الطريق الخطأ إلى الجواب

 

ليس العالم هو الذي يعطي أجوبة صحيحة، وإنما هو الذي يسأل الأسئلة الصحيحة

كلود ليفي شتراوس

القارئ في المكتبة الضخمة للإلهيين (مسلمين ونصارى …) يلحظ أنّ حجم البذل الذهني لفهم مشكلة الشرّ كبيرٌ وعاصف، وأنّ تاريخ الإجابة على مشكلة الشرّ ثري بالأطروحات المتنوّعة التي قدّمتها عقول كبيرة وأقلام مجتهدة، غير أنّه يعيب عامة هذه الأجوبة أنّها لم توفّق إلى أن تجمع بين الاستيعاب والواقعيّة. أقصد بالاستيعاب أن تكون الأجوبة محيطة بالشرّ كمظهر متعدد الأشكال والمصادر، وبالواقعية ألا تتجرّأ على نفي المعلوم البدهي أو المحسوس الثابت.

لم تُخفِ ضخامة الأجوبة قصور الكثير منها في إصابة الحقيقة أو ملازمة الدقة أو بسط ظلّها على جميع مادة السؤال، وهو ما وجد فيه فلاسفة الإلحاد حجّة للقول بنهاية الثيوديسيا إلى إعلان عجزها؛ ولذلك يحسن بنا في البدء أن نتناول أشهر الأجوبة التي يكثر تداولها عند الإلهيين، والتي نرى أنّها معيبة بالخلل أو مشوبة بالقصور حتّى لا يظنّ متعجّل أنّ كتابنا يقع في ذات سياق هذه الأجوبة، فيرميه –كما رمى غيره- بنصال الإبطال أو الإعضال!

[1] لا وجود للشرّ: ليس للشّر وجود، وإنّما هو مجرّد وهم (illusion)، أو تصوّر ذهني لشيء غير قائم، أو بعبارة (برتراند راسل) في عرضه لهذا القول: الشر هو العالم السفلي للأوهام التي يجب أن نحرّر حواسنا منها.

أشهر من تنسب إليهم هذه النظرية هم أتباع الهندوسية، إذ إنّ الشر عندهم مجرّد (مايا) أي وهم (وإن كان يشكّك البعض في أرثودكسيّة هذه النسبة[1])، وكذلك هو قول عدد من المتصوّفة في كثير من الأديان.

لا يحتاج هذا المذهب إلى عناء لنقضه؛ إذ إنّه يخاصم البداهة العقليّة والحسيّة. بل إننا حتى لو قبلنا هذا المذهب فلن نخرج من إشكال وجود الشرّ؛ إذ إنّ وهم الشرّ نفسه شرٌّ بما يمثّله من تجربة مؤلمة ومزعجة.

ويقابِل المذهب السابق ما تقرره البوذية من أنّ الوجود شر محض، وما الخير إلا وهم، وسبب الشر هو رغبتنا في الوجود، ولا سبيل لمواجهة الشر إلا بالفناء في “النرفانا”. وهي دعوى تصادم المحسوس من حال السعادة والنشوة والفرح في قلوبنا وعقولنا، وواقع النظام والجمال والغائية في عالمنا.

[2] الشرّ سرٌ محض: المقصود بمعنى كلمة “سر” “mystery” ما يتجاوز قدرة الوعي البشري على الإدراك. وقد ذهب طائفة من الفلاسفة إلى القول إنّ ما يبدو شرًّا في الكون هو محض سرٍ التحَفَ بُرْدَ الغموض وسدّ عن وعينا المنافذ، ولذلك فلا يجوز أن نجرؤ على وصفه بأنه “شرّ”؛ إذ إنّ العلم بحقيقته متعذرٌ لجهلنا المطبق بأغراض الخلق الإلهي، ولذلك فإنّه علينا أن نسلّم أننا أعجز من أن نصم شيئًا ما في وجودنا بأنّه شرٌّ لأننا على عماية تامة بالحكمة الإلهية الخارقة.

لا يملك المسلم أن يتبنّى هذا الطرح لسببين، أوّلهما أنّه يؤول إلى إنكار “الخير” في هذا الكون؛ لأنّنا إذا أنكرنا قدرتنا على معرفة الشرّ للقصور التام لمداركنا عن إدراك مرادات الله من أفعاله في الكون، فعلينا عندها أن ننكر وجود الخير أيضًا؛ إذ إنّ عجزنا عن معرفة مقاصد الربّ في ما يبدو شرًا لا يختلف في أصله عن العجز عن معرفة مرادات الربّ في ما يبدو خيرًا. وهو ما يؤول بنا إلى نوع صارخ من اللاأدرية. وثانيهما أنّ القرآن يخبرنا أنّ الشرّ حقيقة كونية، قائمة، ومعلومة. قال تعالى: {وَإِذَآ أَنْعَمْنَا عَلَى الإِنسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ كَانَ يَؤُوسًا}[2]

[3] الكون الشفّاف: يقف على الطرف الأقصى المقابل للقائلين إنّ الشرّ سرّ محض، القائلون إنّ الكون يشفّ عن كلّ ما وراءه من خير وشرّ، فكلّ فعلٍ في الكون مردّه إلى أعيان مخصوصة من الحِكم التي من الممكن للبشر إدراكها (وهذا قول بعض المؤلّهة)، أو أنّ الكون ليس إلّا مجرّد تفاعلات مادية يتيح لنا العلم معرفتها، وإن على مراحل، بتقدّم معارفنا العلميّة (وهذا قول عامة الملاحدة).

لا تأخذ هذه النظرة بعين الاعتبار طبيعة التعقيد البالغة للحقيقة الكونية، وهي لذلك تندفع بحماسة للقول بإمكان الوصول إلى النهايات دون أن تقدّم مبرراتها المعرفية للقول بكمال العقل البشري أو شفافية الوجود.

يغفل الملحد في حماسته المتّقدة أنّ دعوى الإمكان دون برهان ليست أكثر من زعم إيماني مجرّد من الدليل، كما يغفل المؤمن بالله أنّ القول بكمال حكمة الله لا يقتضي أن يطلعنا الله –سبحانه-على كلّ مقصد له من فعله، فإنّ في الإظهار كما الإخفاء حكمًا بالغة، فمن الحكمة مثلًا ألا يخاطب الله الإنسان بما لا يبلغ عقله إدراكه، كما أنّ من الحكمة ألّا يخاطبه بما يفسد الحكمة من خلقه، وهي الاختبار في هذه الحياة…

ليس في هذا التقرير دعوة إلى الإيمان الأعمى الذي يردّنا إلى دين الخرافة، ولا هو تحريض على الكسل العقلي، وإنّما هو إقرار عاقل بأنّه وإن كان العقل البشري قادرًا على استجلاء كثير من الحكم التي وراء وضع الأشياء على ما هي عليه، إلّا أنّه يبقى مع ذلك محدودًا بقصور آلته ومجال وعيه. ليس في هذه الدعوة إلى التواضع الإبستيمولوجي هروب من مشكلة الشر، وإنّما هي دعوة إلى الجديّة في تناولها بعيدًا عن حماسة التبرئة أو الإدانة.

لا شكّ أننا في حاجة إلى أن نبحث في الحكمة التي وراء هذه الشرور التي تملأ عالمنا لكن يجب ألّا ننجرف إلى وهم القدرة على الإحاطة بجميع جزئيات الجواب، سواء بالسلب أو الإيجاب. إنّ سؤالنا في حقيقة الأمر لا يطلب تقريرًا تفصيليًا عن الحكمة وراء كلّ ما يبدو شرًا في هذا العالم، وإنّما هو في تناول سؤال: “إذا كان هناك إله، فهل من الممكن أن تكون له حكمٌ، معلومة أو مجهولة وإن كانت ممكنة عقلًا، للسماح للشرّ أن يكون موجودًا في هذا العالم؟”. إننا لا نبحث عن كلّ حكمة متحققة وراء كلّ شرّ في العالم بعينه، وإنّما غايتنا أن نبحث في استحالة أن يكون وراء هذا الشرّ حكم متحققة أو ممكنة. ونحن بذلك نراعي طبيعة قصورنا العقلي في تناول أمر يقع جانب منه وراء حجب الغيب. ولا يتعارض ذلك مع أننا نسعى إلى تقديم ثيوديسيا لا مجرّد دفاع، لأنّ الثيوديسيا لا تزعم الإحاطة بكلّ تفصيل وإنما تتميّز بقدرتها على بذل الجواب العام على السؤال والإفاضة في التفصيل عند الإمكان.

[4] شر بوجه واحد: تتجاهل الأجوبة العجِلة حقيقة أنّ مشكلة الشر هي على الصواب والدقّة “مشكلة الشرور”، فإنّ الشرور في عالمنا على أكثر من نوع ومصدر وطبع، كالشرّ الطبيعي والأخلاقي والميتافيزيقي من جهة، والإشكال المنطقي والآخر البرهاني من جهة أخرى… وغير ذلك من التقسيمات التي تمنع أن نقول في الشر قولًا واحدًا يجمع أنواعه المختلفة في سكّة واحدة وقبلة متّحدة، ولذلك فإنّ الجواب عن شبهة الشرّ يجب أن يبتعد عن الإجمال، وأن يجنح إلى التخصيص، كما أنّ على المعارض ألّا يفرح بظفر ظرفي –واهم- لأننا رددنا بوجه معيّن على نوع من الشرور، ولم يفِ الجواب ببيان الحكمة من وراء الأنواع الأخرى، فإنّ لحديثنا تتمّة تسعى أن تفي لعامة أنواع الشرّ بالجواب الكافي.

[5] جواب بوجه واحد لمشكلة الشرّ: إذا كان الشرّ ليس أحادي الوجه فإنّه يلزم من ذلك ألّا يكون الجواب أحادي اللون. وقد تنوّعت الأجوبة، ومنها الاستدلال بمنّة حريّة الإرادة، وتحقيق الفضائل وتنمية الذات، والوجه الإسخاطولوجي … وهي على الحقيقة أجوبة متكاملة لا متعارضة.

ومن دلائل عجز الملاحدة عن رؤية الحكمة في ما يزعمون أنّه شر مجاني، بحثهم عن حكمة واحدة كليّة أرضيّة تستوعب مآلات كلّ الشرور.[3] والحقّ أنّ الحكمة الأرضيّة (غير الأخروية) من هذه الشرور متعددةٌ، متلونة بألوان نفسيّة واقتصاديّة واجتماعية…، ولازلنا في كلّ يوم نكتشف حكمًا لم نعرفها من قبل، ولذلك فإنّ ما يشترطه الملاحدة من حجّة أحادية الوجه والقبلة، خطأ، وما يفعله كثير ممن كتبوا في الثيوديسيا بالاقتصار على وجه واحد في التعليل خطأ أيضًا. وقد أحسن (ابن تيمية) إذ قال: “ونحن لا نحصر حكمته في الثواب والعوض، فإن هذا قياس لله تعالى على الواحد من الناس، وتمثيل لحكمة الله وعدله بحكمة الواحد من الناس وعدله‏”.[4]

ومن الناحية العملية أقول: إنّ الخطأ ثابت في أجوبة المؤمنين أكثر منه في ردّ الملاحدة؛ إذ إنّ الكثير من النظريات الثيوديسيّة تختزل الجواب عن وجود الشر في هذا العالم في: الشيطان، أو الامتحان الإلهي، أو العقاب الإلهي، أو التعويض الإلهي يوم القيامة، أو الإرادة الحرة، أو غير ذلك من الأدلة التي هي في الحقيقة جزء من الجواب عن الحكمة من وجه من أوجه الشر.

[6] طلب جواب بسيط: من إشكالات الحلول المطلوبة (والمطروحة أيضًا في ثيوديسيا “المؤمنين”) أن يُطلب منها أن تقدّم جوابًا قاطعًا لكلّ إشكال، ليخرج الأمر من دائرة النظر الذي يُبتغى منه إدراك الحق إلى مجال المشاغبة المجرّدة، دون مراعاة لعمق الموضوع وسعته وقصور أدوات التفكير البشري؛ ولذلك علينا أن نميّز –عن وعي- بين ما يملك العقل –استقلالًا أو استرشادًا بالوحي-جوابه بصورة حاسمة، وبين ما لا يملك له جوابًا نهائيًا أو جوابًا تفصيليًا. والعبرة هي في كليّة الجواب وقدرته على دفع الشبهة، فأن يكون الجواب قادرًا على نفي دلالة الشبهة على نفي وجود الخالق، دون أن يقدّم الجواب التفصيلي، كاف في مقامنا في هذا الكتاب لتحقيق مراد المؤلّف والقارئ المتشكّك، وذاك هو المسمّى “بالدفاع”. ونحن نعتقد أنه بإمكاننا من خلال الحل الثيوديسي أن نقدّم ذلك، ونزيد عليه بالكشف عن عدد ضخم من الحكم الإلهية لوجود الشرّ، والتي لا يكاد يفلت من جنسها شرٌ على الأرض.

[7] التفسير التفصيلي: أدرك الفلاسفة الملاحدة أنّ النقاش حول الشر كمفهوم تجريدي أو كأنواع كبرى واقعيّة قد أفسد عليهم شبهتهم، فعمدوا إلى التركيز في النقاش على الأعيان الذريّة للشر، أي الأشكال التفصيليّة له، سائلين عن الداعي المباشر الذي تتوفر فيه معاني الرحمة والحكمة لإحداث شرّ عينيٍّ مخصوص.

لا يساهم هذا المنهج البتّة في حلّ الإشكال ولا يراعي واقع الكون المتشابكة خيوطه والمتداخلة منافعه، ولا الغايات النهائية في الدنيا أو في ما وراء الدنيا. كما أنّه يتجاهل أنّ الحكمة المطلوبة وراء الأحداث الصغرى تكون في كثير من الأحيان جزئيّة لا تمثّل في التصوّر التجزيئي معنى واضحًا، بمعنى أنّ الشر الذي يقع في حادثة معيّنة، تكون الحكمة من ورائه معقولة فقط إذا نظرنا إلى نوع هذا الشر كجنس لا كعين معيّنة. ففَقْد حبيب من أحبّتنا، خسرنا بموته قلبًا محبًا، ولسانًا ناصحًا، ويدًا على الخير معينة، قد يبدو لو اُخِذ بمعزل عن الوجود، شرًا لا تُعرف له حكمة، لكن لو نُظر إلى موت الإنسان كنوع من أنواع الشر؛ لانفتحت أمام الذهن معان ساطعة من الحكمة، بل لاستبان لنا أنّ الموت رحمة بالميت (المؤمن) إذ يعاجل به إلى النعيم (في البرزخ)، ورحمة له من أمراض الدنيا، ورحمة بالبشر إذ يدرون نعمة الصحة وقيمة الحياة، ورحمة بالوجود الحي على الأرض؛ إذ إنّ انتفاء الموت يعني تراكم الأحياء على هذه الأرض وإفناءهم خيراتها… وغير ذلك مما يصعب استقصاؤه.

[8] إنكار الكمال الإلهي: تتّفق العقائد الأرثودكسيّة الإسلامية واليهودية والنصرانية على تقرير كمال علم الله، وقدرته وأنّه سبحانه غير محدود صفات العظمة والجلال. وقد ادعى بعض الثيوديسيين المعاصرين وجود تضاد بين وجود الشرّ ودعوى الكمال الإلهي، فقالوا -صيانةً لصفة الخيرية والرحمة في الذات الإلهية- إنّ الربّ -سبحانه- غير كامل العلم أو القدرة، ولذلك تسلل الشر إلى عالمنا، ولا يملك الله له دفعًا. وقد عبّر (فيليب يانسي) (Philip Yancey) عن هذه الحال بالقول إنّ الثيوديسيين القدماء كـ(أوغسطين) و(الأكويني) و(كالفن) تقبلوا وجود الشر لكنهم حاولوا تبريره، في حين تذهب كتابات المعاصرين (والصواب عندي: بعضهم) إلى قبول إشكالية الشر ولكن مع مراجعة الفهم التقليدي الألوهي لصورة الخالق؛ فالأوائل رأوا الإشكال في فهم مغزى الشر وبعض الأواخر رأوا الإشكال في فهم حقيقة الله.[5]

رغم غرابة هذا التصوّر الثيوديسي وشناعته إلاّ أنّ بعض من وقف للردّ على شبهة الشر قالوا به، ولعلّ أشهرهم الحبر اليهودي (هارولد س. كوشنر) (Harold S. Kushner) في كتابه الذي حقّق عددًا كبيرًا من المبيعات: “عندما تحدث الأمور السيئة لأناس طيبين” (1981م) مقررًا أنّه وإن كان الله كامل الخيريّة إلا أنّه ليس كاملًا في قدرته.

يُنسب هذا المذهب عامة إلى مدرسة ” Process theism ” التي ترى محدودية السلطان الإلهي في الكون! فإلهها أشبه ما يكون بصانع الساعات الذي يلفّ زرّها الجانبي ثم يترك الساعة تعمل وحدها، وهو أشبه ما يكون بإله (أرسطو)، غير أنّ إله (أرسطو) ينصرف عن العالم لأنه أدنى من أن يكون محلّ اهتمامه، في حين أنّ إله هذه الطائفة من اللاهوتيين يمعنه عجزه عن أن يفعل فعله الكامل في العالم.

من المثير في هذا الباب أنّ عامة اللاهوتيين والفلاسفة النصارى في الغرب اليوم لا يرون “ثيوديسيا[6] محدودية القدرة الإلهية”، بل إنّ لهم في نقدها عبارات لاذعة. ووجه الاستغراب الذي أبديه نابع من حقيقة أنّ التوراة الحالية تنسب إلى الربّ الكثير من صفات النقص والعجز، كنص سِفر التكوين 6/6: “فَحَزِن [וינחם=فندم!] الرَّبُّ أَنَّهُ عَمِلَ الإِنْسَانَ فِي الأَرْضِ، وَتَأَسَّفَ فِي قَلْبِهِ.” وهو تعليق ورد بعد ذكر انتشار الشّر والفساد بين الناس في حقبة من التاريخ السحيق! لقد أهمل علماء النصارى صريح كتابهم خضوعًا منهم لداعي الفطرة والعقل السويّ من أنّ الربّ الخالق حريٌ أن يكون كاملًا في سلطانه وعلمه كما هو في خيريّته، فكيف إذن بالمسلم الذي وافق صحيح نقله صريح عقله في أنّ لله الصفات العلى والأسماء الحسنى؟! فهو إذن أبعد الناس عن مذهب (كوشنر) وأضرابه.

[9] الخطأ في تعريف عدل الله: اتّفق المسلمون على تعدّد مذاهبهم أنّ الله سبحانه عدلٌ لا يظلم عباده، غير أنّه اشتهر من أقوالهم مذهبان في معنى العدل/الظلم الإلهي، أحدهما أنّ الظلم ليس بممكن الوجود؛ إذ إنه في التعريف، إمّا التصرّف في ملك الغير أو مخالفة الآمر، وكلاهما ممتنع في حق الله؛ إذ هو المالك لكلّ شيء، وليس فوقه آمر. وهذا التعريف مخالف لمقتضيات دلالات النصوص القرآنيّة التي تمدح أفعال الله سبحانه وأنهّا موافقة للعدل والحكمة والرحمة. كما أنّ من أوجه فساده أنّ الإنسان قد يتصرّف في ملك غيره ولا يكون ظالما، كما أنّه قد يتصرّف في ملكه على غير الحكمة فيكون ظالما، وقد تكرّر لذلك في القرآن الحديث عن ظلم الإنسان نفسه.[7]

ما العدل الإلهي إذن في المذهب الثاني؟ عرّف (ابن تيميّة)، و(الماتريدي)،[8] و(الغزالي)[9] العدل على أنّه من أفعال الحكمة. قال (ابن تيمية): “الظلم وضع الشيء في غير موضعه، والعدل وضع كلّ شيء في موضعه، وهو سبحانه حَكَمٌ عدلٌ يضع الأشياء موضعها، ولا يضع شيئًا إلّا في موضعه الذي يناسبه وتقتضيه الحكمة والعدل، ولا يفرّق بين متماثلين، ولا يسوّي بين مختلفين، ولا يعاقب إلّا من يستحق العقوبة فيضعها موضعها لما في ذلك من الحكمة والعدل”.[10] وهذا المذهب موافق للمنقول والمعقول، ولذلك لا يحقّ لمؤلّه أن يعترض على ملحد ينكر الحكمة من وجود الشرّ بالقول إنّ الظلم في حقّ الله سبحانه ممتنع للامتناع العقلي لذلك، وإنّما عليه أن يبيّن مسالك الحكمة والتعليل لأفعال الله جلّ وعلا.

[10] أفضل العوالم الممكنة: قال الفيلسوف (برترند راسل) –أحد أعمدة الإلحاد الحديث- في كتابه “لماذا أنا لست مسيحيًا”: “إنّه من المدهش أنّه عندما ننظر إلى حجّة التصميم (argument from design) هذه، نجد أنّ الناس بإمكانهم أن يؤمنوا أنّ هذا العالم، بكلّ الأشياء التي فيه، بكلّ عيوبه، ينبغي أن يكون العالم الأفضل الذي أمكن لكائن كليّ القدرة والعلم أن ينشئه في ملايين السنين. أنا لا أستطيع في الحقيقة أن أومن بذلك”.[11]

ولخّص (مايكل مارتن) -الفيلسوف الملحد، وأحد منظّري الإلحاد ومؤطّريه اليوم- هذه الدعوى –قبل أن يردّ عليها-، فقال: “يقرّر أحد المذاهب الثيوديسيّة أنّ هذا العالم هو أفضل العوالم الممكنة، وأنّه رغم ما في عالمنا من شر، فإنّ كلّ عالم آخر ممكن سيكون من ناحية إجمالية أسوأ من عالمنا بأن يكون أعظم شرًا أو أقلّ خيرًا. دَرَس الله بمعرفته الكليّة كلّ العوالم الممكنة، وطبقًا لهذه الثيوديسيا، اختار بفضله التام أفضل عالم من العوالم الممكنة، وجعله واقعًا، وبالتالي فإنّ الشر في عالمنا ضروري. ورغم أنّ الله كامل القدرة، إلّا أنّه ليس بإمكانه أن يفعل أفضل مما فعل”.[12]

قلت:

أولا: نحن لا ندعي أن هذا العالم هو أفضل الممكن.

ثانيا: نحن نقرّ أنّ الله سبحانه قد وضع قصدًا في الأرض أسباب التعب والمكابدة، وأنّ الحياة الدنيا لا تحقّق للإنسان السعادة القصوى التي يريدها، ولم يرد الربّ –سبحانه- لهذا العالم أن يكون بلا نقص في أشيائه، فقد خلق فيه المرض والموت؛ ولذلك فإنّ اعتراض (راسل) لا معنى له أصلًا؛ لأنّه اعتراض على معدوم واقعًا ودعوى. [13]

ثالثا: من الناحية المنطقيّة الصرفة، لا يلزم من كون الله كاملًا، أن يخلق عالما كاملاً؛ فإنّ كمال الصانع لا يلزم منه كمال المصنوع؛ إذ إنّ دواعي الخلق عديدة ومتنوعة، وليس يفترض أن تؤول كلّها إلى أن يكون المخلوق مثاليًا.

رابعا: مفهوم “أفضل العوالم” مشكل عقلًا؛ إذ إنّ كلّ حال للعالم من الممكن تحسينه بزيادة النعم أو تخفيف الشرور والنقائص؛ فبعد كل عالم فاضل عالم أفضل.

خامسا: مقولة “أفضل العوالم” عند من نافح عنها من مشاهير لاهوتيي النصارى والمسلمين ليست بالسذاجة التي يصوّرها الملاحدة؛ إذ إنّ هؤلاء اللاهوتيين يقررون أنّ عالمنا هو الأفضل في حصيلته النهائية، لا في أفراده، كما أنّهم يرون أنّ هذه الأفضلية لا تتحقق إلا بالنظر إلى تناسقه ومعرفة أهمية وجود الإرادة الإنسانية الحرّة. ونحن وإن كنّا نخالف مذهبهم إلا أننا ننكر على الملاحدة تشويههم لفكرة “أفضل العوالم” قبل نقدها.

سادسا: العالم الكامل الذي يطلبه الملحد هو العالم الذي يحقّق للإنسان أقصى أسباب السعادة، وليس عالمنا ذاك العالم، لأنّ الله سبحانه لم يخلق الإنسان على هذه الأرض ليسعده وإنّما ليختبره.

سابعا: إنّ القول إنّه ليس بإمكان الله أن يخلق أفضل من هذا العالم، باطل عقلًا وشرعًا. قال (ابن حزم): “ومن قال إنّه ليس عند الله، عزّ وجلّ، أصلحُ ممّا عمِل بنا، لأنّه لو كان عنده أصلح مما فعل بنا، ولم يعطنا إيّاه لكان بخيلًا، محابيًا، فهو كافر من وجهين:

أحدهما: أنه عجّز ربه، تعالى، فجعله عاجزًا مطبوعًا، لا يقدرُ إلّا على ما في قوّته أن يأتي به فقط، وهذه صفة منقوص البنية، متناهي القوّة، ذي طبيعة، تعالى الله عن ذلك علوًا كبيرًا.

والوجه الآخر : تكذيبه القرآن فيما أوردناه، ومع ذلك فهو مكابر، لأنه لا يشكّ ذو مسكة عقل في أنه تعالى كان قادرًا على أن يخلقنا ملائكة أو أنبياء كلّنا، أو في الجنة كما خلق (آدم) عليه السلام، ولا يكلّفنا شيئًا، أو أن لا يخلق من يدري أنه يكفر به، أو يعصيه، أو أن يميتهما قبل البلوغ،كما أمات سائر الصبيان.”[14]

إنّ هذا مذهب منتقض بداهة بمعرفتنا أنّ الله قد خلق (آدم) في الجنّة التي هي أفضل من عالمنا، وسيزفّ الناجين يوم القيامة إلى جنّة الجزاء التي هي أفضل من عالمنا. هذا العالم، كما يقول الفيلسوف (ريتشارد سونبرن) (Richard Swinburne) الذي يعدّ من أهم من ردّوا على دعوى (لايبنتس)- ليس أفضل العوالم، وإنّما هو عالم للربّ دواعي وجيهة لخلقه، إذ هو يحقّق غايته من إنشائه من عدم.

وحتّى لا يحصل الالتباس والتوهّم؛ فإنّ النزاع ليس حول تحقيق عالمنا المخلوق للغاية من خلقه، وإنّما حول إمكان خلق عالم أفضل من عالمنا وإن كان ذلك خارج غاية الوجود البشري كما قرّرها الشرع الإسلامي. فالمعترضون من الملاحدة هنا يتحدّثون عن عالم اللذة الذي يحقّق للإنسان المتعة دون منغص من شر وألم بعيدًا عن غائية الخلق ضمن هدفَي الابتلاء والجزاء.

إنّنا نقول إنّ:

  • الله سبحانه قادر على خلق عالم لا يعتوره أي “نقص” بالمعنى الإلحادي؛ إذ هو قادر على إزالة جميع أسباب الألم، وتحقيق غاية الإمتاع للإنسان.
  • الله جلّ وعلا قد خلق هذا العالم الذي يرجوه الملحد، حقيقة لا افتراضًا،[15] وهو الجنّة، لكنّ هذه الجنّة هي جنّة الجزاء وليست محلًا لقبول غاية الخلق المتمثلة في اختبار العباد.

فدعوى سقوط حقيقة وجود الإله لأنّ هذا العالم ليس أفضل العوالم التي من الممكن لإله قادر وحكيم أن يخلقها، قائمة على تصوّر أوّلي باطل، ولذلك فهي تُنازع وهمًا في عقول الملاحدة لا حقيقةً يدّعيها المسلمون.

  1. Wendy Doniger O’Flaherty, The Origins of Evil in Hindu Mythology )Berkeley: University of California Press, 1976).
  2. [الإسراء:83]
  3. See Nick Trakakis, “Is Theism Capable of Accounting for Any Natural Evil at All?,” in International Journal for Philosophy of Religion, Vol. 57, No. 1 (Feb., 2005), pp. 35-66
  4. ابن تيمية، مجموع الفتاوى، المدينة المنورة: مطبعة مجمع الملك فهد، 1995م، 5/124
  5. Philip Yancey, Where Is God When It Hurts? (Grand Rapids, Mich.: Zondervan, 1990), pp.9-10.
  6. لعلّ الأحرى أن توصف بأنها “دفاع” لا “ثيوديسيا”.
  7. انظر ابن تيمية، مجموع الفتاوى، 18/45.
  8. أبو منصور الماتريدي، كتاب التوحيد، تحقيق: فتح الله خليف (الإسكندرية: دار الجامعات المصرية، د.ت.)، ص97
  9. أبو حامد الغزالي، المقصد الأسنى في شرح معاني أسماء الله الحسنى، تحقيق: فضلة شحادة (بيروت: دار المشرق، 1982)، 105-106، غير أنّه في كتابه “فضائح الباطنية” جمع بين القول إنّ العدل هو وضع الشيء في موضعه والقول إنهّ تصرّف المالك في ملكه (تحقيق: عبد الرحمن بدوي، الكويت: مؤسسة دار الكتب الثقافية، ص 104)!
  10. ابن تيمية، رسالة في معنى كَون الرب عادلا وفي تنزهه عَن الظُّلم، ضمن جامع الرسائل لابن تيمية، تحقيق: محمد رشاد سالم (جدة: دار المدني، 1405هـ-1984م) 1/ 123-124
  11. Bertrand Russell, Why I Am Not a Christian: And Other Essays on Religion and Related Subjects )London: G. Allen and Unwin, 1957(, p.10
  12. Michael Martin, Atheism: A Philosophical Justification (Philadelphia: Temple University Press, 1990), p.440
  13. (لايبنتس) هو أشهر من كتب في الغرب في أنّ عالمنا هو “أفضل العوالم الممكنة”، وقد ردّ عليه دعواه (فولتير) في روايته الشهيرة “Candide”.ينسب هذا المذهب إلى (أبي حامد الغزالي)؛ فقد قال في كتابه “الإملاء على إشكالات الإحياء”: “ليس في الإمكان أبدع من صورة هذا العالم ولا أحسن ترتيبًا ولا أكمل صنعًا”. وعلّق (البقاعي) على ذلك بقوله: “قال الحكماء: شيئان لا غاية لهما: الجمال والبيان، فخلق الانسان في أحسن تقويم لا ينفي أن يكون للنوع الذي جعل أحسن أفراد أنواع لما فوقه من الجنس، لا نهاية لأحسنية بعضها بالنسبة إلى بعض… فقدرة الله لا تتناهى، فإياك أن تصغي لما وقع في كتب الإمام الغزالي أنه ليس في الإمكان أبدع مما كان، وإن كان قد علم أنه اعترض عليه في ذلك وأجاب عنه في الكتاب الذي أجاب فيه عن أشياء اعترض عليه فيها فإنه لا عبرة بذلك الجواب أيضا، فإن ذلك ينحل إلى أنه سبحانه وتعالى لا يقدر على أن يخلق أحسن من هذا العالم، وهذا لا يقوله أحد”. (البقاعي، نظم الدرر في تناسب الآيات والسور، القاهرة: دار الكتاب الإسلامي، د.ت.، 20/107). و(للبقاعي) كتاب: “تهديم الأركان من ليس في الإمكان أبدع مما كان” (مخطوط). وردّ (السيوطي) على (البقاعي) في توجيه كلام (الغزالي)، ومما قال فيه: “فكل فعل أوجده الله دلّ إيجاده على أنّ المصلحة في إيجاده أرجح منها في عدم إيجاده، مع صلاحية القدرة قطعًا لعدم إيجاده، وكلّ ما لم يوجده دلّ عدم إيجاده له على أنّ المصلحة في عدم إيجاده أرجح منها في إيجاده، مع قدرته قطعًا على إيجاده، هذا يعني كلام الغزالي، ومقصوده بذلك حثّ العبد على الرضا بقضاء الله، فساقه على ما هو كلامه حتى لا ييأس على شر أصابه ولا خير فاته”. (السيوطي، تشييد الأركان في ليس في الإمكان أبدع مما كان، دار الوعي العربي، 1419هـ-1998م، ص502)، وهو حمل لكلام (الغزالي) على غير الوجه الذي يستنكره عامة الملاحدة. وقد تعرض المستشرق (إريك أورمسبي) (Eric Ormsby) بإفاضة في أطروحته للدكتوراه والتي نشرها تحت عنوان “ Theodicy in Islamic Thought : the Dispute over al-Ghazālī’s “best of all possible worlds ” (1984م) إلى خلاف العلماء المسلمين في قبول عبارة (الغزالي) من القرن السادس هجريًا حتى القرن الثالث عشر، وتأويل طائفة منهم لعبارته بما يدفع عنها الطعن في قدرة الله سبحانه. ويحسن بالمهتم بهذا المبحث أن يراجع كتاب (أورمسبي).
  14. ابن حزم، الدرة فيما يجب اعتقاده، تحقيق: أحمد الحمد وسعيد القزقي، مكة: مكتبة التراث، 1408هـ-1988م، ص311
  15. قال (ابن أبي عز) في شرحه للعقيدة الطحاوية: “أما قوله: إن الجنة والنار مخلوقتان، فاتفق أهل السنة على أن الجنة والنار مخلوقتان موجودتان الآن، ولم يزل على ذلك أهل السنة، حتى نبغت نابغة من المعتزلة والقدرية، فأنكرت ذلك، وقالت: بل ينشئهما الله يوم القيامة. وحملهم على ذلك أصلهم الفاسد الذي وضعوا به شريعة لما يفعله الله، وأنه ينبغي أن يفعل كذا، ولا ينبغي له أن يفعل كذا! وقاسوه على خلقه في أفعالهم، فهم مشبهة في الأفعال، ودخل التجهم فيهم، فصاروا مع ذلك معطلة! وقالوا: خلق الجنة قبل الجزاء عبث؛ لأنها تصير معطلة مددًا متطاولة فردوا من النصوص ما خالف هذه الشريعة الباطلة التي وضعوها للرب تعالى، وحرفوا النصوص عن مواضعها، وضللوا وبدعوا من خالف شريعتهم.فمن نصوص الكتاب : قوله تعالى عن الجنة : “أعدت للمتقين” [ آل عمران : 133]،” أعدت للذين آمنوا بالله ورسله” [الحديد: 21]. وعن النار: ” أعدت للكافرين” [آل عمران : 131]، “إن جهنم كانت مرصادا للطاغين مآبا” [النبأ : 21 – 22 ]. وقال تعالى: “ولقد رآه نزلة أخرى عند سدرة المنتهى عندها جنة المأوى” [النجم: 13 – 15 ]. وقد رأى النبي صلى الله عليه وسلم سدرة المنتهى، ورأى عندها جنة المأوى. كما في الصحيحين، من حديث أنس رضي الله عنه، في قصة الإسراء، وفي آخره: ثم انطلق بي جبرائيل، حتى أتى سدرة المنتهى، فغشيها ألوان لا أدري ما هي، قال: ثم دخلت الجنة، فإذا هي جنابذ اللؤلؤ، وإذا ترابها المسك.” (شرح الطحاوية، بيروت: المكتبة الإسلامية، 1404هـ/1984م، ط8، ص420-421)

© جميع الحقوق محفوظة لمبادرة البحث العلمي لمقارنة الأديان