المقدمة

 

البسملة 2

{قُلْ هَـذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي}

[يوسف:108]

هذا الكتاب الذي بين يديك جزء من مشروعنا الجديد في “مبادرة البحث العلمي لمقارنة الأديان” لدراسة الإلحاد دراسة نقديّة واعية، راغبين في تثبيت موقف علمي جدّي من هذه الظاهرة العقدية التي تتعامل معها “المؤسسات الرسمية” للدعوة الإسلاميّة بغفلة محيّرة وسلبيّة غير مبرّرة[1] غير مدركة أنّ ثورة وسائل التواصل العصريّة قد هدمت الأسوار التي كانت تمنع تفشّي الكثير من الأوبئة الفكريّة، وأنّه في عالم اللاحدود، لا سلطان لغير حجّة الحق وقوّة البرهان الشائق.

لقد آن لنا أن نجنح إلى خيار المصاولة الفكريّة المباشرة مع الإلحاد، فلا ندسّ الرأس في التراب متغافلين عن ضرام هذه الفتنة السائرة في البلاد والتي ينتصر لها من نعلم من المشاهير ومن لا نعلم. دعوتنا في هذا السجال واضحة مشرقة: هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين! وهاكم برهاننا فإنّا صادقون!

حتميّة الإحياء والتجديد

لا يختلف عاقلان -في ما أحسب- أنّ المكتبة العربيّة الإسلاميّة الحديثة لم تحمل كبير هم لخطر الإلحاد، وهو ما يتجلّى في عدد من الأمور، منها ندرة الكتب التي تتناول الإلحاد الدهري[2] تشريحًا ونقضًا، وجمود عامة هذه الكتب على القديم المكرّر، واعتمادها النقل المكثّف عن بعضها البعض، كما أنّها –في الأعم الأغلب- لا تعمَد إلى المواجهة التفصيلية للشبهات في أحدث أشكالها، وإنّما كثيرًا ما تستسلم إلى الإجمال الباهت والعبارات الهامدة التي لا تُسَكِّن رطوبتها نار الشكّ في قلب الحدَث الذي لم يرتوِ من فيض علوم الشريعة.

وممّا يُعاب على المكتبة الإسلاميّة أيضًا في هذا الباب ضعف الاهتمام بالدراسات الفلسفيّة الإلحادّية الأحدث في محضنها الغربي وتوظيف ملاحدة الغرب للمعارف العلميّة الحديثة (خاصة في علمَي البيولوجيا والكوسمولوجيا) لنصرة أقوالهم الإلحاديّة، إذ إنّ دراسات الكثير من كتّابنا في العقود الماضية بعيدة عن القضايا والاصطلاحات التي تشغل العقول الحائرة للشباب التائه في سراب الإلحاد والعدمية. ولئن كان من كتبوا في الستينات والسبعينات من القرن الماضي قد أدّوا ما عليهم في حدود طاقتهم، وبارك الله –بفضله- في عطائهم، فإنّ التحدّي اليوم صار أعقد وأعمق مع توسّع أبواب الغزو الفكري الممنهج والعفوي. والأمل قائم أن تتحرّك جهود أهل العلم والمال[3] لإقامة مؤسسات علميّة دعويّة لدراسة الإلحاد في ضوء حقائق الشرع ومعارف العصر، استنقاذًا لفلذات أكباد المسلمين من طيش الدهريّة التي تعيش في قلوب التائهين على ماء الغفلة والجهل، متأنّقة في ثوب الاصطلاحات البارقة والتعبيرات الأعجميّة المطرّزة بأوهام المعرفة العصريّة الخالبة. إنّها فريضة الوقت أصرخ بها في آذان من لهم سلطان العلم والمال.

إنّ التحدّي الإلحادي قد أصبح اليوم حقيقة واقعة، وباتت مواجهته فريضة قائمة، وما عاد يجدي أن نقول بكلّ رخاوة: إنّ هذا فكر شاذ! أو إنّ هذا فكر يخالف البدهيات العقليّة! وإنّما علينا أن نتوجّه بالتحليل والنقد والنقض للمنظومة الإلحادية التي أصبح لها حضور واسع ومكثّف في عالم الأفكار. إنّ سلبية المنكمشين في قوقعة الخطابات اللازمانية واللامكانيّة التي تهمل الإشكالات الطارئة بفعل تمدّد الزمان أو انكماش المكان، أصبحت حجر عثرة في خطابنا الدعوي، وأصبح الخطاب المتعالي على الواقع بدعوى أنّ الإسلام لا بدّ أن يُقدّم في صيغة واحدة جامدة دون اعتبار لطوارق التحديّات وتحرّش الشبهات، وازدراء القيام لنصرة حقائق الدين في وجه المشككين، هو انحياز بالأمّة إلى خيار الموت البطيء.

إنّ القلم الذي يخطّ في واقعه الحي المتشنّج بدفق الحين واللحظة ملحمةَ الانتصار للحق ويصاول الصائلين بسيف الشبهة، هو القلم الذي يرفع للدين عماد البقاء ولواء الحياة، وهو القلم الذي علينا أن نمده بمداد الحياة والإشراق. يقول ابن القيم، الذي مثّل في زمانه هذه الروح في أجلى صورها، عن هذا القلم: “وهو قلم الرد على المبطلين، ورفع سنّة المحقّين، وكشف أباطيل المبطلين على اختلاف أنواعها وأجناسها، وبيان تناقضهم، وتهافتهم، وخروجهم عن الحق، ودخولهم في الباطل. وهذا القلم في الأقلام نظير الملوك في الأنام، وأصحابه أهل الحجة الناصرون لما جاءت به الرسل، المحاربون لأعدائهم. وهم الداعون إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة، المجادلون لمن خرج عن سبيله بأنواع الجدال”.[4]

قد يقول قائل إنّ النشاط الإلحادي لا يشكّل التحدّي الأكبر لأبناء المسلمين في العالم العربي اليوم، وإنّ أفكار العالمانيّة هي التي يجب أن تستأثر باهتمامنا. والجواب هو أنّ التحديّات لا تقسّم إلى تحد كبير يحتكر النظَر وتحد معدوم هدَر، وإنّما لا بدّ أن نرتّب هذه التحديّات على درجات، فمنها ما هو مهم وآخر أقلّ خطرًا وغيرهما ضعيف الأثر، ولا بدّ من توظيف قدر من طاقاتنا بما يوافق حجم كل تحد، فلا نهمل المؤذي ولو قلّ إن كان يصدر منه الأذى وله ضحل، مدركين أنّ عظيم الخطر قد يأتي من مستصغر الشرر. إنّنا بحاجة إلى ترتيب الأولويات وتنظيم التحديّات دون إلغاء أي منها من ميدان الاهتمام، وإنّما نبذل لكلّ تحد قدره من العمل. وإنّني أتوقّع أن يكون التحدّي الإلحادي أكبر في الأيام القادمة، مع تقارب البلدان بصورة هائلة في ظل التطوّر المذهل لوسائل الاتصال والتواصل، وإقبال الأجيال الجديدة على تعلّم اللغات الأجنبيّة، واهتمام المسلمين بدعوة الغربيين إلى الإسلام، وإحساس قادة الفكر الغربي أنّ الإسلام تحدٍ عقدي صلب.

ولا ينفي ما سلف أنّ العالمانية هي التحدّي العقدي الأكبر؛ إذ العالمانية هي الدين الذي يركع في محرابه جلّ البشر، لكنّها هي أيضًا مظهر من مظاهر الإلحاد؛ إذ تحمل في قلبها نواته الصلبة، ولذلك كان لها في إصدارات مؤسسة “المبادرة” نصيب ضمن سلسلة “الإلحاد في الميزان” التي تبنّى “مركز تكوين” نشرها ضمن برنامجه المعرفي الرائد لإحياء الخطاب الإسلامي الأصيل في عصر فورة المدّ العدميّ الكاشح والسافر، فجزى الإخوة الأفاضل القائمين على المركز أجر النصح لله ولكتابه وللمسلمين أجرًا غير منقوص ولا مجذوذ.

هذه هي رؤيتنا للتحدي، وهذا هو رجاؤنا من المساهمة في دفع عادية الإلحاد عن عقيدة التوحيد، وأملنا هو أن نسهم في وضع لبنة طيّبة في بناء الحق على أرض الاستخلاف.

اللهم إنّا نبرأ إليك من كلّ حول وقوّة، ونسألك الثبات على الحقّ، والنصرة والهمّة!

اللهم اغفر لي حظّ النفس من هذا الكتاب!

  1. ظهرت في السنوات الخمس الأخيرة بعض المؤسسات المهتمة بدفع شبهات المذاهب الفكرية الوافدة، وقد تميزت بالجدة والجدية في الطرح، فأسأل الله أن يبارك في جهود أصحابها، وأن يأخذ بأيدينا وأيديهم إلى حيث يحب ويرضى.
  2. الإلحاد لغة الميل جانبًا، وشرعًا، هو إنكار شيء مما أثبته الله سبحانه لنفسه. والإلحاد الدهري نوع من الإلحاد بمعناه الواسع، وهو إنكار الخالق ونسبة العالم إلى الوجود العبثي. وقد استعملنا في حديثنا كلمة “الإلحاد” بمعناها العرفي الشائع متابعة للسان الدارج لا غيرـ وإلاّ فالأمر فيه تفصيل.
  3. ذكرتُ أهل المال لأنّه لا أمل –إلى حدّ هذه اللحظة- في المؤسسات العلميّة الرسميّة، إذ العمل فيها لا يزال وظيفة براتب لا أمانةً ورسالة، خاصة على مستوى رؤوس هذه المؤسسات، إلّا من رحم ربّك! وأنا على اعتقاد جازم أنّ فكّ ارتباط الدعوة بهذه المؤسسات، ومنها ما يسمّى بالجامعات الإسلاميّة، شرّ لا بدّ منه في هذه المرحلة، حتّى يعود للدعوة جوهرها العباديّ. وأنا هنا لا أطلب فكّ الدعوة عن أهل التخصّص المعرفي، وإنّما أدعو إلى خروج أهل التخصّص من جلباب هذه المؤسسات المحنّطة حيث المجال الأرحب للإبداع والتأثير.
  4. ابن القيم، التبيان في أقسام القرآن، تحقيق: عبد الله بن سالم البطاطي، مكة المكرمة: دار عالم الفوائد، 1429هـ/2008م، 1/310

© جميع الحقوق محفوظة لمبادرة البحث العلمي لمقارنة الأديان