولا يتركه مساءً حتى يأخذ زهرة يومه ظلمًا ما دام يوفّر رخاء ساعات في منزل متقارب الجدران، مهما اتّسع، ومأكل سريع النفاد، مهما كثر. أيكون الجزاء الدنيوي الزهيد على تعب السنين عدلًا، ويكون النعيم الذي يربو على خيال الخيال لأجل شر زائلٍ ظلمًا؟! تلك إذا قسمة ضيزى!

وكيف تتكبّر نفس على نعيم يثير حسد أهل الآخرة ممن لم يمسّهم الأذى في الدنيا؟! وكيف تستصغر عين عِظم جزاء الصبر على الفتنة والبلاء في هذه الدنيا، وقد جاءها الخبر أنّه “يُؤتى بأشد الناس بؤساً في الدنيا من أهل الجنة فيصبغ صبغة في الجنة فيقال له: يا ابن آدم هل رأيت بؤسًا قط؟ وهل مرّ بك شدة قط؟ فيقول لا والله يا رب! ما مرّ بي بؤس قط! ولا رأيت شدة قط!”؟![71] هناك.. حيث يرى الإنسان نعيم الجنّة عين اليقين، تنقشع عن النفس غمامة الكِبر وتتجلّى الأشياء كما هي على الحقيقة، فيصغر في العين صغيرها وتعظم الأمور العظام.

لم يرض الفيلسوف الملحد (ستيفن ميتزن) (Stephen Maitzen) بالتعويض الأخروي لدفع العبث والظلم عن فعل الربّ، وسمّى هذا القول بثيوديسيا “الجنّة تغمر كلّ شيء” “Heaven Swamps Everything”، وحسم اعتراضه بقوله: “إذا كانت الجنّة تغمر كلّ شيء، فإنها بذلك تبرّر أيّ شيء!”. [72]فالجنّة، في رأيه، وإن كانت تمسح بنعيمها كلّ شرٍّ في الدنيا، إلّا أنّها لا تبرّر للحكمة الإلهية سماحها أن ينال الناس أذى في الدنيا.

لم يفلح (ميتزن) في فهم حقيقة التعويض الأخروي لأنّه كان يحاكم التصوّرين اليهودي والنصراني، ولم يعلم أنّ الإسلام يرى لأذى الدنيا حكمًا كثيرة، حتى لو كان ناتجًا عن قانون فيزيائي صرف، وعلى رأسها أنّ الدنيا أرض فتنة وابتلاء، وسلاح العاقل فيها الصبر، وليس في اليهودية ولا النصرانية هذا المعنى الذي يجعل لمن أصابه شر دون جناية في الدنيا، جزاء الثبات في الآخرة. أمّا من كان من غير أهل الامتحان، كالطفل، فابتلاؤه أقصر أمدًا، ونجاته في أنّه لا حساب عليه يوم القيامة، بل ويأخذ بثوب أبويه فيدخلهما الجنة،[73] فزاد الله جلّ وعلا له من العطاء دون عمل أو نَصَب.

***

مشكلة الخير المجاني

يكمن صلف شبهة الشرّ المجاني في استفزازها المؤمنين أن يأتوا بتفسير مباشر أو مفصّل لما يبدو من شرّ بلا ظاهر حكمة، لكنّ هذا الإلحاح الإلحادي على الوصول إلى جواب ملموس حيني يتلاشى عندما يسأل المرء عن سبب وجود الخير المجانيّ. والمقصود بالخير المجاني في عالم ميكانيكي أو عشوائي يسير على غير هدى هو في أضيق تعريف ممكن: “كلّ خير لا يخدم وظيفة إبقاء الإنسان أو الكائنات الحيّة على قيد الحياة، أو لا يقتصر على ذلك.

من أهم مظاهر الخير المجاني “الدماغ البشري”؛ إذ إنّ الطاقة الذهنية التي تطلب منه لتحقيق أسباب الحياة أدنى بكثير من طاقاته الكامنة فيه؛ فالإنسان “البدائي” الذي يعيش في غابات الأمازون قادر على طلب الغذاء والسقاء والسكن ودفع شرّ الحيوانات الضارية، وهذا أمر من الممكن تفسيره ضمن آلية التطوّر الداروينية (وإن كنّا لا نقبلها)، التي تزعم “بقاء الأصلح”، أي القادر على التعامل مع أسباب الحياة ومواجهة عوامل الانقراض والفناء، لكنّ الداروينية تقف عاجزة عن تفسير وجود عقل (الشافعي) و(ابن حزم) و(إسحاق نيوتن) لأنّ هذه العقول تكشف عن ملكات تتجاوز بكثير حاجات البقاء؛ فعبقرية التأصيل المعرفي والحفر الفكري والاختراع ليست شرطًا للبقاء، ولا محلّ لها في آليتَيّ الطفرات العشوائية والاصطفاء الطبيعي. وتسمّى هذه الحقيقة اصطلاحًا بـ”مفارقة والاس” “Wallace’s Paradox” نسبة إلى (ألفرد والاس) (Alfred Wallace)، وهو عالم تطوّري معاصر (لتشارلز دارون)، كان قد توصّل إلى جوهر المفهوم التطوري الدارويني، غير أنّه خالف (دارون) في أمر الوعي الإنساني؛ إذ قرّر أنّ هذا الوعي هو نفحة إلهية ولا يقع ضمن الآلية المادية للتطوّر لأنّ التطوّر لا يملك تفسير الخير المجاني في الملكة الاستعرافية البشريّة والتي تتجاوز طلب أساسيات البقاء.

ومازالت مسألة الوعي البشري –في حده الأدنى-نفسه معضلة في المنظومة الداروينية، أو بعبارة العالم التطوّري (س أو. سميث) –صاحب كتاب “نحو فهم للدماغ”- في مقاله “مشكلة (داروين) التي لم تُحل”: “مازالت مشكلة [داروين] الأولى بلا حل… ربّما كنّا أقرب من قبل إلى فهم كيف نشأ العالم الحي على سطح هذا الكوكب… ولكننا لسنا أقرب في الفهم من داروين بعد قرن ونصف من معرفة أمر كيفية… الوعي الحسّي”.[74] فالفهم المادي عاجز عن تفسير الوعي نفسه، فضلًا عن الوعي الفائض عند الإنسان.

ومن مظاهر الخير المجانيّة، هذا الجمال المفرح في الكائنات، إذ إنّنا إن قبلنا جدلًا الداروينية كتفسير أقصى لظهور هذه الكائنات، فسنبقى نسأل عن الأشكال الجمالية الماتعة في الكون والتي لا تقترن بسبب جبري لوجودها! ولذلك يقول (ستيوارت برجس) (Stuart Burgess) -أستاذ التصميم والطبيعة ورئيس قسم الهندسة الميكانيكية في جامعة برستول-: “الجمال الزائد [عن الضرورة]… يمثّل حجّة قويّة جدًا للتصميم، لأنّه لا يوجد سبب ميكانيكي لنشأة جمال المظهر”.[75]

قال تعالى: {وَالأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُون وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُون}،[76] فالجمال مخلوق قصدًا لإمتاع الإنسان، مع ما في الكون من وسائل الدفء والاغتذاء، وهو ما يؤكد أنّ الجمال مخلوق لذاته، وأنه حقيقة موضوعية قائمة بنفسها بما فيها من صفات في الأشكال والألوان والإيحاء الذهني.

ومن مظاهر الجمال المنعش ريش الطاووس بتناغم ألوانه وأشكاله وبهائه الذي يستوقف البصر قسرًا، وقد كان (داروين) –كما يقول بلسانه في رسالة إلى (أسا غراي) (Asa Gray) -عالم النبات الأمريكي المشهور- سنة 1860، أي بعد سنة من نشر “أصل الأنواع”- يشعر بأزمة فكرية كلّما رأى ريش الطاووس: “منظر ريش ذيل الطاووس يجعلني أشعر بالسقم كلّما أمعنت النظر فيه”؛[77] فهو يندّ عن تفسيره المادي لنشأة الكائنات، والذي يقوم على فكرة “بقاء الأصلح” “survival of the fittest”، غير أنّ (داروين) طوّر بعد ذلك نظريته في كتابه “The Descent of Man, and Selection in Relation to Sex” الصادر سنة 1871م، ليزعم أنّ جمال ريش الطاووس يعود إلى آلية “الاصطفاء الجنسي” “sexual selection”؛ إذ تختار الأنثى الذكرَ الأجمل للتزاوج، وهو ما يعني بقاء الأجمل وانقراض الأدنى جمالًا. وهذا الردّ قاصر وساقط؛ ويتمثّل قصوره في أنّ “الاصطفاء الجنسي” –إن صحّ كتفسير- يفسّر بقاء الأجمل ولا يفسّر ظهور الأجمل، وقضيتنا هنا ليست لِمَ عاش الطاووس الجميل؟، وإنّما لِمَ ظهر ابتداءً على هذا الشكل البديع؟، وأمّا سقوطه فيعود إلى بحث أجراه مجموعة من العلماء في اليابان رأَسهم (ماريكو تكهاشي) (Mariko Takahashi) من جامعة طوكيو، وأثبت بعد دراسات وأبحاث متأنيّة لسبع سنوات أنّ إناث الطاووس لا تهتم بجمال الذكور عند التزاوج[78]، بما يبطل وهم (داروين)، ويفتح في نظريّته شرخًا جديدًا. ثمّ إنّ الحل الذي أورده (داروين) لم يزده إلا رهقًا؛ فقد أعرب (داروين) عن انبهاره بوجود حاسة تذوق الجمال عند أنثى الطاووس،[79] لكنه لم يفسّر لنا أصل القدرة على تذوّق الجمال في العجماوات، ولا هو قدّم داعي غلبة الحس الجمالي في الحيوان على ضرورة التمويه (camouflage) لكي لا تكتشف الحيوانات الأخرى هذا الكائن فتفترسه، ولا طبيعة التعقيد الجمالي في الريش، وهي مشاكل تضاف إلى رصيد حجة الخير المجاني في عالم مادي صرف.

والجمال مهيمنٌ حتى على عالم الرياضيات، وهو عالم مجرّد بصورة بحتة، وقد اعترف بسحره حتى (برتراند راسل) الذي أقرّ أنّ “الرياضيات لا تملك بحقٍ الحقيقة فقط، وإنّما أيضًا أقصى الجمال”.[80] وهذا الجمال سر غير مادي لا يملك له العقل تفسيرًا ماديًا، كما أنّه قد أصبح عنصرًا أساسيًا في قبول النظريات العلمية ورفضها، حتى قال (أينشتاين): “النظريات الفيزيائية الوحيدة التي نحن على استعداد لقبولها هي الجميلة منها” ” The only physical theories that we are willing to accept are the beautiful ones”.[81]

إنّ الجمال هو قانون علمي ناطق في الوجودين الذهني والمادي؛ ولذلك كتب (ج.ه. هاردي) (G. H. Hardy) في مؤلفه “دفاعُ عالمِ رياضيات”: “يجب أن تكون أنماط علماء الرياضيات جميلة كأنماط الرسّامين والشعراء؛ فالأفكار كالألوان والكلمات، لا بدّ أن تتآلف بصورة متناسقة. إنّ الجمال هو أوّل اختبار: لا يوجد محل دائم في العالم للرياضيات القبيحة“.[82] وقال عالم الرياضيات والفيزياء الفرنسي (هنري بوانكري) (Henri Poincaré): “الإحساس بجمال الرياضيات، وبتناسق الأرقام والأشكال، وبالأناقة الهندسية… [هذا] الشعور الجمالي الحقيقي الذي يعترف به كلّ علماء الرياضيات الأصيلين” يشكّل “غربالًا دقيقًا“.[83]

إنّ واقع هذا الخير المجانيّ أفصح من أن يلاجج فيه ملاجج؛ فإنّ النعم التي تحيط بالإنسان كثيرة ومتنوعة، وهي توفّر له أسباب المتعة والنشوة والفرح، وهي التي تشدّه إلى هذا الوجود رغم ما فيه من شرّ، وتربط على قلبه إذا ضربته المحن. والحق هو أنّ هذه النعم لا تظهر في بعض أمور مشتتة وخيرات مبعثرة، وإنّما العقل والعلم يدركان أنّ الكون بأكمله مسخّر للإنسان، ليحفظ بقاءه ويحفظ متعه، إلّا ما شذّ من مكدّرات.

قال تعالى: {أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلاَ هُدًى وَلاَ كِتَابٍ مُّنِير}.[84]

{اللّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَّكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الأَنْهَار وَسَخَّر لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَآئِبَينَ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَار وَآتَاكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّار}.[85]

{هُوَ الَّذِي أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء لَّكُم مِّنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُون يُنبِتُ لَكُم بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالأَعْنَابَ وَمِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُون وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالْنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالْنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُون وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الأَرْضِ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَذَّكَّرُون وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُواْ مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُواْ مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُون وَأَلْقَى فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَارًا وَسُبُلاً لَّعَلَّكُمْ تَهْتَدُون وَعَلامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُون}.[86]

إنّ هيمنة الخير المجانيّ على مظاهر حياتنا الطبيعية لا يمكن أن تفسّر إلا بواحد من أربعة أسباب:

الأول: العبث! وهو جواب ينتهي إلى أنّ الحكمة البارعة قد تخرج من رحم العشوائية العمياء.. وهذا عين الجفاء!

الثاني: الضرورة! وليس وراء الضرورة ما يفسّر حتميتها .. وليس في نقض ذا عناء!

الثالث: الوهم! وهل ينكر المحسوس عاقل -إلّا أن يشاء-؟!

الرابع: إله كامل القدرة والرحمة .. وليس في معقولية هذا الجواب خفاء!

ومن الطريف هنا أنّ من الملاحدة من يستدلون بالخير المجاني لإنكار وجود الله، بالقول : لماذا يكون خلق الكون بعظمته الآسرة للألباب، وجماله الآخذ بالأبصار، لأجل هذا الإنسان التافه في كرة الأرض التي لا تساوي حبة رمل في هذا الكون الفسيح؟! وكأنّهم يحسبون أنّ الله سبحانه يفتقر إذا أعطى، أو يضنّ بالعطاء لمن كان قليل الحظ من العظمة، وربّنا يقول: {أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا}.[87] وقال سبحانه: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُواْ بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاء}.[88]

وهكذا هو الإلحاد، يستدلّ بالشيء وضدّه إذا أعوزه البرهان الصادق!

  1. Daniel T. Snyder, “Surplus Evil,” in The Philosophical Quarterly, Vol. 40, No. 158 (Jan., 1990), p. 78
  2. Wykstra, “Difficulties in Rowe’s Argument for Atheism, and in One of Plantinga’s Fustigations against It,” read on the Queen Mary at the Pacific Division Meeting of the American Philosophical Association, 1983; “The Humean Obstacle to Evidential Arguments from Suffering: On Avoiding the Evils of ‘Appearance’,” International Journal for Philosophy of Religion 16 (1984), pp. 73–94; “The ‘Inductive’ Argument from Evil: A Dialogue” (co-authored with Bruce Russell), Philosophical Topics 16, pp. 133–60; Alston, “The Inductive Argument from Evil and the Human Cognitive Condition,” Philosophical Perspectives 5, pp. 29–67; van Inwagen, “The Place of Chance in a World Sustained by God,” in Divine and Human Action, ed. T. Morris (Ithaca: Cornell University Press, 1988); “The Magnitude, Duration, and Distribution of Evil: A Theodicy,” Philosophical Topics (1988); “The Problem of Evil, the Problem of Air, and the Problem of Silence,” Philosophical Topics (1991).
  3. William L. Rowe, The Problem of Evil and Some Varieties of Atheism, p.336
  4. أنكر بعض الثيوديسيين تعارض المقدمة الأولى مع الإيمان بإله الأديان السماوية، بالزعم أنّ وجود الإله الكتابي لا يتعارض مع وجود الشر المجاني. وفي دعواهم نظر، انظر Daniel and Frances Howard-Snyder, “Is Theism Compatible With Gratuitous Evil?”, in American Philosophical Quarterly Volume 36, Number 2, April 1999, pp.115-130.
  5. Michael Murray and Michael Rea, An Introduction to the Philosophy of Religion (Cambridge; New York: Cambridge University Press, 2008), pp.165-178.
  6. علاء الدين البخاري، كشف الأسرار عن أصول فخر الإسلام البزدوي (بيروت: دار الكتب العلمية، 1418هـ/1997م)، 1/90-91.
  7. Jane Mary Trau, “Fallacies in the Argument from Gratuitous Suffering,” in The New Scholasticism 60 (4): 489.
  8. William Hasker, The Triumph Of God Over Evil: Theodicy For A World Of Suffering, Downers Grove, Ill.: IVP Academic, 2008, p.178.
  9. F. J. Fitzpatrick, “The Onus of Proof in Arguments about the Problem of Evil,” in Religious Studies, Vol. 17, No. 1 (Mar., 1981), p.34
  10. Richard M. Gale, ‘The problem of evil’, in Chad Meister and Paul Copan, eds. Routledge Companion to Philosophy of Religion (London ; New York : Routledge, 2013), p.464
  11. William Alston, “The Inductive Problem of Evil,” in Philosophical Perspectives 5 (1991): 59-60
  12. Ibid., 65
  13. تعرّب أحيانا: “نظرية الفوضى” أو “نظرية الهرجلة”. وهي نظريّة مُسَلَّمَة عند عامة الملاحدة في الغرب.
  14. Edward Lorenz.
  15. Jennifer Jeanine Thweatt-Bates, Chaos Theory and the Problem of Evil, A Thesis Presented to the Faculty of the Graduate School Abilene Christian University, 2002, pp.69-71 (manuscript).
  16. Thomas F. Heinze, The Vanishing Proofs of Evolution (Ontario, Calif.: Chick Publications, 2005), pp.41-42
  17. F. J. Fitzpatrick, “The Onus of Proof in Arguments about the Problem of Evil,” p.25
  18. Lee Strobel, The Case for Faith, 2000
  19. Stephen J. Wykstra, “The Humean Obstacle to Evidential Arguments from Evil: On Avoiding the Evils of ‘Appearance’,” p. 92
  20. William P. Alston, “The Inductive Argument From Evil and the Human Cognitive Condition,” p.35
  21. الحديث هنا عن القضايا العينيّة وليس عن جنس الشر، ولذلك نحن لا نتناقض بالقول بالحكمة في مجموع الشر، والإقرار أنّنا لا نستطيع أن نجزم (والحديث هو عن الجزم لا الترجيح والاجتهاد) بالحكمة المعيّنة وراء كلّ ابتلاء.
  22. William P. Alston, “The Inductive Argument,” p.44
  23. F. J. Fitzpatrick, “The Onus of Proof in Arguments about the Problem of Evil,” p.29
  24. طريقة علميّة استنبطها علماء الفلك لتقدير المسافة التي تفصلنا عن النجوم، وذلك بملاحظة موقعها منّا في فترات مختلفة مع تغيّر موقع الأرض منها.
  25. Wykstra, “The Humean Obstacle to Evidential Arguments from Suffering”, p.91
  26. M. B. Ahern, The Problem of Evil, p.50
  27. William P. Alston, “The Inductive Argument From Evil and the Human Cognitive Condition,” p.36
  28. [البقرة:30]
  29. [البقرة:30]
  30. ابن تيمية، مجموع الفتاوى، 8/513-514
  31. ابن القيم، شفاء العليل، ص438.
  32. Stephen J. Wykstra, The Humean obstacle to evidential arguments from suffering: On avoiding the evils of “appearance”, in International Journal for Philosophy of Religion (1984) 16 (2):73 – 93 (1984)
  33. Plantinga, Warranted Christian Belief (New York: Oxford University Press, 2000), p.67.
  34. ابن الجوزي، تلبيس إبليس، تحقيق: السيد الجميلي، بيروت: دار الكتاب العربي، 1985م، ص85
  35. [الكهف/60-82]
  36. [البقرة:29]
  37. [النحل:8]
  38. [غافر:79]
  39. [المؤمنون:21-22]
  40. Michael J. Murray, Nature Red in Tooth and Claw: theism and the problem of animal suffering (Oxford; New York: Oxford University Press, 2008), p.42
  41. Rene Descartes, A Discourse on Method, trans. John Veitch (London: Dent, 1957), pp. 44ff.
  42. Stewart Guthrie, ‘Anthropomorphism: A Definition and a Theory’, in Anthropomorphism, Robert Mitchell et al. eds. (Albany: State University of New York Press, 1997) p.53.
  43. كيف يظنّ ظان أنّ ألم الحيوان مجانيّ، والرسول صلّى الله عليه وسلّم يخبرنا أنّ الله سبحانه غفر لبغيٍّ ذنوبها لداع واحد فقط، وهو أنّها سقت كلبًا (رواه البخاري)، كما أخبرنا الرسول صلّى الله عليه وسلّم أنّ امرأة دخلت النار في هرّة لم تطعمها ولم تتركها تبحث لنفسها عن طعام (رواه البخاري)؟! والرسول صلّى الله عليه وسلّم هو القائل: “في كل كبد رطبة أجرًا” (رواه البخاري)!
  44. C. Stephen Layman, Letters to Doubting Thomas: A Case for the Existence of God, p.17
  45. Hugo van Lawick and Jane Goodall, Innocent Killers (Boston: Houghton Mifflin, 1971), p.13.
  46. H. David Baldridge, Shark Attack (New York: Berkeley Medallion Books, 1975), p.222.
  47. Michael J. Murray, Nature Red in Tooth and Claw, p.52
  48. Ibid., p.53
  49. Ibid., pp.56-7
  50. Leslie Pearce Williams, ed., Buffon: A Life in Natural History (Ithaca, N.Y.: Cornell University Press, 1997), p.245
  51. Gilbert Ryle, The Concept of Mind (New York: Barnes and Noble, 1949), p.203.
  52. Peter Harrison, “Theodicy and Animal Pain,” in Philosophy, Vol. 64, No. 247 (Jan., 1989), 86
  53. Ibid., p.91
  54. [الأعراف:156]
  55. Hubert S. Box, The Problem of Evil, pp.50-53
  56. [البقرة:3].
  57. قال بهذا القول جون هك، لكنه يرى أنّ الشر الذي يبدو مجانيا حجة ليسعى المرء ليهذب نفسه؛ فإنّ العالم الذي تبدو فيه الشرور معقولة لا يحفّز النفس على أن تصلح أمرها وتترقى. وما تمّ الردّ به على هك لا يخلو من صواب؛ إذ تزيد هذه الشرور على حاجة النفس لإصلاح أمرها، لكنها لا تصحّ على الصيغة التي قررناها في الأعلى لأنّ من طبيعة الشبهة أن تحمل النفس على التفكّر والريبة.
  58. Chad Meister and James K. Dew, God and Evil, p.39.
  59. Ibid, p.41
  60. Ibid, p.48.
  61. الصواب أن نقول: “مُعَلّل”.
  62. Peter van Inwagen, The Problem of Evil, p.114
  63. Daniel Howard-Snyder, “God, evil, and suffering,” in M. J. Murray, ed. Reason for the Hope Within (Grand Rapids: Eerdmans, 1999), p.95
  64. F. R. Tennant, Philosophical Theology II (Cambridge: Cambridge University Press, 1928), pp.199-200.
  65. B. Reichenbach, Evil and a Good God (New York: Fordham University Press, 1982), pp.103–104, 107-108.
  66. على استثناء نوادر المعجزات والكرامات.
  67. [العنكبوت:64]
  68. Chad Meister, Evil: A Guide for the Perplexed (London; New York: Continuum, 2012), pp.95 ff.
  69. القول إنّ أبناء الكفار في الجنة، هو مذهب جمهور العلماء، كما نقله ابن حزم.
  70. رواه الترمذي، وحسّنه الألباني وعبد القادر الأرناؤوط.
  71. رواه مسلم.
  72. Stephen Maitzen, “Ordinary Morality Implies Atheism”, in European Journal for Philosophy of Religion 1:2 (2009), 123
  73. قال صلّى الله عليه وسلم: “صِغَارُهُمْ دَعَامِيصُ الْجَنَّةِ يَتَلَقَّى أَحَدُهُمْ أَبَاهُ، أَوَ قَالَ : أَبَوَيْهِ فَيَأْخُذُ بِثَوْبِهِ ، أَوَ قَالَ : بِيَدِهِ … فَلَا يَتَنَاهَى ، أَوَ قَالَ : فَلَا يَنْتَهِي حَتَّى يُدْخِلَهُ اللَّهُ وَأَبَاهُ الْجَنَّةَ ” رواه مسلم.
  74. C. U. Smith, “Darwin’s Unsolved Problem: The place of consciousness in an evolutionary world” in Journal of the History of Neurosciences, 19: 2, 3 May 2010: 119
  75. Stuart Burgess, Hallmarks of Design (Epsom: Day One, revd edn, 2002), pp. 73–74.
  76. [النحل:5-6].
  77. Frederick Burkhardt et al., The Correspondence of Charles Darwin (Cambridge; New York: Cambridge University Press, 1993), 8/140.
  78. M. Takahashi et al., in Animal Behaviour 75(4):1209–1219, 2008.
  79. Darwin, The Descent of Man )London: John Murray, 1888), p. 349.
  80. Bertrand Russell, Mysticism and Logic (Dover Publications, 2013), p.47.
  81. Graham Farmelo, It Must be Beautiful: Great Equations of Modern Science (Granta Books, 2002), p.xii.
  82. David Orrell, Truth or Beauty: Science and the Quest for Order (New Haven: Yale University Press, 2012), p.3.
  83. Ibid.
  84. [لقمان:20]
  85. [إبراهيم/32-34]
  86. [النحل/10-16]
  87. [الزُّخرُف:32]
  88. [المائدة:64]

© جميع الحقوق محفوظة لمبادرة البحث العلمي لمقارنة الأديان