منهجنا في النظر

 

اقرأ! لا لتعارض أو تدحض رأي غيرك، ولا لتؤمن به أو تسلّم له، ولا لتجد فيه موضوع حديث وكلام، ولكن لتزنه وتعتبره.

فرنسيس بيكون

بعد أن كشفنا لك ما ليس من مذهبنا ولا مبدئنا عند النظر في مشكلة الشرّ، لا بدّ أن نوضّح مسلكنا، وطريق النظر الذي نترسم معالمه لدراسة الشبهة؛ فإنّ مقدمات القول أساس لفهم تفاصيل الحل، وبها ينجلي غمام الريبة عن تماسك التصوّر الذي تحيك الألفاظ معانيه.

حتّى لا نجور على الخصم

تسعى هذه الدراسة التي بين يديك إلى ألّا تغادر الحجّة الموضوعيّة التي لا يتمارى فيها المسلم وغير المسلم، لأنّ الغاية ممّا نكتب هي دفع الشبهة عمّن داخَلَ قلبه كِير الفتنة، أو الردّ على من تصدّى لأهل الإيمان ليشككهم في دينهم، ففي كلتا الحالتين، لا يُفترض في خطابنا أن ينطلق مع المخالف من التصديق بخبر القرآن والسنّة، لأنّ مخالفنا لا يقرّ للكتاب والسنّة بالحجيّة. ولا يتعارض هذا الأمر مع نقلنا أحيانًا آيات وأحاديث ندعم بها موقفنا، ونجلّي بها مذهبنا، فإننا نفعل ذلك إمّا استدلالًا بالحجّة العقلية الواردة في نصوص الوحي -فليست الحجة في النص وإنما في ما يحتجّ به النص-، أو لنبيّن مذهبنا التصوّري في القضايا الوجوديّة من خلال نقل ما جاء في الوحي، وهذا من باب الإبانة عن التّصوّر لا الاستدلال له.

مبدأ النظر

يقوم هذا البحث على مجموع أصول تصوّرية، أهمها:

  • عدل الله سبحانه هو في وضع الشيء في محلّه اللائق به، والظلم هو “وضع الشيء في غير موضعه”، وهو مذهب أهل الحديث، على خلاف مذهب القائلين إنّ العدل هو “تصرّف المالك في ملكه” وإنّ الظلم هو “تصرّف المالك في غير ملكه”.
  • لا يجوز أن يقاس الله سبحانه بعباده؛ ولذلك فالعدل الإلهي أعلى وأدق من العدل بالمعنى البشري، على خلاف فهم “التشبيهيين” للعدل.
  • أفعال الله معلّلة، ففعله سبحانه صادر عن حكمة بالغة لأجلها فعل، وناشئ عن أسباب بها فعل،[1] على خلاف من ينفون الحكمة في أفعال الله.
  • الله سبحانه عليم، محيط بكلّ معلوم، لا يعزب عن علمه شيء، جليله ودقيقه، على خلاف قول من ذهب إلى أنه سبحانه يعلم الكليّات دون الجزئيّات.
  • للإنسان إرادة، على خلاف قول الجبريّة الذين يرون الإنسان أسير حتميات قدريّة.

مراجع النظر

الكتابات ذات الطابع الإسلامي التي عرضت لهذا الموضوع بصورة مباشرة، نادرة في حدود اطلاعي، ولا أعلم في المكتبة الإسلامية مؤلّفًا رصده صاحبه لبحث هذا الموضوع حصرًا من منطلق عرض الشبهة الإلحاديّة والرد عليها، وإنّما يأتي الكلام عامة في ثنايا حديث المؤلّفين عن قضايا أعم.[2]

أهم من كتب في هذا الموضوع بِنَفَس سُنيّ هو الإمام (ابن القيّم) رحمه الله، خاصة في بعض أبواب كتابه النفيس “شفاء العليل”، و(لابن تيميّة) كلام في الموضوع، لكنّه مشتت في كتبه ورسائله، وقد جمعه المستشرق (جون هوفر) (Jon Hoover) في أطروحة دكتوراه نشرها بعنوان “Ibn Taymiyya’s Theodicy of Perpetual Optimism” (2007م)،[3] ولعلّ أفضل ما فيها جمعها أقوال (ابن تيميّة) في المسألة مع عزوها إلى مظانها من المؤلفات المنشورة. وفي ما يبدو لي فإنّ (ابن القيم) كان أوفر العلماء نجاحًا في عرض مذهب أهل السنّة وبيان أوجه الرد على شبهات المخالفين،[4] ثم لا يجد الباحث بعد ذلك في الكتابات السنيّة القديمة غير قبسات متفرّقة هنا وهناك، ويبدو أنّ ذلك يعود إلى أنّ هذه القضيّة لم تكن تشكّل تحديًا حادًا للعقيدة السنيّة في تلك الفترة. أمّا في كتابات المعاصرين، فإنّ أشهر من كتب في الموضوع، ولو باقتضاب شديد، (عبّاس العقّاد)، وله في الموضوع كلام مستجاد، نقلتُ عامته في هذا الكتاب، ولـ(سعيد النورسي)[5] التركي أيضًا كلام مستملح في الموضوع، خاصة في “رسائل النور”.[6]

وقد أكثرت النقل في الكتاب الذي بين يديك، عن الفلاسفة والمفكرين الغربيين على تعدد مشاربهم وأديانهم، وذاك مني لسببين: أولهما أنّ مشكلة الشر قديمة قدم الإنسان، وقد تناولها المفكّرون المؤمنون بالرب الخالق منذ أمد سحيق، وخَطَّ حبرُهم ردودًا عقلية ماتعة في دفع الشبهة وصدّ الريبة،[7] والمسلم أحقّ الناس بهذا الحق، سواء صدر ممن اكتملت هدايته واستقام على طريق الأنبياء أو ممن هو دون ذلك. والسبب الثاني هو أنّ هذه الشبهة يروّجها الملاحدة، ولا تكاد تتداولها الدراسات الإسلامية الخالصة إلّا يسيرًا. وكثير من المروجين لهذه الشبهة أو المفتونين بها، قد استجلبوها من المكتبة الغربية، وروّجوا لها على أنها نهاية الفكر الغربي وخلاصة عصف النقد الفلسفي، ونحن هنا نبيّن أنّ العقل الغربي لم يُسبل يد المناجزة أمام هذه الشبهة، بل قاومها وأصابها في مقتل.

ولا تعني الإفادة من المكتبة الغربية أنّ طرحنا ليس إسلامي المشرب، سنيّ المحتِد، وإنّما استطاعت الكتابات الغربية التعبير بصورة واضحة ومباشرة عن كثير من حقائق القرآن أو المعاني العقلية التي يهدي إليها الوحي أو لا يردّها لتناسقها مع قوله؛ فالتصوّر الإسلامي هو الذي يحدّد معالم الطريق وكثيرًا من تفاصيله.

شروط الجواب الإسلامي

يرنو هذا الكتاب إلى تقديم جواب إسلامي للوجه الإلحادي لمشكلة الشر، ولتحقيق ذلك لا بدّ أن تتوفّر فيه شروط الجواب الصحيح، ومعالم الطبيعة الإسلامية، أي إنّه يجب أن يتوافق مع المتطلّبات التالية:

  1. أن يستمد أصوله من الكتاب والسنّة. ولا يُشترط التصريح بالنصوص إذا كانت المعاني معلومة.
  2. ألا يضم في مبادئه ومقولاته ما يخالف قطعيات العقيدة الإسلامية.
  3. ألا يتعسّف في استنطاق النصوص الشرعية.
  4. أن يكون متناسقًا داخليًا، فلا تتنافر دعاويه.
  5. أن يتعرّض لمشكلة الشر مباشرة، ولا يحوّم حولها.
  6. أن يتعرّض للشر وأنواعه كما نختبره نحن اليوم.
  7. أن يجيب على أسئلة الشر الأكثر ذيوعًا، وعلى صيغها الأقوى كما تطرح في كتابات فلاسفة الإلحاد.
  8. ألّا يستخفّ من جهة بتحديات الشرّ العقديّة والأخلاقية، وألا يستسلم لعاطفية الموضوع من جهة أخرى.
  9. أن يراعي حدود الملكة الإدراكية للإنسان؛ فلا يخوض بالعقل في غير مضماره.

منهج الدراسة

تُطرح قضيّة “مشكلة الشر” كمبحث فلسفي للاعتراض على منظومة لاهوتية بعينها عجزت عن أن تنشئ توافقًا ضمن مقولاتها المعترفة بوجود الشر والعاملة في نفس الحين على صياغة تصوّر أنطولوجي للمؤمن، كما تطرح بصورة أعم من طرف الملاحدة باعتبارها مانعًا دون التسليم بوجود ربّ خالق للكون.

منهجنا في الرد على هذه الشبهة قائم على التعريف بمضمونها، والرد عليها من أوجه كثيرة تفي –بإذن الله- بالغرض، مع تحرّي الإيجاز الذي يحقّق المراد، كلّ ذلك في سياق سُنيّ بحت خاضع لمحكمات العقيدة ومتجانف عن شطحات الفرق المخالفة من أهل القبلة.

ومن وعود هذا الكتاب أنّه يسعى أن يقدّم لك خلاصة أفضل الدراسات المعمّقة والجادة في الردّ على هذه الشبهة في المكتبة الغربيّة. وسيجد القارئ –بإذن الله- بعد قراءته هذا الكتاب يسرًا وأريحيّة في التعاطي مع المراجع الغربيّة في دراسة هذا الموضوع؛ إذ ستنكشف أمامه مسارات النظر الفلسفي والجدل المعرفي وأوجه التنازع وأبواب المدافعات، ليكون هذا الكتاب بذلك مدخلًا لقراءات أوسع في الموضوع.

حدود الدراسة

موضوع شبهة الشر واسعة أطرافه، فهو يتّصل اتّصالًا وثيقًا بمواضيع أخرى تتماس من أكثر من جانب مع حوافه، وقد اخترنا مع ذلك تضييق أضلاع الحديث في هذا الموضوع لأسباب معتبرة، منها:

1-الأصل أن يقترن الحديث عن الشرّ ضمن الردّ على الدعاوى الإلحاديّة ببيان الأدلّة الإيجابيّة لوجود الله، كدليل حدوث العالم وحاجته إلى خالق يخرجه من العدم (kalam Cosmological Argument)، ودليل التصميم والغائية الثابتة في عناصر الكون المعقّد التركيب، بما يثبت أنّ وراء إيجاد المخلوقات خالقًا قديرًا حكيمًا (Teleological Argument)، وأنّ الإيمان بالله هو الداعي الوحيد للإيمان بموضوعيّة القيم الأخلاقيّة (Axiological Argument)، ودليل الفطرة، ودليل النبوّة، ودليل المعجزة…الخ، إذ إنّه ليس من الإنصاف أن يحسم العقل القول في مسألة وجود الله بقصر النظر على جانب الادعاء السلبيّ، وإنّما لا بدّ من استيعاب النظر لمعادلات الرؤية الكليّة ليُدفع بالواضح الغائم وبالمحكم المتشابه،[8] غير أنّنا اخترنا ألّا نمدّ أطراف البحث إلى هذه المساحة الشاسعة لأننا سنصدر بإذن الله كتابًا ضمن هذه السلسلة يتناول الدلائل الإيجابيّة القاطعة بوجود الخالق جلّ جلاله.

2-شبهة الشرّ لها وجهان، وجه عقلي وآخر نفسي، الجانب العقلي منها متعلّق بما يبديه الملاحدة من زعم يدّعي أنّ عالمنا بما فيه من شرور ينفي وجود إله خالق له، أمّا الجانب العاطفي، فهو مرتبط بما تبديه النفس البشريّة المرهفة الشعور، عند هضيمة تنالها أو غضاضة تلحقها، من تسخّط عارم وكدَر يضعف القدرة على الاستمتاع بالحياة والنظر إليها نظرة إيجابيّة.

حديثنا في الكتاب الذي بين يديك منصرف بالكليّة إلى مناقشة الاشتباه العقلي، ولذلك فقد يعاب على هذا البحث جفاف مادته، واقتصاره على النظر العقلي البحت، وربما لا يجد المبتلى فيه سلوانًا لقلبه المحزون ولا شفاءً للألم الذي يأكل من سكينة نفسه إذ لم نَعرض في حديثنا لما يطفئ أُوار توجّعه لفوات نعمة أو نزول رزيّة. وقد تحاشينا الحديث في الجانب العاطفي حتى لا نُتّهم بمنافرة العقل ودغدغة نفوس المبتلين بمستعذبات الأوهام والأماني. إنّ المكتبة العربية بحمد الله زاخرة بزخم هائل من الكتابات والدروس الصوتية والمرئية التي تروي ظمأ العاطفة وتداوي جرحها، أما هنا، فليس لنا إلّا أن نردّ على شبهة إلحادية مصدرها العقل القلق بجواب عقلي ينقض دلالة وجود الشر على نفي الخالق سبحانه، غير مدابرين حقّ العاطفة وحظّها، ولذلك نستنطق العاطفة حين يكون لصوتها صدى يستحث العقل أن يبصر ما وراء الظلال من معان تنبض بمعان بارقة تعلو فوق لجاجة المشاكسة والظن.

3- لم نتعامل مع الموضوع المطروق بتوسّع يراد منه بسط المعارف وعرض المذاهب، وإنّما قصرنا الجهد على عرض الشبهة وردّها بالحجّة، مراعاة لحجم الكتاب، ولعلمنا بعزوف القرّاء عن تصفّح المطوّلات!

وأخيرًا أقول: لقد اطّلعت على مساهمة و(يليام ب. أَلستون) (William P. Alston) –رئيس الجمعية الفلسفية الأمريكية في السبعينات من القرن الماضي- في التعاطي مع قضيّة الشرّ، وأنا في آخر مراحل إعداد مسودة الكتاب، فتبيّن لي أنّني وهو نشترك في جوهر النظر إلى فساد هذه الشبهة (مسألة القصور الإدراكي، ووجود عدد كبير من الأجوبة المختلفة ذات الطبيعة التعاضديّة لتفسير إيجابي مَرضي لوجود الشر الذي يبدو مجانيًا. وسيأتي شرح ذلك لاحقًا).. وهذا يؤكّد أنّ الردّ على شبهة الشكّاكين لا يقوم على إسقاطات دينيّة مسبّقة، وإنّما في الكون دليل على قولنا وإن اختلفت الانتماءات الدينيّة للناظرين.

  1. (لابن القيم) كلام نفيس في التدليل على هذا الأمر من نصوص الوحي بما لا مزيد عليه لمن أنكر الحكم والعلل الغائية في أفعال الله، انظر شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل، القاهرة: دار التراث، 1398هـ/1978م، ص380-413.
  2. تطرح هذه القضية أساسا عند مناقشة قضية القضاء والقدر واتصالها بالموقف من حرية الإرادة في التصور العقدي الإسلامي، ولا يكاد يخرج مجال النظر هنا عن مناقشة موقف المعتزلة القدري، ثم موقف الأشاعرة الجبري، انظر مثلا محمد السيد الجليند، “قضية الخير والشر لدى مفكري الإسلام” (القاهرة: دار قباء الحديثة، 2006م، ط6). وقد درست المستشرقة الإيطالية (Ida Zilio-Grandi) مسألة الشر في التصوّر الإسلامي في كتابها “القرآن والشر” (il Corano e il Male) (Torino: Einaudi, 2002) (وفي مقالها عن “الخير والشر” في “المعجم القرآني” “Dictionnaire du Coran” (Ed. Mohammad Moezzi (Paris: Robert Laffont, 2007), pp.131-134))، ورغم أنّها اهتمت بصورة كبيرة بأقوال المفسّرين إلا أنّ بحثها لم يكد يتجاوز ما قرره المعتزلة وخاصة الزمخشري، والأشاعرة، وعلى رأسهم الرازي، ولم يكن لأهل الحديث مكان في هذا الدرس.
  3. وقد أشار إلى أنّ إشكالية الشر في كتابات (ابن تيمية) “لم تحظ بدراسة جادة” (Jon Hoover, Ibn Taymiyya’s Theodicy of Perpetual Optimism (Leiden : Brill, 2007), p.177)
  4. كتاب “شفاء العليل” (لابن القيم) نادرة من نوادر المكتبة الإسلامية، وهو يمثّل موقفًا إسلاميًا من قضية الشر حقيق بأن يمثّل الموقف السنّي في حوار العقائد، غير أنّ (ابن القيم) كان مهمومًا إلى درجة الاستغراق بالنزاعات في عصره بين الفرق الإسلامية، وهو ما لا يعني في مجمله القارئ المعاصر، مسلمه وأعجميه، ولذلك فإننا نرجو لهذا الكتاب أن يجد من يهذبه ويعيد ترتيب مواده ليُعرض في شكل حديث يوافق أسئلة العصر.
  5. عالم تركي، من أهم من كتب في الرد على الملاحدة في القرن العشرين. وقد كان يعتمد في ردوده النظر التأملي في بدائع الكون واستثارة حاسة التذوّق الجمالي عند القرّاء.
  6. دُرس مذهب النورسي في مشكلة الشر في كتاب: Ibrahim M. Abu-Rabiʻ, ed. Theodicy and Justice in Modern Islamic Thought: The case of Said Nursi (Farnham, Surrey; Burlington, VT : Ashgate Pub)., 2010
  7. الدراسات المؤلّفة في “مشكلة الشر” في المكتبة الغربية كثيرة جدًا، عرضًا وانتصارًا ورفضًا. انظر في عرض أحدثها: Michael L. Peterson, “Recent Work on the Problem of Evil,” in American Philosophical Quarterly , Vol. 20, No. 4 (Oct., 1983), pp. 321-339; Barry L. Whitney, Theodicy: An Annotated Bibliography on the Problem of Evil, 1960-1991 (Bowling Green, OH: Philosophy Documentation Center, Bowling Green State University, 1998); Trent Dougherty, “Recent Work on the Problem of Evil,” in Analysis 2011 7,1: 560-573.
  8. يقول الفيلسوف (دوغلاس جيفت) (Doug Geivett): “يلزم من إثبات وجود الله أنّ الشر ليس بأمر حقيقي، أو أنّ حقيقة الشر تتوافق مع وجود الله”.Doug Geivett, Evil and the Evidence for God: The Challenge of John Hick’s Theodicy, (Philadelphia: Temple University Press, 1993), p.61.

© جميع الحقوق محفوظة لمبادرة البحث العلمي لمقارنة الأديان