أستاذ زائر للفلسفة والدراسات الإسلامية في عدد من الجامعات الغربية كجامعتي بوسطن وفلوريدا
أستاذ الكرسي المكتمل لدراسة فكر الإمام الغزالي ومنهجه في “المسجد الأقصى المبارك” و”جامعة القدس“
الحمد لله الرحيم العدل المقسط، والصلاة والسلام على من أرسله ربه “رحمة للعالمين”، وبعد، فقلما يجد المثقف المسلم كتابا مثل هذا الكتاب القيم الفذ الذي يرد على شبه الإلحاد، ويشرح العقيدة الإسلامية في قضية العدل الإلهي، وتبعاتها كطبيعة الشر ومصدره، وحقيقة هذه الحياة كدار امتحان، وأن السعادة التي لا ينغصها شيء مكانها في الدار الآخرة.
يجيب هذا الكتاب على أسئلة جذورها ضاربة في القدم، ولكنها تتجدد باستمرار، بل نجد فيه إجابات شافية تستعرض ما عند العلماء المسلمين والمفكرين من غير المسلمين القدماء والمعاصرين، وهذا يدل على رسوخ قدم المؤلف في الدراسات الشرعية وتاريخ الفكر الإسلامي، واتساع ثقافته حتى سبر غور الفكر الغربي المعاصر وأحاط بمواقف رموز الإلحاد فيه، وردود لاهوتييهم وفلاسفتهم على ملحديهم. وقد فهم المؤلف جذور الفكر الإلحادي الغربي وارتباطه بالتحرر من سلطان الكنيسة بسبب ما كان من مواقفها المعارضة للعلم والعقل، إضافة لصورة الإله المشوهة في كتب العهد القديم، وهي صورة إله يأمر بقتل الأطفال وإبادة مجتمعات بأكملها، وهذا هو حجر الأساس في التفكير الإلحادي الغربي.
انتقل الفكر الغربي من تحت عباءة الكنيسة في مرحلته الثيوقراطية التي نافت العلم والعقل، وأصبح الإنسان هو مصدر المعرفة ولكن المعرفة هنا اختزلت في البعد المادي وصولا إلى الوضعية المنطقية، وكأنها التفريط في المغيبات كلها، ثم ما لبثت مرحلة “ما بعد الحداثة” أن نعت موت إمكانية المعرفة، وقضت بنسبية المواقف، بل في النهاية يغلب عليها العدمية، ويدل عليها انتفاء الموضوع في الفنون “الجميلة”، إذ لا تهدف لشيء، ولا تشير إلا لذاتها، وكذلك الإلحاد، فحينما تغيب المغيبات والبعد الأخروي لا تشير هذه الحياة إلا إلى ذاتها، فتنهار منظومة القيم، ويصبح كل شيء مسموح به، وقد بدأنا نرى هذا في العلاقات السياسية والاجتماعية والاقتصادية، فالمجتمعات البشرية تدفع الثمن غاليا لبعدها عن الأخلاق، ودفعت هذه الروح “المابعدحداثية” بعض المسلمين في الغرب على وجه الخصوص، وتحت مسمى التقدم والليبرالية، للموافقة على ما لا يمكن أن يبيحه الإسلام مثل زواج الشواذ المثليين.
أصاب الدكتور سامي عامري –حفظه الله- في أن الإلحاد هو التحدي القادم، فقد بدأنا نرى مناظرات ليس بين المسلم وغيره من أتباع الديانات الأخرى كما كان الأمر تاريخيا، بل بين المسلم والملحد، وبدأت تظهر تسجيلات هذه المناظرات على مواقع التواصل الإجتماعي، وبدأ بعض “المسلمين” المثقفين يسمي نفسه ملحدا، تماما كما كان يحب بعضهم أن يسمي نفسه اشتراكيا قبل أن يقصم ظهر الشيوعية. كذلك هنالك من يسمي نفسه ليبراليا الآن، وهو تيار لا يقدم بدائل حقيقية على المستوى الاجتماعي أكثر من أن ما تريده الجماهير وتستطيع أن تحشد له الأصوات في مجالسها التشريعية، يصبح قانونا ساريا، حتى لو خالف تاريخ أعراف وأديان تمتد آلاف السنين، وعلى المستوى الاقتصادي يسمح بتغول الشركات والمؤسسات الإقتصادية.
لقد أراد الله –عز وجل- بالبشرية خيرا، ولكن الإنسان، وبسبب حرية الإرادة التي حباه الله إياها، يختار أن يسير في طريق الخير والهدى والرشاد، أو أن يفعل شرا. لقد كان هنالك صعلوك في الجاهلية قالت عنه أمه إنه “تأبط شرا وخرج” في كناية عن حمله السيف (في إحدى روايات القصة) وأنه أراد شرا بحمله إياه، ثم أصبح قول أمه علما عليه. وها نحن نرى البشرية قد تأبطت شرا وخرجت، في الحرب العالمية الأولى والثانية، وفي إنتاج وانتشار واستخدام أسلحة الدمار الشامل، وفي إفقار الاستعمار لدول الجنوب، وفي إهمال الأميين والمرضى والفقراء في مقابل برامج تسليح تفوق ميزانياتها الخيال. إن الإنسان هو الذي يخترع الشر ويسير في طريقه.
وقد بين المؤلف –جزاه الله خيرا- أن الكوارث الطبيعية قد تكون مصدر خير من حيث لا ندري، فالبراكين من حيث أنها تنفس عن محتوى الكرة الأرضية، إنما تحافظ على ديمومة الحياة البشرية، وإن كان هنالك من تصيبه هذه الكوارث. وأما البعد المعرفي، فقد أحسن إذ أشار إلى تعقيدات الحياة والكون، وعدم معرفتنا بكل التفاصيل، وهو تواضع معرفي يستوجب إدراك أن هنالك حكمة ربانية خلف كل ظاهرة طبيعية، قد ييسر الله –عز وجل- معرفة بعضها، ويخفى البعض الآخر، فالمعرفة البشرية التراكمية تظل جزئية.
يحاول الملحد عن طريق مناقشة العدل الإلهي أن يصل إلى إنكار وجود الله، ويجد المؤمن في هذا الكتاب ضالته ويزداد إيمانا. إن خطاب الكتاب من التجريد بمكان، ولكنه التجريد الذي لا بد منه، وهو عين ما يحتاج إليه العقل المسلم وغير المسلم.
بيت المقدس في 14 رمضان 1434، الموافق 22 تموز 2013