مشكلة الشر المادي

-ت-

 

تفرّ عامة الخطب الحماسية الإلحادية إلى الشر الطبيعي باعتباره أوضح المسالك لنفي وجود الخالق، فهي تزعم أنّ الآفات الطبيعية برهان غياب الرحمة والعدل في الكون. وتنقسم هذه الآفات إلى نوعين: آفات للإنسان فيها يد، وأخرى ليس له عليها سلطان.

  1. الآفات التي للإنسان فيها يد، مثل تلويث البيئة وإهلاك الحرث…
  2. الآفات التي ليس فيها للإنسان يد، مثل الزلازل والبراكين والمجاعات…

سيقتصر حديثنا هنا عن الآفات الطبيعيّة التي ليس للإنسان فيها يد؛ فقد بحثنا الشرور التي تجري على يد الإنسان في المبحث السابق.

يتشظّى موضوع الشرّ الطبيعي كشبهة إلحادية إلى مجموعة من الأسئلة التي يجب على المسلم أن يوفّر لها أجوبة، وهي:

  • هل في الشرور الطبيعية مطعن في عدل الله؟
  • هل في الكوارث الطبيعية خير يوازيها أو يربو عليها؟
  • هل في القرآن ما يدلّ على هذا الخير؟
  • ما هو موقع النوازل الطبيعية من التصوّر الإسلامي لعلاقة الإنسان بربّه، ومعرفته به، ومعنى الحياة والغاية منها؟

تتداخل الأسئلة السابقة بصورة واضحة، وللإجابة عنها نقول:

أوجه الحكمة في النوائب الطبيعية

كيف بإمكاننا أن ندرك الحِكَمَ من وراء “الشر” الطبيعي؟

يقودنا النظر في الأمور الأربعة التالية:

  1. الطبيعة الماديّة التفصيليّة لهذا الكون.
  2. صفات الله سبحانه.
  3. سبب خلق الإنسان في المعتقد الإسلامي.
  4. الحِكم التفصيلية من وراء النوائب كما جاءت في نصوص القرآن السنّة.

إلى استشفاف حِكَم كثيرة لما ينزل بالناس من أذى بسبب ما يحيط بهم من مخلوقات حيّة وأخرى جامدة بلا حياة. ولعلّنا نسوق بعضها في النقاط التالية، علمًا أنّه لا سبيل لنا لحصر كامل قائمة هذه الحِكَم لقصور مداركنا البشريّة عن الإحاطة بجميع التفاصيل الماديّة لهذا الكون وجميع مرادات الله سبحانه في خلقه.

الشر وقود الخير ومبرّر وجوده والإحساس به

ما “الشر” إذا لم يكن هناك “خير”؟!

إنّ (عامة) الشرّ (وعامة) الخير وجهان لعملة واحدة، لا يكون أحدهما دون الآخر، فهو متمم له أو شرط لازم لتحقيقه، فبوجوده يتمّ الآخر، وبانعدامه ينعدم، فلا معنى للنجدة بغير الظلم، ولا معنى للصفح بغير الإساءة، ولا معنى للهمّة والسعي بغير الحذر من مكروه والشوق إلى مأمول.[1]

وهذا أمر يجري أيضًا على عامة ما نحسه، ونحبّه أو نحذره، فنحن لا نعرف لذة الشبع بغير ألم الجوع، ولا نستمتع بالري ما لم نشعر قبله بلهفة الظمأ، ولا يطيب لنا منظر جميل ما لم يكن من طبيعتنا أن يسوءنا المنظر القبيح.[2]

يقول (إيونج) (Ewing)، أستاذ الأخلاق في جامعة كامبردج: “وإنّها لحقيقة واقعة أنّ ثمّة خيرات … لا تأتي بغير محصول الشر، فكيف تتسنّى الفضيلة مثلًا بغير المغريات والعوائق ومن ثمّ بغير الشر ولو في صورة الألم والعرقلة؟ وكيف توجد شجاعة بغير ألم أو مشقة أو خطر؟ وكيف يوجد الحب في أرفع حالاته التي نعرفها ما لم يكن هنالك داعية للعطف والإشفاق والتضحية … لا بدّ من شر نغلبه كي نحصل على فضيلة الغلبة عليه، وربّما كان هناك ضروب أخرى من الحب والفضيلة كالتي نتخيّل أنّ الكائنات العليا التي تعلو على طوق الإنسان متصفة بها ولا تنطوي على شر من الشرور، ولكنّها –إذا صحّ تخيّلنا- نوع آخر غير حبّنا وفضيلتنا، وكلّما تعدّدت أنواع الفضائل كان ذلك أفضل وأجمل.”[3]

إنّ الشرّ هو الذي ينفث في الخير روح الوجود وريح النسيم، إنّه وقود حركته وسبيل استوائه. إنّ نقص العالم هو الذي يستحث وجودنا إلى السعي إلى الكمال، وإنّ أثقال الشر هي التي تحرّكنا إلى ارتقاء معارج الخير. يقول الفيلسوف الإسكتلندي، (نينيان سمارت) (Ninian Smart): “مفهوم الأمر الحَسَن (good) في تعلّقه بالإنسان مرتبط بمفاهيم أخرى مثل الفتنة والشجاعة والكرم… إلخ. ليس لهذه المفاهيم مجال للوجود إذا خُلق الإنسان كاملًا بلا نقص”.[4] إنّ اتّقاد شرارة الخير في أنفسنا كثيرًا ما يكون أثرًا لاصطدام ذواتنا المجبولة على الخير بشرور العالم الراغبة في الاستحواذ على نوازعنا وأفعالنا. وقد انتهى (ابن القيم) إلى تقرير هذه الحقيقة بعبارة رشيقة في قوله: “إذا كانت الآلام أسبابًا للذات أعظم وأدوم، كان العقل يقضي باحتمالها“.[5]

إنّ عالما -دنيويًا- بلا شر هو كعالم بلا خير، كلاهما بلا روح ولا معنى يسعى إليه الإنسان، وهما يفتقدان الاعتدال والاستقامة. وفي هذا قال (الجاحظ): “لو كان الشرّ صرفًا هلك الخلق، أو كان الخير محضًا سقطت المحنة وتقطّعت أسباب الفكرة، ومع عدم الفكرة يكون عدم الحكمة، ومتى ذهب التخيير ذهب التمييز، ولم يكن للعالم تثبّت وتوقّف وتعلّم، ولم يكن علم، ولا يعرف باب التبيّن، ولا دفع مضرة، ولا اجتلاب منفعة، ولا صبر على مكروه ولا شكر على محبوب، ولا تفاضل في بيان، ولا تنافس في درجة، وبطلت فرحة الظّفر وعزّ الغلبة، ولم يكن على ظهرها محقّ يجد عزّ الحق، ومبطل يجد ذلّة الباطل، وموقن يجد برد اليقين، وشاكّ يجد نقص الحيرة وكرب الوجوم؛ ولم تكن للنفوس آمال ولم تتشعّبها الأطماع… ولو كان الأمر على ما يشتهيه الغرير والجاهل بعواقب الأمور، لبطل النّظر وما يشحذ عليه، وما يدعو إليه، ولتعطّلت الأرواح من معانيها، والعقول من ثمارها، ولعدمت الأشياء حظوظها وحقوقها”.[6]

باختصار في مجال لا يقتضي الإجمال، لن نشعر باللذة على هذه الأرض ونستعذب رُضاب المتعة حتى تختبر أفواهنا طعم المر وتجري على الخد دمعة الحسرة.

الشر ملعقة اللذاذة

قال أهل العقول والخبرة: إنما تعرف الأشياء بأضدادها، فلولا تجربة الحاجة لما كان في الكسب لذة، ولولا تجربة العجز لما كان في القدرة لذة، ولولا العلّة لكانت العافية بلا لذة. وقد أراد الله أن يجعل تجربة المعاناة وآلامها سببًا لمعرفة الخير ونعيمه، ليعرف العبد فضل الله عليه، وليتذوق بلسان التجربة عذوبة النعمة فلا يزهد في قدرها، ويدرك أنه يَفضُل بقية الخلق بما حظي به من خير. [7]

و(لابن القيم) عبارة أنيقة يقول فيها: “قد استقرت حكمته سبحانه أن السعادة والنعيم والراحة لا يوصل إليها إلا على جسر المشقة والتعب، ولا يدخل إليها إلا من باب المكاره والصبر وتحمل المشاق. ولذلك حَفَّ الجنة بالمكاره والنار بالشهوات. ولذلك أخرج صفيه آدم من الجنة وقد خلقها له، واقتضت حكمته أن لا يدخلها دخول استقرار إلا بعد التعب والنصب، فما أخرجه منها إلا ليدخله إليها أتم دخول. فلله كم بين الدخول الأول والدخول الثاني من التفاوت، وكم بين دخول رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة في جوار المطعم بن عدي ودخوله إليها يوم الفتح، وكم بين راحة المؤمنين ولذتهم في الجنة بعد مقاساة ما قبلها وبين لذتهم لو خلقوا فيها، وكم بين فرحة من عافاه بعد ابتلائه وأغناه بعد فقره وهداه بعد ضلاله وجمع قلبه بعد شتاته وفرحة من لم يذق تلك المرارات. وقد سبقت الحكمة الإلهية أن المكاره أسباب اللذات والخيرات كما قال تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُون}.[8]

وربما كان مكروه النفوس إلى *** محبوبها سببًا ما مثلُه سبب”.[9]

إنّ الشرّ يهدينا إلى معرفة الخير، ويرفع في أنفسنا حساسية ذائقة الاستمتاع التي هي أعظم محفّزات الفكر والإرادة والحركة في حياتنا، فكلّما دقّت وتهيّأت لها أسباب الوجود والنماء، كلّما وجد الإنسان لحياته أبعادًا جديدة وآفاقًا أرحب ودوافع أشدّ للسير في الأرض والفعل الإيجابيّ في هذه الحياة. أمّا إذا ضمرت هذه الحاسة، فإنّ الوجود يفقد رحابته وتتكدّر الرؤية بغبش السلبيّة وفقدان المنشود والهروب من الموجود. وفي الانتحار المادي تعبير أقصى عن فقدان ذائقة الاستمتاع؛ إذ تفقد الأشياء والذوات طعومها وألوانها، وتتحوّل الموجودات إلى أثقال ينوء بها الظهر دون أجر من أمل أو فرح أو أيّة لذّة في الروح أو الجارحة.

إنّ في تضاد الخير والشرّ مولدًا لشرارة التنبّه لأعماق الخير الماتعة وتحسّسًا مرهفًا لأهدابها، بل أقول إنّ في هذا التضاد إكسابًا للخير حقيقة خيريّته في النفس، “فبضدّها تعرف الأشياء”، أي إنّها توجِد في النفس ظلّها، ولولا هذا الظلّ لم تكن غير شيء خارجي معدوم الصلة بالذات، فهذا التصادم هو الذي ينقل الخير من شيء متناء عن النفس إلى شيء مدرك له طعم حلو مستعذب.

ظهور حكمة الله وصفاته

قال (ابن القيم): “الحكمة إنما تتم بخلق المتضادات والمتقابلات، كالليل والنهار، والعلو والسفل، والطيب والخبيث، والخفيف والثقيل، والحلو والمر، والبرد والحرّ، والألم واللذة، والحياة والموت، والداء والدواء، فخلق هذه المتقابلات هو محل ظهور الحكمة الباهرة، ومحل ظهور القدرة القاهرة، والمشيئة النافذة، والملك الكامل التام. فتوهم تعطيل خلق هذه المتضادات تعطيل لمقتضيات تلك الصفات وأحكامها وآثارها، وذلك عين المحال. فإنّ لكل صفة من الصفات العليا حكمًا ومقتضيات وأثرًا هو مظهر كمالها، وإن كانت كاملة في نفسها، لكن ظهور آثارها وأحكامها من كمالها، فلا يجوز تعطيله، فإن صفة القادر تستدعي مقدورًا وصفة الخالق تستدعي مخلوقًا، وصفة الوهاب الرازق المعطي المانع الضار النافع المقدم المؤخر المعز المذل العفو الرؤوف تستدعي آثارها وأحكامها. فلو عطلت تلك الصفات عن المخلوق المرزوق المغفور له المرحوم المعفو عنه لم يظهر كمالها، وكانت معطلة عن مقتضياتها وموجباتها. فلو كان الخلق كلهم مطيعون عابدون حامدون لتعطل أثر كثير من الصفات العلى والأسماء الحسنى. وكيف كان يظهر أثر صفة العفو والمغفرة والصفح والتجاوز والانتقام والعز والقهر والعدل والحكمة التي تنزل الأشياء منازلها وتضعها مواضعها؟ فلو كان الخلق كلهم أمة واحدة لفاتت الحكم والآيات والعبر والغايات المحمودة في خلقهم على هذا الوجه، وفات كمال الملك والتصرف، فإن الملك إذا اقتصر تصرفه على مقدور واحد من مقدوراته فإما أن يكون عاجزا عن غيره فيتركه عجزًا، أو جاهلا بما في تصرفه في غيره من المصلحة فيتركه جهلاً.. وأما أقدر القادرين وأعلم العالمين وأحكم الحاكمين فتصرفه في مملكته لا يقف على مقدور واحد، لأن ذلك نقص في ملكه. فالكمال كل الكمال في العطاء والمنع والخفض والرفع والثواب والعقاب والإكرام والإهانة والإعزاز والإذلال والتقديم والتأخير والضر والنفع، وتخصيص هذا على هذا، وإيثار هذا على هذا. ولو فعل هذا كله بنوع واحد متماثل الأفراد لكان ذلك منافيًا لحكمته. وحكمته تأباه كل الإباء، فإنه لا يفرق بين متماثلين، ولا يسوّي بين مختلفين. وقد عاب على من يفعل ذلك، وأنكر على من نسبه إليه. والقرآن مملوء من عيبه على من يفعل ذلك. فكيف يجعل له العبيد ما يكرهون، ويضربون له مثل السوء وقد فطر الله عباده على إنكار ذلك من بعضهم على بعض وطعنهم على من يفعله، وكيف يعيب الرب سبحانه من عباده شيئا ويتصف به، وهو سبحانه إنما عابه لأنه نقص فهو أولى أن يتنزه عنه. وإذا كان لا بد من ظهور آثار الأسماء والصفات ولا يمكن ظهور آثارها إلا في المتقابلات والمتضادات لم يكن في الحكمة بد من إيجادها، إذ لو فقدت لتعطلت الأحكام بتلك الصفات وهو محال.”[10]

حبّ الله لأن يُشكر وأن يَغفر

فضل الله على الخلق عميم، وحقّه سبحانه عليهم واجب، ولذلك فإنّ الشكر هو أحبّ شيء إليه، وقد فاوت بين الناس في النعمة والمرتبة، فكان من الناس الغني والفقير، والصحيح والمريض، وكثير العشيرة واليتيم الفرد، وبهذا التمايز يدرك المنعَّم غزير النعمة وفضل الاجتباء، وهو ما يستحثّ قلبه للشكر ونفسه للطاعة.

وهو سبحانه يحب لعباده أن يؤوبوا إليه تائبين مستغفرين، يقرّون له بالقلب واللسان بالعظمة والفضل، وهو سبحانه يفرح بتوبة العبد، فرحة لا تبلغ العقول قدر معرفتها. ومعلوم أنّ من شروط المغفرة والفرح بها أن يكون هناك مُذنب وذنب، ومن تمام الحكمة تقدير الأسباب ولوازمها، ولذلك قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: “لو لم تذنبوا، لذهب الله بكم، ولجاء بقوم يذنبون فيستغفرون الله، فيغفر لهم.”[11] ولو قضي للبشر بالعصمة لتعطلت صفة المغفرة، فعلى من يتوب الله، وهو واسع المغفرة؟! وعمّن يعفو ويسقط حقّه، وهو أرحم الراحمين؟![12]

إشعار الإنسان بنعمة العافية

إنّ النفس المستسلمة لنعيم الرفاه ولذاذة النعمة وحلاوة اللذّة، لا يمكن أن تهتم بأمر معادٍ ومآلٍ وحسابٍ، إذ هي نفس مترهّلة دوافعها، ضامرة نوازعها، خابية حرارتها، ولذلك فإنّ الآفات الطبيعية التي تصيب الإنسان، كالمرض والجدب ونقص الأموال والثمرات، تنبّه اللاهي إلى نعمة العافية وفضلها، وأنّ الإنسان لم يخلق لهذا الخير الزائل. وفي عبارة شهيرة لـ (سي. س. لويس) (C. S. Lewis) بيانٌ –بصورة مجازية- لقيمة الألم في تنبيه الإنسان الغافل المستسلم إلى متعة النعمة المستقرة، فقد قال: “يهمس الله إلينا في مُتَعنا، ويتحدّث في وعينا، لكنّه يصرخ في أوجاعنا. إنّ ذلك هو بوقه الذي ينبّه به عالما أصمّ” ” God whispers to us in our pleasures, speaks in our conscience, but shouts in our pains: it is His megaphone to rouse a deaf world. “.[13] إنّ الطبيعة البشريّة قد جبلت على الاستسلام للغفلة إذا ركبت متن الراحة واللذة، ولا يكاد يوقظ هذا الكائن الوسنان غير بوق الألم والمحنة؛ فإذا أفاق الإنسان انتبه لحقيقة وجوده وتحرّكت فيه أطراف الهمّة للعمل على إصلاح نفسه إن كان في عقله رجاحة.

استخراج الفضائل الخلُقية من نفوس الناس

في قعر النفوس البشريّة حِزَم من الفضائل الخلقيّة التي تشعّ بها النفس جمالًا وتحقّق في الإنسان كمال صورته الإنسانيّة، وكثيرًا ما تغيب هذه الصفات تحت غلالة النعيم، أو هي مقبورة في الأعماق الدنيا للنفس فلا تستخرجها من مكامنها سوى المشقّات والملمّات؛ فعند الجوع والمسغبة والزلازل، تظهر معاني الشجاعة والكرم والعطاء والتآلف والتحاب ..

إنّ الإنسان الذي يعيش في فسحة السعة وطراوة النعيم، يأتيه رزقه رغدًا، فلا يعرف من آلام الدنيا شيئًا، هو إنسان مخبوء في نفسه، لا يعرف من حقيقته إلّا قشرتها، ولا يدرك من ملكاته غير طاقتي الاستهلاك والاستمتاع.

إنّ محنة اليتم، وفتنة الفقر، وقرصة الجوع، كانت حوافز أساسية في صقل مواهب المغمورين، وتنشئتهم على معاني الجد وروح الصلابة وقيم الثبات، لتصنع منهم أئمة في نحت التاريخ وكتابة الأمجاد.

إنّ معاني النقص في أوضاعنا الشخصيّة، صوت صارخ يستحث أجنّة الخير والحسن في أعماقنا لتَخرج من رحم المحنة نورًا غامرًا تبدّد الظلمة التي تملأ أفق العين. وعندما يستهلّ هذا الجنين حيًا صارخًا ممتلئا بمعاني الجمال، نكتشف أنّ محنتنا الحقيقية لم تكن في أفق ممتد على مدى البصر، مظلمًا، وإنّما في أنّ هذا الأفق لم يكن يبعد عن أعيننا إلا بضعة أصابع، وأنّ وراء تلك الظلمة الكثيفة القريبة عالمًا من نور شاسع؛ فتحريك فضائل الذات الهامدة في أعماقنا، كفيل بأن يطرد الظلمة الواهنة، ليبدو الأفق البعيد بهيًا في جلاله المشرق.

إنّ نعمة إنماء الشخصيّة بتهذيبها من خلال التجارب المؤلمة هي ما يسميه الفيلسوف الثيوديسي الشهير (جون هك) بـصناعة النفس (soul- making) باعتباره مبررًا منطقيًا لوجود الشر في حياتنا؛ فالعالم المبرّأ من الألم –كما يقول (هك)- يحرم الإنسان من تنمية ذاته ويبقيه على نفس الصورة البسيطة التي بدأ منها؛ إذ إنّ “تنمية الشخصية … لا يمكن أن تكون في واقع خامل بلا تأثير ولا خيارات”[14]، والبيئة المبرّأة من الإغراء والإغواء لا تسمح لنا بأن نصف الناس أو بعضهم بالصلاح؛ ولذلك فالحياة في الخطة الإلهية طريق يصعد بالإنسان إلى ذرا المجد بالمشي على مستصعبات الأمور ومدافعة وهن النفس.[15]

ويلخص الطبيب الدكتور (براند) تجربته مع الألم في آخر أيام حياته بقوله: “اعتقدت في فترة من فترات العمر أنّ الألم هو نقيض السعادة. وكنت أرسم رسمًا توضيحيًا للحياة، وهو عبارة عن رسم بياني ذي قمة على كلّ جانب، ومكان منخفض في الوسط. تمثّل القمّة اليسرى خبرات الألم والحزن المؤلم، وتمثّل القمّة اليمنى السعادة والابتهاج، وبين القمتين توجد الحياة العادية الهادئة. وأعتقد أن هدفي من ذلك هو أن أوجّه بحزم نحو السعادة وأبتعد عن الألم. ولكنني الآن أرى الأمور بطريقة مختلفة، فلو رسمت مثل هذا الرسم البياني اليوم، فسوف تكون فيه قمّة واحدة في المنتصف، وما حولها سهول. هذه القمة هي الحياة التي يلتقي فيها الألم والسرور، والسهول المحيطة بها هي النوم واللامبالاة أو الموت.”[16]

اختبار إيمان العباد

إنّ حقيقة الامتحان تقتضي أن يعاني المرء وخز المكاره وقيظ المفاوز حتى يثبت أنّه حقيق بأن يكون من الفائزين. قال تعالى:{أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُون وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِين}.[17] إنّها سنّة الله في خلقه منذ برأ البريّة. إنّها الطريق الذي أُعدّ للخلق؛ فمن تحمّل وخز الشوك وحرّ الرمل وأذى الحصى في هذا الطريق الوعر، فاز، ومن تراخى عن مقاومة الأمر الصعب؛ هلك.

وقال تعالى:{ وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُون}،[18] أي نختبركم {بِٱلشَّرّ وَٱلْخَيْرِ} بالمكروه والمحبوب، هل تصبرون وتشكرون أو تكفرون وتعرضون، والمنحة والمحنة جميعًا بلاء؛ إذ المحنة مقتضية للصبر، والمنحة مقتضية للشكر.[19]

إنّ تقلّب الإنسان بين طباق الشر والخير، مختبَرٌ لإيمانه، وبه ينكشف صدق الولاء للمعتقد الحق، إن كان على دين الحق، وإلّا فهو تحفيز لعقله واستحثاث لقلبه أن يتفكّر ويتدبّر في أمر هذا الخلق، وما وراءه، وأمر هذا الوجود وما يحرّكه.

إنّ في محنة الشر منحة للمهتدين، وحجّة على المخلِدين إلى اللذّة الدانية والمعرضين عن حقيقة الوجود الكبرى التي هي أنّ للعالم خالقًا حقيقًا بأن يُعبد.

إنّ الشر ممثَّلًا في المحن والآفات التي تصيب الإنسان في هذه الحياة هو مادة الامتحان الدنيوي الأولى؛ فلولا المكاره لما كان هناك فرق معتبر بين المجدّ والمتهاون وبين من حفد ومن تراخى. وكما قال الشاعر:

لولا المشقّة ساد الناس كلّهم الجود يفقر والإقدام قَتّال

وقد حفل القرآن بآيات كثيرة في تأكيد الحقيقة الوجوديّة الكبرى للشر باعتباره فتنة للناس؛ فالناس أمام الشر فسطاطان، فسطاط المؤمنين المتجانفين عن الشر، وفسطاط الواقعين فيه بقصد:

{وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاء وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّار أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّار}.[20]

{أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أّن نَّجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاء مَّحْيَاهُم وَمَمَاتُهُمْ سَاء مَا يَحْكُمُون وَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُون}.[21]

{فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنكُم مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُواْ وَأُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِمْ وَأُوذُواْ فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُواْ وَقُتِلُواْ لأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ثَوَابًا مِّن عِندِ اللّهِ وَاللّهُ عِندَهُ حُسْنُ الثَّوَاب}.[22]

إلجاء الإنسان إلى التوبة

كثيرًا ما ينغمس الإنسان المغرور بالمتع واللذائذ القريبة الماتعة، في بحر الغواية، ويوغل في طريق التيه والإعراض عن أمر الله؛ فلا يرى في اللذة الحرام ما يستنكره مادامت تروي غلّته وتشبع نهمته، ولا يرفع رأسه إلى السماء للتفكّر ساعة أو لمراجعة النفس لحظة، فقد غطّى ران الفتنة قلبه؛ فهو لا يسمع غير حسيس المتعة الحرام ولا يرى غير بارقة اللذة النجسة. هنا، تأتيه لسعة الألم الحارقة، كمرض أو فقد مال أو عيال، فترتاع النفس وتتألّم، وتهزّه البليّة هزًا وترجّه رجًا لتنزع عن قلبه قشور الفتنة الرابضة على مسام الإحساس في صدره، فتنفتح عينه على حاله البئيس وإيمانه المهدر المسفوح على أعتاب شهوته الجامحة، فيرفع يد الضراعة طلبًا للصفح والمغفرة إن كان له قلب وسمع، أو يغفل عن هذا التنبيه بعدما مات قلبه ونحرَ روحه المؤمنة.

قال تعالى في خبر ما كان من أمر بني إسرائيل، وما كان من حالهم مع الربّ سبحانه: {وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُون}[23]؛ فقد تفرّق اليهود في الأرض؛ وتعددت بذلك مشاربهم ومذاهبهم. فكان منهم من استقام على صراط التقوى والصلاح، ومن زاغ والتاث بمساوئ الشرك. وظلت العناية الإلهية تواليهم بالابتلاءات. تارة بالنعماء وتارة بالبأساء، لعلهم يرجعون إلى ربهم، ويثوبون إلى رشدهم، ويستقيمون على طريقهم… والمتابعة بالابتلاء رحمة من الله بالعباد، وتذكير دائم لهم، ووقاية من النسيان المؤدي إلى الاغترار والبوار.[24]

وقال تعالى: {وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُون}[25]، فالله سبحانه برحمته الواسعة ينزل البلاء (العذاب الأدنى) على الكفرة في الدنيا حتى تستيقظ منهم العقول وتنتبه القلوب قبل أن يهلكوا وهم على عناد للحقّ ويحيق بهم عذاب الجحيم (العذاب الأكبر). إنّ رحمة الله سبحانه تلاحق من ردّوا رسالة الهدى واستكبروا عنها لعلهم يهتدون، وذلك بسوط الألم المنبّه بقرعه وردعه ليكون لهم زاجر نصيحة، ونذير عظة،زاجر نصيحة ونذير عظة.

إنّ الرحمة الإلهية تريد أن تنتشل التائه من طريق التيه والغافل من طريق الغفلة بما تأتيه من حسنات وما تنزل به من سيئات لعلّه يرجع إلى ربّه.

الشر لتكفير الخطايا

الشر في الدنيا محنة واختبار من جهة، ومن جهة أخرى منّة وعطاء؛ فقد قضى الله برحمته أن يطهّر مَن أصاب السيّئات في الدنيا بعقوبة معجّلة حتى يأتي يوم القيامة وقد تحاتت عنه كثير من الخطايا، أو يأتي بلا خطيئة متخففًا من نير الآثام. قال صلّى الله عليه وسلّم: “ما يصيب المؤمن من نصب ولا وصب ولا همّ ولا حزن ولا أذى حتى الشوكة يشاكها إلا كفّر الله بها من خطاياه”.[26] وقال صلّى الله عليه وسلّم: “لا يزال البلاء بالمؤمن في أهله وماله وولده حتى يلقى الله وما عليه من خطيئة”؛[27] فالمؤمن يستبشر بالمرض إذ يخفف عنه أوزاره ويرفعه إلى المرتبة العليا التي يرجوها في جنّة الخلد. ولذلك لما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على صحابية وهي ترفرف[28]، فقال: ما لك يا فلانة ترفرفين؟ قالت: الحمى، لا بارك الله فيها! قال لها: لا تسبّي الحمى، فإنها تذهب خطايا بني آدم، كما يذهب الكير خبثَ الحديد.[29]

فكما يتأذّى المؤمن إذا عَضّه الشر بنابه فأنهكه، فإنّه أيضًا يستبشر به طُهرة لنفسه من أثقال الذنوب وأحمال الخطايا، حتّى إذا قدِم على ربّه يوم الجزاء، غُمِس في النعيم المقيم فلا وجع معه ولا بعده، لذّة مشرقة بلا كدور ومتعة باقية فلا فتور.

إشعار الإنسان بحقارة الدنيا، إذا أَلِف العافية وذُلِّلت له النعمة

قوارع الدهر الموجعة، كموت الفجأة بسبب حادث من حوادث الطبيعة، تُنبّه الإنسان إلى أنّ الحياة أتفه من أن يستجمع لها كلّ همّه؛ فهي رحلة –مهما طالت- لها خاتمة، ينتهي بعدها كلّ وجود مادي لهذا الكائن على الأرض وكأنّه لم يدبّ على حصى أو رمل. لحظة واحدة تبتر بسيف الحق آمالًا وأحلامًا وفرحًا بنعيم يتكاثر وعرض دنيوي ينتفش.

إنّ بعض “شرور” العالم ضروريّة لتنبيه الإنسان إلى حقيقة هذه الحياة؛ إذ تردّها إلى حجمها الأوّل الضئيل وترفع عن وجهها الباهت البهرج الرخيص. إنّ هذه “الشرور” تردّ إلى الإنسان وعيّه المخدّر بسراب الآمال التي لا تنقطع!

قال تعالى: {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلاَدِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُور}.[30]

قال صاحب الظلال: “والحياة الدنيا حين تقاس بمقاييسها هي وتوزن بموازينها تبدو في العين وفي الحس أمرًا عظيمًا هائلاً. ولكنها حين تقاس بمقاييس الوجود وتوزن بميزان الآخرة تبدو شيئًا زهيدًا تافهًا. وهي هنا في هذا التصوير تبدو لعبة أطفال بالقياس إلى ما في الآخرة من جد تنتهي إليه مصائر أهلها بعد لعبة الحياة!

لعب. ولهو. وزينة. وتفاخر. وتكاثر… هذه هي الحقيقة وراء كل ما يبدو فيها من جد حافل واهتمام شاغل.. ثم يمضي يضرب لها مثلاً مصورًا على طريقة القرآن المبدعة.. {كمثل غيث أعجب الكفار نباته}.. والكفار هنا هم الزراع. فالكافر في اللغة هو الزارع، يكفر أي يحجب الحبة ويغطيها في التراب. ولكن اختياره هنا فيه تورية وإلماع إلى إعجاب الكفار بالحياة الدنيا! {ثم يهيج فتراه مصفرًا} للحصاد. فهو موقوت الأجل، ينتهي عاجلاً، ويبلغ أجله قريبًا {ثم يكون حطامًا}.. وينتهي شريط الحياة كلها بهذه الصورة المتحركة المأخوذة من مشاهدات البشر المألوفة.. ينتهي بمشهد الحطام!

فأما الآخرة فلها شأن غير هذا الشأن، شأن يستحق أن يحسب حسابه، وينظر إليه، ويستعد له: {وفي الآخرة عذاب شديد ومغفرة من الله ورضوان} فهي لا تنتهي في لمحة كما تنتهي الحياة الدنيا.

وهي لا تنتهي إلى حطام كذلك النبات البالغ أجله.. إنها حساب وجزاء.. ودوام.. يستحق الاهتمام!

{وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور}..

فما لهذا المتاع حقيقة ذاتية، إنما يستمد قوامه من الغرور الخادع؛ كما أنه يلهي وينسي فينتهي بأهله إلى غرور خادع.

وهي حقيقة حين يتعمق القلب في طلب الحقيقة. حقيقة لا يقصد بها القرآن العزلة عن حياة الأرض، ولا إهمال عمارتها وخلافتها التي ناطها بهذا الكائن البشري. إنما يقصد بها تصحيح المقاييس الشعورية والقيم النفسية، والاستعلاء على غرور المتاع الزائل وجاذبيته المقيدة بالأرض. هذا الاستعلاء الذي كان المخاطبون بهذه السورة في حاجة إليه ليحققوا إيمانهم. والذي يحتاج إليه كل مؤمن بعقيدة، ليحقق عقيدته؛ ولو اقتضى تحقيقها أن يضحي بهذه الحياة الدنيا جميعًا.”[31]

عقاب الفاسدين

أخبرنا الوحي بأمر لا يجد فيه العقل نكارة، بل هو الأليق بموازين القسط والعدل، وهو أنّ مِن العذاب الذي يصيب الناس في الدنيا ما هو في حقيقته عقاب من الربّ سبحانه للبشر على ذنب اجترحوه وجرم أوغلوا فيه دون عُقبى ندم وتعطّر باستغفار.

من النصوص القرآنيّة الدالة على هذا المعنى، قوله تعالى:

{أَلَمْ يَرَوْاْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّن قَرْنٍ مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّن لَّكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاء عَلَيْهِم مِّدْرَارًا وَجَعَلْنَا الأَنْهَارَ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُم بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِين}.[32]

{أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الأَرْضَ مِن بَعْدِ أَهْلِهَا أَن لَّوْ نَشَاء أَصَبْنَاهُم بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَسْمَعُون}.[33]

{وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ وَلَـكِن كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُون}.[34]

{وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِير}.[35]

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إن الرجل ليحرم الرزق بالذنب يصيبه …”[36]

إنّ مجموع العدل الإلهي والعدل الأرضي وعزّ الألوهيّة، يقتضي أن يصيب الفاسدين في هذه الدار، بما جنت أيديهم، عذاب وأذى، جزاءً وفاقًا. ولعلّ هذا الأمر متصل بصورة كبيرة بالكوارث الماحقة التي تحيق بالأمم، فتهلك الكثير منهم، أو تبيدهم. وفي ذلك عقاب معجّل ونذير مؤكّد وعظة للمدّكرين.

ليست العقوبات كلّها محض نكاية، وإنّما منها ما هو يد الرحمة الشديدة إذ تهزّ اللاهي المستغرق في غفلته أن أَفِق وأقلع عن هذا الشر العظيم الذي تأتيه دون خفقة ندم أو طيف حسرة. قال تعالى:{ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُون}[37]، لعلّهم يرجعون رجوع من نبّهته صعقة العذاب إلى بشاعة ما اجتنته يداه، فأقبَلَ مهرولًا إلى حيث نجاته.

فضل الشر في ردّ العبد إلى ربّه

ليس الشر وسيلة ليدرك الإنسان ذاته وجمالها، وكفى، وإنّما هو قبل ذلك وسيلة ليعرف ربّه وكماله. إنّ اصطراع الإنسان مع الشرّ الذي يحيط به في عالمه، يفتح له كوّة إلى السماء ليدرك حقيقة المعبود، وليتّصل به اتّصال المحتاج الصادي.

إنّ الله سبحانه يريد أمورًا من العبد إذا أحاطت به المحن وطوّقته الفتن وتماست في صدره أمواج العذاب، وهي أن يصرخ من أعماقه ضارعًا إلى خالقه. إنّ صرخة الاستجارة المنطلقة من أعماق النفس المبتئسة في جوف المحنة الحارقة والرزيّة الجارفة، نافذة إلى أعماق النفس البشريّة تكشف أصل معدنها المنجذب إلى الخالق عند لحظة صفاء تزول فيها أكوام غبار الغفلة والألفة والعادة. قال تعالى: {قُلْ مَن يُنَجِّيكُم مِّن ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً لَّئِنْ أَنجَانَا مِنْ هَـذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِين}.[38]

في لحظات الضعف أمام الشرّ الهائج، تنجلي أمام عين البصيرة حقيقة الذات العليّة لخالق النفس ومالك أمر الكون. هنا، يذهب كِبر النفس وتتفتت حصى الغفلة، ويعلم الإنسان –ما دام في المحنة- أنّه عبد مربوب لربّ قدير.

ويعبر الفيلسوف الأمريكي (فان إنواجن) (Van Inwagen) عن شيء من هذا المعنى في حاجة الإنسان إلى بلاء الدنيا ليعود إلى ربّه، فيقول: “إذا “ألغى” الله ببساطة كلّ غوائل هذا العالم بسلسلة لا تتناهى من الخوارق؛ فسيفسد ذلك خطّته الذاتية لمصالحة الإنسان معه. إنّه لو فعل ذلك؛ فسنكون في حال رضى بقدرنا ولن نرى داعيًا للتعاون معه”.[39]

إنّ العالم الخالي من الشر فاقد لما يجذب الإنسان إلى ربّه، إلّا قليلًا، خاصة أنّ سكرة المتعة كثيرًا ما تُغفل الإنسان عن كلّ شيء إلّا نفسه.

جريان السنن الطبيعية ضمن نسق رتيب

في النواميس الكونية التي خلقها الله سبحانه في الكون ضمان انتظام الحياة البشريّة في هذه الحياة الدنيا. ولأنّ الله سبحانه لم يجعل جريان الأمور في هذا العالم ضمن سنن الخوارق وإنّما ضِمن السنن الرتيبة، فإنّ هذه النواميس سبيل لضمان تحقيق المناخ الذي يحقق للإنسان جو الامتحان.

إنّ جريان هذه النواميس بالخير في تحقيق رفاه الحياة الإنسانية، يجري أيضًا بما يؤذي الإنسان؛ فكما أنّ ذوبان الثلج وتحوّله إلى ماء سبيل لإغناء الأرض والدواب والناس بالماء الذي هو قوام الحياة، فإنّ هذا الذوبان سبب لفيضانات مهلكة إذا ذابت الثلوج في وقت قصير في غير مجرى بحرٍ أو نهرٍ أو مسالك جوفيّة. وكما أنّ الحرارة هي قوام الحياة الفيزيائية في الكون طبقًا للقانون الثاني للديناميكا الحرارية، فكذلك تحصل بالحرارة حرائق وأمراض. وكما أنّ النبات يستفيد من ضوء الرعد للحصول على أكسيد النيتريك، فكذلك يصيب الرعد بعض الناس في مقتل. وهكذا لا تجد في قانون كوني شرًا إلا ويقابله خير أعظم منه.

هل بإمكان الملحد أن ينفي ..؟

بناءً على ما سلف، يحقّ لنا أن نتساءل: هل يستطيع المشكّك أن يجزم أنّ نماذج “الشرّ الطبيعي” التي يحتج بها لإنكار وجود الله، خارجة عن كلّ ما سبق من أبواب الحكمة؟

قد يقول المعترض: أنا أحكم بالظاهر السلبي، وأجري على أصل الإنكار، وأنتم معاشر المؤمنين بإله مكلّفون بالحجة المثبتة لإيجابيّة هذا الشر!

والجواب: كما أننا لا نستطيع أن نقطع بحال الكثير من أنواع الشر الطبيعي أنّها داخلة ضمن نوع مخصوص من الأنواع السابقة، فكذلك لا يملك المشكّك إخراج أمثلته عن جميع أنواع الحكمة المذكورة .. ويكفينا هنا أن ننفي استحالة ربط الحكمة بوجود هذا الشر، لوجود أجوبة كثيرة محتملة .. ولذلك فإنّ “ما تطرّق إليه الاحتمال؛ سقط به الاستدلال“.

وكتمثيل لهذا الأمر نقول: أصيب فلان من الناس بمرض خطير كان يتألّم منه تألّمًا شديدًا. نحن نقول إنّ هذا المرض قد يكون تكفيرًا لسيئات المريض، وقد يكون امتحانًا لصبره، وقد يكون عقابًا له، وقد يكون إقعادًا له هذه الفترة عن الحركة، لأنه لو كان صحيحًا؛ فلربما أتى منكرًا من المنكرات التي تذهب بدينه، وربّما أصيب بالمرض تقوية لعزيمته الرخوة؛ لأنه مقبل على امتحانات دنيوية قادمة تحتاج صلابة، وربّما .. وربّما .. نحن لا نستطيع الجزم بحكمة واحدة محدّدة وراء مرضه، لكنّنا نقطع أنّه لا يوجد دليل عقلي يمنع وجود الحكمة من وراء مرضه، ونرى أمام أعيننا احتمالات كثيرة قد يكون واحد منها –أو أكثر- وراء هذا المرض.. في المقابل، نحن نسأل المشكّك: هل تستطيع جزمًا أن تنفي أن تكون واحدة من الحكم المذكورة سابقًا وراء هذا المرض؟ الجواب هو أنّه لا توجد حجّة عقليّة أو كونيّة واحدة من الممكن أن تقطع بهذا النفي .. والنتيجة هي سقوط الشبهة لانتفاء وجه المعارضة.

***

فضل الألم على اللذة

يقول (ابن القيم) إنّ الله: “أنشأ اللذات من الآلام، والآلام من اللذات، فأعظم اللذات ثمرات الآلام ونتائجها، وأعظم الآلام ثمرات اللذات ونتائجها”.[40] وبعبارة أحد المحاضرين الأمريكان المعاصرين: “إنّ أعمق الآلام في حياتنا هي دائمًا الهدايا الأكبر إذا وجدنا طريقًا لاستعمالها، ولم نسمح لها باستعمالنا”.

إنّ اللذات التي يزخر بها عالمنا منثورة على شطآن الآلام ومغمورة في بحارها، فما كان منها دان سهل التناول كان أخفّ إمتاعًا، وكلّما أقبل الإنسان على هذا البحر وتقدّم في أعماقه، كلّما أصابت يده متعًا أكبر، وكلّما غاص في بحر الألم، كلّما التقط من صَدَف اللذة أنواعًا وألوانًا جديدة، وفي هذا الجِلاد مع الألم تسفر الخيرات عن وجهها المطمور.

وكمثال أقول: إنّ عامة المعارف والفوائد التي احتلبناها من ضرع التجربة في رحلة الحياة الزاخرة بالإشراق والانكسار تعود جلّها إلى حال المكابدة والتعب لا الاسترخاء والمتعة. إنّ ألمنا خير شاحذ لطاقاتنا الساذجة، وفي وهج لفحاته صقل للنفس وصرف للران الناشب في عقولنا وأرواحنا.

وقد أجري استفتاء لمجموعة من كبار السن في لندن، وكان السؤال الموجّه إليهم: “ما هي أسعد فترة في حياتك؟”. وكان جواب 60% منهم: “فترة الحرب!”، ففي كلّ ليلة تلقي الطائرات أطنانًا من المتفجّرات على المدينة، وتحوّل المباني الهائلة إلى حطام، والآن يتذكّر الضحايا هذا الوقت باشتياق وحنين؛ فقد اكتسبوا من تلك التجربة صفات الشجاعة والتآزر والتضحية، وعرفوا معاني التآخي والتعاون.[41]

وفي مقالة صدرت في مجلة علمية عن حياة ثلاثمائة قائد ممن كان لهم تأثير بالغ على حركة التاريخ، كشف البحث أنهم كلهم يشتركون في أمر واحد، وهو أنهم كانوا أيتامًا، إما أيتام بسبب وفاة الوالدين أو بسبب حدوث انفصال بينهما، أو أيتام عاطفيًا بسبب حرمان قاس في طفولتهم.[42]

إنّ الكثير منّا كان لا يرى حكمة في عوائق نغّصت عليه طريق النجاح وضيّقت عليه مسالك بلوغ رغائب النفس العجِلة، وكان التبرّم منها أمرًا تلهج به النفس كلّ حين، ثم إذا مرّ زمن على تلك التجربة، انفتحت أمام بصيرتنا نوافذ مطلّة على الماضي؛ فإذا تلك التجربة التي كانت تنفر منها أنفسنا درّ الغمام على ذواتنا المقحطة ونبع جار سقانا إثر جفاف في المعرفة والإرادة، وأكسبنا قوّة ومدّ آفاق النظر أمامنا كما لم يكن من قبل.

والعالم[43] المجدّ الذي بنى من تعبه صرح تألّقه، يقول لذاك الذي يبغي منزلته مرتخيًا في هجعة النعيم:

يا من يحاول بالأمانيْ رُتْبَتِي كم بين مسْتَفِلٍ وآخرَ راقي
أأبِيتُ سهرانَ الدُّجى وتبيتَه نومًا وتَبْغِي بعد ذاك لحاقي

إنّ سهر الداجي في الظلمة المرهقة، شر بمقياس اللذة التي جبلت عليها الغرائز، لكنّه الطريق الذي لا يستغني عن سلوكه الراقي إلى ذرا المجد وعزّ العلم ونور المعرفة ..

***

هل شرور الطبيعة دليل على أنّ هذا الكون معيب؟

لا يوجد عالم من كبار علماء الكونيات اليوم ينكر وجود الحكمة الفائقة والمذهلة في ما يراه من مجموع الخلق. إنّها الحكمة القائمة على معادلات رياضية شديدة التعقيد. الخلاف الناشب بين المؤمنين والملاحدة في قراءة هذا التنظيم الغائي، هو في تفسير أصل هذا الإبداع: هل هو من خارج العالم؟ أم هو أثر عن آلية سير العالم؟ إن هذه الحكمة المدهشة الظاهرة في التركيب البديع لأجزاء الكون لا يصحّ أن يقال إنّها ثمرة الصدفة، لأنها قائمة على الدقة والغائية البادي مسارها. إنّ هذه الحقيقة يجب أن تهيمن على رؤيتنا للكون، لا أن تكون هي أحد طرفي النزاع أو أن تكون هي ضحية الشبهة. إنّ الإقرار بحقيقة هذا الإتقان الغائي يفتح أمامنا مسارًا واضحًا سهلًا للنظر، وهو القول إنّ ما يبدو من خلل في بعض أوجه الحياة إنما هو مقصود من مُبدع الكائنات المعقدة.

مثال: لو أنني قدمت أمامك كاميرا جميلة الشكل، معقدة التركيب، تلتقط بها الصور وتطبعها على ورق بنفس الآلة بسرعة قياسية، ويشهد لها كبار العلماء أنها نتاج عبقرية فذة (اختيار الكاميرا كمثال لأنها قريبة جدًا من العين، مع الفارق أن العين أعظم تعقيدًا بمراحل كبيرة)، ثم جئتك بآلة تصوير أدنى صنعًا، وقلت لك إنني قد صنعت الآلتين. هل بإمكانك أن تنكر أن صنعي للآلة الأولى هو عمل ناتج عن ذكاء خارق لمجرّد حكمك على الآلة الثانية أنّها أدنى ممّا ترجو؟ طبعًا لا! إنّ الحل في فهم عظمة الاختراع الأوّل مقارنة بالثاني هو: إما أنني قد فقدت ذكائي الذي صاحبني عند صنع الآلة الأولى، أو أنني قد قصدت أن أصنع الآلة الثانية على صورة أدنى لغاية ما، لكن لا يمكن البتة أن يؤدي امتعاضك من قيمة الآلة الثانية إلى إنكار عبقرية صنع الأولى؛ لأن العبقرية ثابتة يقينًا من خلال المعادلات الهندسية المعقدة والناجحة والنتيجة العملية لهذا الاختراع النافع.كذلك الأمر مع خلق الله جل وعلا –ولله المثل الأعلى-؛ لقد خلق الإنسان في تركيب مدهش جدًا؛ حتى قال (لينوس باولنج) (Linus Pauling) -الحائز على جائزة نوبل في الكيمياء- إن خلية حيّة واحدة من بدن الإنسان هي أشد تعقيدًا من مدينة نيويورك،[44] وخلق مع ذلك في الإنسان قابلية المرض؛ فهل ننكر التركيب البديع والمنظم والغائي لمجرد قابلية للعطب في دنيا أراد الله من ورائها أمرًا ولم يوجدها عبثًا؟!

إن التصور الكلي للمنظومة الإسلامية في الموقف من حياة الإنسان على الأرض هو مفتاح فهم وجود (الشر) في العالم.

***

الجمع بين الافتراضات الأربعة

سبق أن ذكرنا أنّ شبهة الشر قائمة على عدم إمكان الجمع بين: (1) الإله قدير- (2) عليم- (3) رحيم، و(4) وجود الشر في هذا العالم. فلنختبر الآن تعارض كل من الدعاوى الثلاث الأولى مع وجود الشر:

  1. يرى الملحد أنّ قدرة الله تتعارض مع عجزه عن منع الشر.

قلت: هل يتعارض القول إنّ الله قدير- أي إنّه ليس لقدرته حد- مع القول إنّه (لا يقدر) أن يمنع الشر؟ الجواب البدهي هو أنّه لا تعارض؛ لأنّ الله (لا يقدر) على المستحيل؛ إذ المستحيل عَدَمٌ لا تتعلّق به قدرة، وهي حقيقة أجمع عليها أهل السنّة[45]، وعقلاء البشر.

وللتوضيح أقول: إنّه علينا أن نجمع بين أمرين، هما خلق هذا العالم ليمتحن الله سبحانه عباده، ومنع الله سبحانه أن يكون هذا الامتحان امتحانًا، وذلك بسلبه الإنسان المشيئة التي تتيح له الاختيار بين فعل الخير والشر، وبين الطاعة والمعصية، وبين الإيمان والكفر؛ فإلغاء موهبة الفعل الذي يمكن أن يكون شرًا بخلق الإنسان على مستوى الكمال في الاختيار والفعل دون أن يلابس أدنى خطأ، يعني أنّه لا محلّ لهذا الكائن في وجود امتحاني.

  1. يرى الملحد أنّ علم الله يتعارض مع تركه منعَ الشر:

قلت: لا تعارض بين علم الله المطلق ووجود الشر؛ لأنّ حكمة الله قد اقتضت أن يكون في العالم شر يصطرع معه الإنسان الممتَحَن.

  1. يرى الملحد أنّ رحمة الله تتعارض مع قبوله/أو فعله الشر:

قلت: سبق أن بيّنا أنّ الله لم يفعل الشر، لأنّ الشر ليس حقيقة ذاتية، وبيّنا أنّ الشر ليس من فعل الله وإنّما هو من فعل خلقه. فلم يبق غير دعوى قبول الله للشر وتعارض ذلك مع أن يكون الله رحيمًا. والجواب هو أنّ الله قد سمح بوجود الشر لأنّه يحقق غرض الامتحان، كما أنّ من الشر ما أراد الله به رحمة خلقه، كمغفرة ذنوبهم ورفع درجاتهم وتنمية ذواتهم … يقول (هبرت س. بوكس): “إنّ الشر الأخلاقي مسموح به من الله، لكنّه لم يأمر به. إنّ الله لا يسمح لأي شيء بالوجود إلّا إذا كان سيجعل عاقبته حسنة. حتّى الشر الأخلاقي جُعل مسخرًا لأغراضه الحسنة.”[46] وهي نفس الحقيقة القرآنيّة البادية في وصفه سبحانه أنه: الرحيم والحكيم.

  1. انظر عباس العقاد، عقائد المفكرين، المجموعة الكاملة لمؤلفات العقاد، بيروت: دار الكتاب اللبناني، 1978م، 11/448
  2. عباس العقاد، حقائق الإسلام وأباطيل خصومه، صيدا: المكتبة العصرية، د.ت.، ص8
  3. عباس العقاد، عقائد المفكرين، المجموعة الكاملة لمؤلفات العقاد، 11/453 (نقله عن Fundamental Questions of Philosophy)
  4. Ninian Smart, “Omnipotence, evil and supermen,” in Philosophy, April, 1961, 188
  5. ابن القيم، شفاء العليل، ص489
  6. الجاحظ، الحيوان (بيروت: دار الكتب العلمية، 1424ه)ـ، 1/134-135.
  7. النورسي، اللمعات، ص 321
  8. [البقرة:216]
  9. ابن القيم، شفاء العليل، ص448-449.
  10. ابن القيم، شفاء العليل، ص439-440
  11. رواه مسلم.
  12. انظر ابن القيم، شفاء العليل، ص443، 445.
  13. C.S. Lewis, The Complete C.S. Lewis Signature Classics (San Francisco, Calif: HarperSanFrancisco, 2002), p.406
  14. John Hick, “An Irenaean Theodicy,” in Encountering Evil: Live Options in Theodicy, ed. Stephen T. Davis (Edinburgh: John Knox Press, 1981), p.46.
  15. See John Hick, Evil and the God of love, New York, Harper & Row, 1966.
  16. فيليب يانسي، أين الله في وقت الألم، ص61.
  17. [العنكبوت:2-3]
  18. [الأنبياء:35]
  19. الألوسي، روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني، بيروت: دار إحياء التراث، د.ت.، 17/47
  20. [ص:27-28]
  21. [الجاثية:21-22]
  22. [آل عمران:195]
  23. [الأعراف:168]
  24. سيد قطب، في ظلال القرآن (القاهرة: دار الشروق: 1422هـ-2001م)، ط30، 3/1386
  25. [السجدة:21].
  26. متفق عليه.
  27. رواه الترمذي وأحمد.
  28. ترعد.
  29. رواه مسلم
  30. [الحديد:20]
  31. سيد قطب، في ظلال القرآن، 6/3491
  32. [الأنعام:6]
  33. [الأعراف:100]
  34. [الأعراف:96]
  35. [الشورى:30]
  36. رواه ابن ماجه وابن حبان والحاكم، وحسّنه العراقي.
  37. [الروم:41]
  38. [الأنعام:63]
  39. Peter van Inwagen, The Problem of Evil (Oxford: Clarendon Press; New York: Oxford University Press, 2006), p.88.مع تحفّظنا في هذا النقل وغيره عن غير المسلمين على صيغ التعبير عن الأفكار، مثل عبارة: “للتعاون” هنا.
  40. ابن القيم، شفاء العليل، ص489
  41. فيليب يانسي، أين الله في وقت الألم، ص68.
  42. المصدر السابق، ص 175.
  43. قيل: الشافعي، وقيل: الزمخشري، وقيل: الألوسي المفسّر..
  44. Dave Hunt, In Defense of the Faith (Eugene: Harvest House Publishers, 1996), p.22
  45. قال ابن تيمية رحمه الله: “وأما أهل السنة، فعندهم أن الله تعالى على كل شيء قدير، وكل ممكن فهو مندرج في هذا، وأما المحال لذاته، مثل كون الشيء الواحد موجودًا معدومًا، فهذا لا حقيقة له، ولا يتصور وجوده، ولا يسمى شيئًا باتفاق العقلاء، ومن هذا الباب: خَلْقُ مثل نفسه، وأمثال ذلك” “منهاج السنة” (2/294).وقال ابن القيم رحمه الله: “لأن المحال ليس بشيء، فلا تتعلق به القدرة، والله على كل شيء قدير، فلا يخرج ممكن عن قدرته البتة”، شفاء العليل، ص 374
  46. Hubert S. Box, The Problem of Evil, p.57

© جميع الحقوق محفوظة لمبادرة البحث العلمي لمقارنة الأديان