لماذا لم يخلق الله عالمنا بلا شر؟!

لو خُيّرت بين الألم واللاشيء، سأختار الألم.

ويليام فولكنر (نوبل للآداب 1949م)

خبرتي مع الألم… أنشأت فيّ شعورًا بالإعجاب بالألم وتقديرًا له. أنا لا أرغب في حياة من غير ألم، ولا يمكنني حتى تصوّر ذلك.

الدكتور بول براند

تدور شبهة المشكّك حول الزعم أنّ الإله الكامل في صفاته لا يمكن أن يصدر عنه غير عالم بلا شرّ وأنّ وجود الشرّ ناف لوجود إله خالق كامل، وهو بذلك يرى أنّ وجود هذا الشر مفسد لمعادلة هذا الكون المنظّم.

يثير هذا الاعتراض سؤالًا يقول: هل تؤدّي إزالة الشرور إلى استواء عالمنا؟ ويختزن هذا السؤال في داخله أسئلة فرعيّة لا بدّ من بحثها:

  • ماذا يبقى من معنى الحياة بعد ذهاب الشر؟
  • ما غاية الحياة في عالم معصومين؟
  • ما شكل العالم بلا ألم؟

عندما يعطي الشر لحياتنا معنى

هل يستطيع الإنسان-الأرضي أن يعيش من غير ألم؟ للإجابة على هذا السؤال نحتاج أن نسأل قبل ذلك إن كنّا نطيق أن نعيش بلا معنى.

إنّ بحث الإنسان عن معنى هو المحرّك الأساسي لحياته، وليس هو “عقلنة ثانوية” لموجّهاته الغرائزية،[1] فهو الذي يمدّه بزاد للسير في هذه الحياة والإحساس بحرارة الوجود. وقد عانى الغرب منذ النصف الثاني من القرن العشرين أزمة كبرى؛ أزمة “الفراغ الوجودي” “the existential vacuum” حيث فقد الوجود معناه، وأفرغ نفسه من جاذبية المدافعة والنجاح.

ومن أبسط مظاهر الفراغ الوجودي ما يُسمى “بعُصاب الأحد” “Sunday neurosis” حيث يكتشف المرء في نهاية الأسبوع بعد أيام صاخبة، عندما يخلو إلى نفسه، أنّ حياته على الحقيقة خُلْوٌ من المعنى؛ فكيف بحياة ينهسها عُصاب الفراغ نهسًا أو نهشًا؟! وفي هذا الجو العدمي تنبت أمراض الكآبة والإحباط وخواطر الرغبة في الانتحار. [2]

لم تمرّ هذه الأزمة في خفاء؛ إذ هي الأزمة الكبرى المائجة الطاحنة، وهي ظاهرة في امتلاء المصحات النفسية بالمرضى، وحالات الانتحار أو محاولات الانتحار، وأزمة الفردانية، والسلبية الأسرية والمجتمعية.

وفي إحصائية أجرتها مؤسسة بحثية في جامعة هوبكنز مستقصية آراء 7948 طالب في 48 كليّة في إجابة سؤال: ” ما هو أهم شيء بالنسبة إليهم؟”، كانت إجابة 16%: “تحصيل قدر أكبر من المال”، في حين اختار 78% القول إن هدفهم الأول هو “إيجاد هدف للحياة ومعنى لها.” [3] وهذا ما يعبّر عن وعي عميق مؤلم بأزمة العدمية.

وقد أسس عالم النفس (فكتور فرنكل) (Viktor Frankl) -صاحب الكتاب الذي بيعت منه ملايين النسخ “بحث الإنسان عن معنى”، والذي عاش تجربة المحرقة النازية- مذهبًا جديدًا في علم النفس سمّاه “Logotherapy” أي المعالجة النفسية بالمعنى؛ إذ إنه قد اكتشف أنّ أكثر العلل النفسية في الغرب تعود إلى فقدان الإنسان معنى لحياته، وهو ما يجعله عاجزًا عن إيجاد دوافع جادة لمعايشة هذه الحياة وتحقيق استوائه النفسي، وهو بهذا المسلك العلاجي يحاول أن يجعل المريض يشعر بمعنى الحياة، ومسؤوليته فيها.

ويخبرنا (فكتور فرنكل) أنّ الكشف عن معنى للحياة يكون بثلاث طرق، أحدها اتخاذ موقف من معاناة لا سبيل لتجاوزها وذلك بتحويل المأساة إلى نصر، والمأزق إلى منجز إيجابي، وحتى عندما نكون عاجزين عن تغيير الواقع، نسعى إلى تغيير أنفسنا. [4]

إنّ الألم هو إذن عنصر أصيل في حياة سليمة وقلب معافى من البرود القاتل؛ فبه يجد الإنسان حوافز في داخله للاستمتاع بلحظات الوجود أو الإحساس بها ومغالبتها؛ ففي غيبة الإحساس باللحظة، أو الرغبة في تحقيق نصر على شر فيها، تهمد رغبتنا في البقاء وتتهاوى قدرتنا على الصمود.

إنّ هذه الحياة الدنيا غير قابلة لأن تعاش بلا ألم لأنها بذلك بلا دلالة تتجاوز الأنفاس الصاعدة الهابطة، وبعبارة (س. إس. لويس): “حاول أن تستبعد إمكانية الألم المتضمن في نظام الطبيعة ووجود الإرادات الحرة، وستجد أنك قد استبعدت الحياة نفسها“.[5]

لماذا لم يخلق الله عالما من الطيبين فقط؟

يتكرّر على لسان المعترضين تساؤل مهم، وهو: لِم لم يخلق الله عالما خلوًا من الشر، البشر فيه أحرار لكنّهم لا يأتون الشرّ وإنّما يلتزمون العمل الصالح وينأون عن الشرور والمفاسد؟

والجواب هو في قوله تعالى: {وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِين إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لأَمْلأنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِين}.[6]

قال المفسّر (ابن عاشور): “وأما تعقيبه بقوله: {ولذلك خلقهم} فهو تأكيد بمضمون {ولا يزالون مختلفين}. والإشارة إلى الاختلاف المأخوذ من قوله: {مختلفين}، واللاّم للتعليل لأنّه لما خلقهم على جِبِلّة قاضية باختلاف الآراء والنزعات وكان مريدًا لمقتضى تلك الجبلّة وعالما به … كان الاختلاف علّة غائية لخلقهم، والعلّة الغائية لا يلزمها القصر عليها بل يكفي أنها غاية الفعل”.[7]

فالله سبحانه قد خلق الناس بقدرات وملكات تقتضي ألا يكونوا كلّهم مصيبين وألا يكونوا كلّهم مخطئين؛ فقد ركَز في فطرهم معرفة الحق، ثم أسلمهم إلى ما يختارون من حق وباطل؛ ولذلك ظهر الفساد والكفر (وهو أقصى الشر) من فريق منهم. فليس في حساب الله سبحانه أن يخلق عالما بلا شر، وإنّما اختار لخلقهم هذه الطبيعة في هذا العالم؛ لأنّه يريد ذلك، فـ”الحكمة التي أقيم عليها نظامُ هذا العالم اقتضت أن يكون نظام عقول البشر قابلاً للتطوّح بهم في مسلك الضّلالة أو في مسلك الهدى على مبلغ استقامة التفكير والنظر، والسلامة من حجب الضلالة “.[8]

وليس الأمر كما يظنّ فلاسفة مدرسة (Process theology) الذين ذهبوا إلى أنّ الربّ الخالق ليس كُليّ القدرة، في سبيل التوفيق بين وجود الله ووجود الشر!

إنّ الله سبحانه لم يخلق الناس ليصيبوا الحقّ في كلّ أمرهم، ولم يرد للوجود أن يكون براءً من الشرّ، وإنّما رضي للشرّ أن يكون أحد حقائق الحياة التي على الناس أن يصطرعوا معها، فينجو من يصرعها، ويهلك من تصرعه.

لماذا لا يكون هناك عالمٌ من غير ألم؟

الحكم على الشر أو الألم بالنظر إلى جوهره قاصر عن الإحاطة بحقيقته الوجوديّة؛ فإنّ الشيء قد يكون شرًا في قيمته الجوهرية (intrinsic value) –من الناحية الغالبة واقعيًا؛ إذ لا وجود لشر جوهري في ذاته من كلّ وجه- لكنّه يكون خيرًا من الناحية الذرائعيّة (instrumental value)، ولذلك فإنّ تقدير قيمة هذا الشيء -إن كان يجوز وصفه بالشر حقيقة- لا يكون إلّا بإقامة تقدير عام يجمع قيمته الجوهريّة وقيمته الذرائعيّة للتوصّل إلى الغالب من خيره وشرّه.[9] ولذلك يجب ألّا نغتر بما يلوح لنا من قبح في الموجودات كالأسقام والأوجاع؛ فإنّها قد تكون في الكون ذريعة لخير أعظم من شرّها، بل قد لا يستقيم الوجود الإنساني من غيرها.

يقول (العقاد) معقبًا على معترض يقول: “… أليس خلق اللذة أولى برحمة الإله الرحيم من خلق الألم كيف كان وكيف كان موقعه من التكافل بينه وبين اللذات؟

وعندنا أن المشكلة كلها بعد جميع ما عرضنا من حلولها إنما هي مشكلة الشعور الإنساني، وليست في صميمها بالمشكلة العقلية ولا بالمشكلة الكونية.

وهنا نعود إلى الباب الذي نستفتح به مسالك هذه المشكلات، ونسأل أنفسنا: إذا كان الإله الذي توجد النقائص والآلام في خلقه إلهًا لا يبلغ مرتبة الكمال المطلق، فكيف يكون الإله الذي يبلغ هذه المرتبة في تصورنا وما ترتضيه عقولنا؟

أيكون إلهًا قديرًا ثم لا يخلق عالما من العوالم على حالة من الحالات؟ أيكون إلهًا قديرًا يخلق عالما يماثله في جميع صفات الكمال.

هذا وذاك فرضان مستحيلان أو بعيدان عن المعقول، كل منهما أصعب فهمًا وأعسر تصورًا من عالمنا الذي ننكر فيه النقائص والآلام.

فأمّا الإله القدير الذي لا يخلق شيئا فهو نقيضة من نقائض اللفظ لا تستقيم في التعبير، بله استقامتها في التفكير؛ فلا معنى للقدرة ما لم يكن معناها الاقتدار على عمل من الأعمال.

وأما الكمال المطلق الذي يخلق كمالًا مطلقا مثله فهو نقيضة أخرى من نقائض اللفظ لا تستقيم كذلك في التعبير، بله استقامتها في التفكير؛ فإن الكمال المطلق صفة منفردة لا تقبل الحدود ولا أول لها ولا آخر، وليس فيها محل لما هو كامل وما هو أكمل منه. ومن البدهي أن يكون الخالق أكمل من المخلوق، وألّا يكون كلاهما متساويين في جميع الصفات، وألّا يخلو المخلوق من نقص يتنزه عنه الخالق. فاتفاقهما في الكمال المطلق مستحيل يمتنع على التصور، ولا يحل تصوره مشكلة من المشكلات. وأي نقص في العالم المخلوق فهو حقيق أن يتسع لهذا الشر الذي نشكوه، وأن يقترن بالألم الذي يفرضه الحرمان على المحرومين، وبخاصة إذا نظرنا إلى الأجزاء المتفرقة التي لابد أن يكون كل جزء منها قاصرًا عن جميع الأجزاء، وأن يكون كل شيء منها مخالفًا لما عداه من الأشياء.

فوجود الشر في العالم لا يناقض صفة الكمال الإلهي ولا صفة القدرة الإلهية. بل هو – ولا ريب- أقرب إلى التصور من تلك الفروض التي يتخيلها المنكرون والمترددون ولا يذهبون معها خطوة في طريق الفهم وراء الخيال المبهم العقيم.

وقد يختلف مدلول القدرة الإلهية ومدلول النعمة الإلهية بعض الاختلاف في هذا الاعتبار: فمدلول القدرة الإلهية يستلزم -كما تقدم- خلق هذا العالم الموجود، ولكن مدلول النعمة الإلهية يسمح لبعض المتشائمين أن يحسبوا أن ترك المخلوقات في ساحة العدم أرحم بها من إخراجها إلى الوجود، ما دام الألم فيه قضاء محتوم على جميع المخلوقات. ومهما يكن من شيوع التشاؤم بين طائفة من المفكرين فليس تفسير النعمة الإلهية بترك المخلوقات في ساحة العدم تفسيرًا أقرب إلى المعقول من تفسير هذه النعم الإلهية بإنعام الله على مخلوقاته بنصيب من الوجود يبلغون به مبلغهم من الكمال المستطاع لكل مخلوق.

وليس الشر إذًا مشكلة كونية ولا مشكلة عقلية إذا أردنا بالمشكلة أنها شيء متناقض عَصِيٌّ على الفهم والإدراك، ولكنه في حقيقته مشكلة الهوى الإنساني الذي يرفض الألم ويتمنى أن يكون شعوره بالسرور غالبًا على طبائع الأمور.

وإذا كانت في هذا الوجود حكمته التي تطابق كل حالة من حالاته؛ فلابد من حكمة فيه تطابق طبيعة ذلك الشعور، ولا نعلم من حكمة تطابق طبيعة ذلك الشعور، غير الدين…”[10]

ماذا لو كانت الطبيعة غير مؤذية؟!

لِمَ لمْ تُخلق الطبيعة مبرّأة من الأذى المادي؟

هو سؤال يراود النفس القلقة التي تريد أن تستجمع في هذه الدنيا كلّ الملاذ، دون منغّص يقطع عليها ساعات المتعة الدافقة باللذة وحلاوة النشوة المشبِعة للغرائز.

قال (ابن القيم): “فإن قيل: فهلاّ حصلت تلك اللوازم وانتفت تلك الأضداد؟ فهذا هو السؤال الأول، وقد بيّنا أنّ لوازم هذا الخلق وهذه النشأة وهذا العالَم لا بدّ منها، فلو قُدّر عدمُها لم يكن هذا العالم بل عالما آخر ونشأةً أخرى وخلقًا آخر.

وبيّنا أنّ هذا السؤال بمنزلة أن يقال: هلّا تجرّد الغيث والأنهار عمّا يحصل به من تغريق وتعويق وتخريب وأذى؟ وهلّا تجرّدت الشمس عمّا يحصل منها من حرّ وسموم وأذى؟ وهلّا تجردت طبيعة الحيوان عمّا يحصل له من ألم وموت وغير ذلك؟ وهلّا تجرّدت الولادة عن مشقة الحمل والطلق وألم الوضع؟ وهلّا تجرّد بدن الإنسان عن قبوله للآلام والأوجاع واختلاف الطبائع الموجبة لتغيّر أحواله؟ وهلّا تجرّدت فصول العام عمّا يحدث فيها من البرد الشديد القاتل، والحر الشديد المؤذي؟

فهل يقبل عاقل هذا السؤال أو يورده؟ وهل هذا إلا بمنزلة أن يقال: لِمَ كان المخلوق فقيرًا محتاجًا، والفقرُ والحاجةُ صفةُ نقص، فهلّا تجرد منها وخُلِعت عليه خلعةُ الغنى المطلق والكمال المطلق؟ فهل يكون مخلوقًا إذا كان غنيًا غنى مطلقًا؟ ومعلوم أن لوازم الخلق لا بدّ منها فيها”.[11]

إنّ طَلَبَ عالمٍ لا تفعلُ فيه الطبيعة فِعْلَها العفوي، هو طلب وجود عالم آخر غير عالمنا.. عالم كامل رغم أنّ من لوازم العالم المخلوق ألّا يكون كاملًا.. وهو عالم لا يتوافق مع الحكمة من خلق الإنسان، فهو يرفض الوجود الإنساني الحالي برمّته، طلبًا لوجود آخر؛ فإنّ وجودنا في هذه الأرض لا يستقيم على الصورة المطلوبة بغير ما يبدو من “شر” في بعضه.

ما العالم بلا موت؟ هل تطيق أنفسنا أن نحيا على الأرض بلا نهاية؟ ولِم نعيش بلا خاتمة؟ هل يوجد أي شيء في أرضنا يرضى أن نعيش معه أبدًا؟ إنّ كلّ شيء فينا ومن حولنا يصرخ أنّ وجودنا يجب أن يكون محدودًا في هذه الأرض لأنّ أبديتنا لا تؤول إلّا إلى فساد نفوسنا وعقولنا وبيئتنا. وهذا في أمر شر واحد، وهو الموت، فكيف نملك أن ننزع من الكون كلّ شر مادي لنحقق الحكمة الكبرى؟!

  1. Viktor Frankl, Man’s Search for Meaning (New York: Pocket Books, 1984), p.121.
  2. المصدر السابق، ص 129.
  3. المصدر السابق، ص 122.
  4. المصدر السابق، ص 132.
  5. س. إس. لويس، الله – الإنسان والألم، ص37.
  6. [هود:118-119]
  7. محمد الطاهر ابن عاشور، التحرير والتنوير، 12/189-190
  8. المصدر السابق، 12/187
  9. Jane Mary Trau, “The Positive Value of Evil,” p.22
  10. عباس العقاد، حقائق الإسلام وأباطيل خصومه، ص8-11
  11. ابن القيم، طريق الهجرتين وباب السعادتين، 1/217-218

© جميع الحقوق محفوظة لمبادرة البحث العلمي لمقارنة الأديان