المشكلة المنطقيّة للشر

-أ-

تمثّل المشكلة المنطقية للشر الشكل التقليدي لهذا الاعتراض الإلحادي، وقد شاعت قديمًا مع الفيلسوف اليوناني (إبيقور) (Epicurus)،[1] وهي تقرّر أنّ وجود الشر في العالم يتعارض مع وجود الإله؛ إذ إنّ الكمال الإلهي يقتضي (1) ألّا يكون هناك شر في العالم، (2) وألّا يفعل الله الشر. وحول هذا الإشكال سندندن هنا!

ما هي المشكلة المنطقيّة للشر؟

تتمثّل المشكلة المنطقيّة للشرّ في الزعم أنّ وجود الله العليم القدير الخيّر يتنافر مع وجود الشرّ في هذا العالم، أيّ إنّ وجود الله يقتضي عدم وجود الشرّ؛ إذ الشرّ محض فساد لا خير فيه. وقد عرّف (ويليام رو) هذه المشكلة بقوله: “الشكل المنطقي لمشكلة الشر هو الرؤية التي تقول إنّ وجود الشرّ في عالمنا منافر منطقيًا لوجود الربّ الألوهي”.[2] وزاد على ذلك بقوله إنّ تناقض وجود الشرّ ووجود الإله الخيّر يلزم منه نفي أحدهما، ولما كانت معرفتنا بوجود الشرّ يقينيّة لا يمكن نفيها، وجب إذن القول بنفي وجود الله.[3]

ليقوم الاعتراض الإلحادي المتعلّق بدعوى الاستحالة المنطقية لوجود الله والشرّ على رجليه، عليه أن يثبت هذا التعارض منطقيًا. وللمؤمن بالله أن ينفي هذا التعارض بإثبات أنّ الشرّ ليس فسادًا محضًا وذلك بإمكان إثبات أنّه قد يتُوصّل بالشرّ إلى خير أعظم منه أو إلى دفع شرّ أشدّ منه.[4]

بعبارة أوضح، يزعم الملحد أنّه:

  1. لا يستقيم منطقيًا أن يسمح الإله الكامل في علمه وقدرته وخيريّـته للشرّ أن يوجد.
  2. الشرّ موجود.
  3. = إذن الله غير موجود.

يبدو هذا التسلسل في الاستدلال لأوّل وهلة مرتبًا على طريقة سلسة؛ فالتسليم بالمقدمتين السابقتين يلزم منه التسليم بالنتيجة، لكنّ الأمر عند النظر يكشف أنّ هذه المعادلة غير بدهية؛ إذ هي لا تُظهر وجه التناقض بين وجود الإله الخيّر ووجود الشر، وهو ما أقرّ به أهم فيلسوف ملحد في القرون الأخيرة كتب في المشكلة المنطقية للشر، وهو الأسترالي (ج. ماكي)، ولذلك كتب: “… مع ذلك فالتناقض لا يظهر بصورة مباشرة، فإننا نحتاج حتى يظهر إلى بعض المقدمات المنطقية، أو ربما بعض القواعد شبه المنطقية تربط ألفاظ “الخير” و”الشر” و”كامل القدرة”. هذه المبادئ الإضافية هي أنّ الخير يقابل الشرّ إلى درجة أنّ الشيء الخيّر يقوم دائمًا بإزالة الشرّ كلّما أمكنه ذلك، وأنه لا توجد حدود لما يمكن لكامل القدرة أن يقوم به. يتبع ما سبق القول إنّ كامل القدرة الخيّر عليه أن يزيل الشرّ كليّة، وأنّ فرضيتَيّ وجود كامل القدرة الخيّر ووجود الشرّ متناقضتان”.[5]

أضاف ماكي بذلك مقدمتين اثنتين إلى المقدمتين الأوليين:

  1. لا يستقيم منطقيًا أن يسمح الإله الكامل في علمه وقدرته وخيريّـته للشرّ أن يوجد.
  2. الشرّ موجود.
  3. الكائن الخيّر يتخلّص دائمًّا من الشرّ ما أمكنه ذلك.
  4. لا حدود لما يملك الكائن مطلق القدرة أن يفعله.
  5. = إذن الله غير موجود.

انطلاقًا من هذا الاستدلال، يرى (ج. ماكي) أنّ الإله الخيّر مطلق القدرة، إن وُجد، فعليه ألا يسمح للشرّ بالوجود، ولذلك فوجود الشرّ يلزم منه منطقيًا أن هذا الإله غير موجود.

حتّى يصحّ أيّ استدلال منطقيّ لإثبات تعارض وجود الله ووجود الشرّ لا يكفي أن تكون المقدمات المنطقية ممكنة أو صحيحة، بل لا بدّ أن تكون ضرورية (necessary) أي إنّه يمتنع على العقل افتراض صحّة غيرها؛ إذ يترتب على ذلك تناقض عقلي، وهو ما أقرّ به (ويليام رو) بقوله: “حتى يعمل هذا الإجراء، لا يكفي أن يكون ما نضيفه من تقرير صحيحًا (just true) وإنما يجب أن يكون صحيحًا ضرورة (necessarily true)… رغم أنه بإمكاننا أن ننجح في استنباط تناقضات ظاهرة للتقريرات، إذا كانت التقريرات المعتمدة لاستنباط التناقض الصريح صحيحة، دون أن تكون صحيحة ضرورة، إلّا أننا لن ننجح بذلك في إظهار أنّ التقريرين الأصليين متعارضان منطقيًا“.[6]

ويرى في المقابل الفيلسوف (ستيفن دافز) (Stephen Davis) أنه يكفي للمؤمن بالله لينقض دعوى التناقض المنطقي بين وجود الله ووجود الشر أن “يشير إلى إمكانية (وهذا كلّ ما يُحتاج إليه، مجرّد الإمكانية) أن تكون لله حجة أخلاقية جيدة للسماح بوجود الشر.”[7]

الصورة الاستدلالية لمشكلة الشرّ المنطقيّة كما عرضها (ماكي) هي الأقوى ضمن صياغات هذه الشبهة، ولذلك أخذت حيزًا كبيرًا من اهتمام الثيوديسيين. وبإمكان المؤمن بالله أن يردّ عليها من خلال التعرّض لفساد المقدمتين المنطقيتين الثالثة والرابعة، لبيان أنّ الترتيب المنطقي هنا لا يستقيم شكلًا.

هل على الإله الخيّر أن يمنع وجود الشرّ؟

تقرّر المقدّمة الثالثة أنّ على الإله الخيّر أن يتخلّص من الشرّ ما أمكنه ذلك لأنّ طبيعته الخيّرة تتعارض بصورة تامة مع الشرّ.

لا تحمل هذه الدعوى دليل صحّتها، فهي مجرّد قفزة لامنطقيّة من دعوى تعارض الخير والشرّ إلى غيرها دون تمهيد. ولنقض هذا التصوّر بإمكاننا أن نثبت إمكانية أن تكون لله حِكَم بالغة في وجود الشرّ في خلقه تزيد قدرًا على وجود الشرّ ذاته.

سنتحدث بالتفصيل لاحقًا عن الحِكم الربّانية من وجود الشرّ الأخلاقي الذي يقع بأيدي الناس والشرّ الطبيعي الذي لا يد للناس فيه، ولكننا نكتفي هنا بالإشارة إلى أنّ الحكم المنطقيّة أو الممكنة من وجود الشرّ والتي تزيد في قيمتها على وجود الشرّ كثيرة، ومنها اختبار الناس في هذه الأرض في حياةٍ سبب وجودها امتحان إيمانهم أمام الفتن، نعمًا ومحنًا، ومنها حرية الإرادة، فإنّ منح الناس حريّة للاختيار في الفعل يلزم منه أن يختار ناسٌ الخير ويختار غيرهم الشر، ومنها أنّ الشرّ سبب لتنمية الذات وتطويرها وتهذيبها بمصارعة أسباب السقوط … كلّ هذه الحكم ممكنة ومجرّد إمكانها -حتى لو كانت غير راجحة- كافٍ لإفساد المقدمة الثالثة؛ إذ ليس علينا هنا إلا أن نثبت بطلان الاستحالة المنطقية لوجود الشرّ في عالم خلقه إله خيّر، لا مجرّد فسادها.

أهمّ انتقاد وُجه إلى الإمكانية المنطقية لأن يسمح الله للشرّ بالوجود، كان بقلم (أنتوني فلو) لما كان ملحدًا، فقد كتب ردًا على الفيلسوف (بلنتنجا) -أشهر من انتصر لحرية الإرادة كردّ على المشكلة المنطقية للشرّ- قائلًا إنّه بإمكان الإله أن يخلق عالما يكون فيه الإنسان حرًا دون أن يلزم من حريّة الإرادة أن تقود إلى اختيار الشرّ ولو في بعض الأحيان.[8]

اعتراض (فلو) قاصر من أوجه عن إصابة هدفه، ومن ذلك:

  • قصارى ما يمكن أن يبلغه اعتراض (فلو) -إن صحّ- هو أن يكون صحيحًا، لا صحيحًا ضرورة، وبذلك يفشل في إثبات التناقض المنطقي المطلوب لنجاح حجّة الشرّ المنطقيّة، فهو لم يثبت التعارض المنطقي بين وجود الله ووجود الشرّ، وإنما أثبت فقط-إن أصاب- أنّ حريّة الإنسان من الممكن أن تكون توافقية (compatibilistic) أي إنّها لا تتعارض مع الحتمية (determinism) على خلاف مذهب التحررية (libertarianism) الذي يرى حريّة الإرادة دون قيد. والنتيجة هي أنّ اعتراض (فلو) لا يصبّ في إثبات منطقية تعارض وجود إله ووجود الشرّ.
  • التصوّر الإسلامي لوجود الشرّ في عالم الناس ليس مجانيًا، وإنّما وهب الله الناس حريّة للإرادة لأنّه سبحانه يريد أن يختبرهم على هذه الأرض، وبالتالي يغدو افتراض إمكانية أن يخلق الله الناس بإرادة حرّة مع سوقهم كلّ مرة إلى الاختيار الصحيح بلا معنى؛ لأنّ الله أراد لهم أن يصيبوا ويخطئوا تبعًا لنيّاتهم وصلاح قلوبهم وجوارحهم. وقد فشل (بلنتنجا) في سوق هذا الردّ في جوابه على (فلو) وغيره لأنّ النصرانيّة لا توفّر له هذا التصوّر العقدي.
  • أسباب سماح الله بوجود الشرّ كثيرة، وما حريّة الإرادة إلا علة من العلل الكثيرة، ولذلك فاعتراض (فلو) قاصر عن أن يبطلها جميعًا بمجرّد النجاح في إبطال سبب واحد منها.

ومن المفيد هنا أن نضيف أنّ (فلو) قد أشار بعد رجوعه عن إلحاده إلى أنّ المؤمن بالخالق من الممكن أن يتجاوز مشكلة الشر من خلال الإيمان بإله (أرسطو) المتنائي عن العالم بعد أن برَأه، فهو بذلك لا يشغل نفسه بإقامة عالم يعكس معاني العدل والرحمة، أو من خلال تقرير أنّ حريّة الإرادة الموهوبة للإنسان سبب لوجود الشرّ، إذا كان المؤمن يرى أنّ الله قد كشف عن نفسه لخلقه من خلال الوحي.[9] وهو ما يعني تراجعه عن دعواه الإلحادية الأولى.

كمال القدرة والقدرة على المستحيل

ما معنى أن يكون الإله كاملَ القدرة (omnipotent)؟ هل يعني ذلك أنّه:

  • قادر على فعل كلّ شيء ولو كان محالًا من الناحية المنطقية؟

أم

  • قادر على فعل كلّ شيء ممكن منطقيًا؟

يقرّر علماء العقيدة من المسلمين، ومعهم النصارى[10] واليهود، أنّه لا يصحّ أن يُقال إنّ الله قادر على فعل “المستحيل منطقيًا”؛ لأنّ هذا المحال عدم، والقدرة لا تتعلّق بالعدم؛ إذ إنّ هذه المحالات المطلوبة من الربّ، ليست في حقيقتها أشياء ممكنة الوجود أو حتّى التصوّر، فهي على الصواب مجرّد مخادعات لفظيّة لا يمكن أن يكون لها وجود في غير عالم اللغة الشكلي.

ومن الأغلوطات الكلاسيكية التي يسوقها الملاحدة: هل يقدر الله أن يصنع صخرة يعجز عن حملها؟ وهل يقدر الله أن يخلق إلهًا مثله؟ وهل يقدر الله أن يرسم مربعًا مستديرًا؟ وهل يقدر أن يوجد متزوجًا أعزب؟

كلّ هذه الأمثلة “لا يمكن” لله أن يفعلها لأنها ليست أشياء واقعية على الحقيقة؛ فالصخرة مهما بلغ حجمها متناهية، وقدرة الله غير متناهية، والإله ليس مخلوقًا بالضرورة، فلا يصحّ منطقيًا افتراض إله مخلوق، والمربع ليس دائرة بالضرورة، فلا يصحّ افتراض اجتماعهما، والمتزوّج لا يكون البتة أعزب لأنّ العزوبة مقابل الزواج.

ما يقرّره المؤلّهة هنا هو أنّ قدرة الله غير محدودة بحدّ منطقي؛ فالله -سبحانه- قادر على كلّ شيء، ولا يدخل المحال أو التناقض المنطقي في حدّ “الشيء”؛ فهو ليس بشيء وإنّما هو دال بلا مدلول!

وإذا رجعنا إلى مسألتنا أمكننا القول إنّ سماح الله للشرّ أن يوجد في ملكه لا يلزم منه الطعن في قدرته، لأنّ منعه الشرّ غير ممكن منطقيًا؛ إذ يلزم من القول بوجوب زواله تناقض منطقي؛ فإنّ الله قد سمح للشرّ بالوجود لأسباب منها أنه وهب البشر حريّة الإرادة للاختيار بين فعل الخير والشرّ في امتحان إلهي لنيّاتهم وأفعالهم، ولا تتعلّق قدرة الإله، على كمالها، بإزالة هذا الشرّ لأنه من غير المنطقي أن يمتحن الله عباده بالخير والشرّ دون أن يكون هناك شرّ!

هل من الممكن أن يخرج الملحد من هذا الإلزام بالقول إنّ الله قادر على المتناقضات؟

انتبه الفلاسفة الملاحدة أنفسهم أنّ هذا الاختيار لا ينصرهم؛ إذ إنّ المشكلة المنطقيّة للشرّ قائمة على عدم إمكان الجمع بين متناقضين، وهما وجود الله ووجود الشرّ، فإن أقرّ فلاسفة الإلحاد بإمكان الجمع لأنّ قدرة الله تتعلّق بالمتناقضات، لم يعد لشبهة الشرّ المنطقيّة معنى ولا مبرّر لأنّ الجمع بين المتناقضات ممكن وليس محالًا! ولذلك فمن مصلحة الملاحدة أن يلتزموا القول إنّ قدرة الله لا تتعلق بالمحالات. وهو ما التزموه، والتزمناه!

أليس الله “محبة”؟!

يسيطر على الثيوديسيين النصارى هاجس الحفاظ على دعوى الكتاب المقدس للكنيسة أنّ الله “محبّة” بإطلاق،[11] ولذلك يضطرون إلى تكلّفات عجيبة للجمع بين وجود الشر وأنّ الله “محبّة محضة”؛ إذ إنّ مقتضى هذه “المحبّة” اللامشروطة أن يخلو الوجود من كلّ أذى وفساد، وأن يتنعّم الإنسان بالدنيا مهما كان اعتقاده وفعله في الأرض.

لا يجد المسلم نفسه في مشاقة مع القول بأنّ الله “محبّة محضة” لأنّه لا يؤمن بهذا المعنى الذي لا يلتقي مع فهمه للعدل الإلهي والكمال الربوبي، وإنّما هو يؤمن أنّ الله سبحانه “ودود”، وهو –سبحانه- في ودّه لخلقه يختبرهم على الأمر البسيط ليمنحهم بفضله الخير العميم، وهو يبذل حبّه لمن تولّى عن الباطل وطرقه وأقبل على الحق وسبله، قال تعالى: {وَاسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُود}.[12] وهو –سبحانه- يقدّم أسباب النجاة للغافلين إلا أن يعادوا الحق، وهو أعظم الحب؛ إذ الحب في أفضل معانيه طلب الخير للغير وإن لم يكن أهله، قال تعالى: {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى}.[13] وهو متحبب إلى عباده بالإحسان إليهم، يستقبل الوافد إليه خير استقبال، ويغفر للعائد إليه بلا إمهال، قال تعالى: {وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُود}.[14] إنّه يدّخر حبّه لأهل الصراط القويم:{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا}،[15] وهذا هو الحب الذي يليق بالعظيم الذي يملك ولا يُملك، ويمنح ولا يُمنح، ويمنع ولا يُمنع.

سقوط المشكلة المنطقية للشر

من الممكن القول بيقين جازم إنّ دعوى لامنطقيّة الجمع بين وجود الله ووجود الشر في عالمنا قد تمّ تجاوزها في الغرب الذي يمسك فيه الإلحاد صولجان السلطان الفكري، وإنّها قد سقطت سقوطًا ذريعًا تحت مطارق دراسات الفيلسوف الأمريكي الشهير (بلنتنجا)،[16] ولذلك لا يكاد يعثر على شبهة الشر بهذا المعنى في الكتابات الغربيّة إلّا في الكتابات الإلحاديّة الشعبيّة التقليديّة بعد أن هجرها عامة الفلاسفة إثر هزيمتها أمام حجّة “الإرادة الحرّة” كمبرّر منطقي لوجود الشرّ في عالم خلقه إله خيّر. [17]

لم تختف – رغم ذلك- شبهة الشر من كتابات ملاحدة الفلاسفة في الغرب، وإنّما تقهقرت من دليل “عدم منطقية وجود الشر” إلى “عدم منطقية وجود الشر المجانيّ” gratuitous evil)) الذي سنطرقه لاحقًا. يقول (ويليام هاسكر) (William Hasker): “القول إنّ وجود الله لا يستقيم مع وجود الشر لم يعد بعد مستمسكًا بصورة كبيرة [عند الملاحدة]. جليّ أنّ مِن الشر ما هو شرط أساسي لوجود خير أكبر، وإذا كان الأمر كذلك، فربّما إذن كان السماح لهذا الشر بالوجود متّسقًا مع صفة الخير الإلهي (God’s goodness). الشرور التي لا تخدم مثل هذا الهدف الحسن، أي ما يعرف بالشرور المجانيّة، لازال يُعتقد بصورة واسعة أنّها متعارضة مع مبدأ الألوهية وتوفّر أساسًا قويًا للحجّة المعارضة للإيمان بإله”.[18] وهو ما أكّده أيضًا (ويليام لين كريغ) بقوله: “أهمل جلّ الملاحدة اليوم المشكلة الداخلية في هجومهم على المسيحيّة. وزعموا في مقابل ذلك أنّ الشر الذي يبدو غير مبرّر ولا ضروري في العالم-والمسمّى عادة بالشر المجانيّ- يمثّل حجّة ضد وجود إله”.[19] لقد سقطت باعتراف (وليام رو) (William Rowe) نفسه، فقد كتب بعدما كان من نقاش بينه وبين الفلاسفة المؤلّهة: “توجد حجّة مقنعة إلى حدّ ما للرؤية القائلة إنّ وجود الشرّ متوافق منطقيًا مع وجود الربّ الألوهي (theistic God)[20]“. [21]وصرّح بعجز فلاسفة الإلحاد عن إقامة البرهان لدعواهم بقوله: “لم ينجح أيّ أحد في تقديم تقرير يُعلم أنه صادق بالضرورة وأنه إذا أُضيف إلى [منظومة عقائد الألوهية التقليدية] فسيمكّننا من استخلاص نتائج متناقضة صراحة. في ضوء ذلك، من المعقول أن نستنتج أنّ الشكل المنطقي لمشكلة الشرّ ليس مشكلة ذات بال بالنسبة لمذهب الألوهية. إنّ طرحه المركزي، والمتمثّل في أنّ [منظومة عقائد الألوهية التقليدية] متناقضة منطقيًا، هو طرح لم يتمكّن أحد من إقامة حجّة مقنعة عليه.”[22]

ما الدلالة الكبرى على سقوط “مشكلة الشر المنطقية” في السجال الإيماني-الإلحادي؟

الدلالة الأعظم لهذه الانتكاسة الالحادية –إذا نظرنا إلى مشكلة الشر كأعظم برهان إلحادي يحمل دلالات ناسفة للدعوى الإيمانية- هي سقوط الوجه الوحيد الدال دلالة قاطعة على نفي وجود الرب-الألوهي؛ إذ يقوم “الاعتراض المنطقي” على الجزم القاطع بتعذر الجمع بين الإله القدير العليم الرحيم ووجود الشر، أمّا الأوجه الأخرى لاستشكالات الشر فلا تزعم النفي المطلق لوجود الذات العليّة، وإنما تكتفي بالقول إنه من المستبعد جدًا أن يوجد هذا الإله. وبين القول إنّ وجود الله محال؛ فلا جدال، والقول إنّ وجوده ينفيه الرجحان، نزول من مرتبة اليقين إلى الظن والتخمين.

  1. يجدر التنبيه أننا لا نملك النص الأصلي (لإبيقور) (وإنما اشتهرت مقولته في القرون الأخيرة بنقل (هيوم) لها في كتابه: “Dialogues Concerning Natural Religion“)، ولا نعرف أين أورد هذه العبارة، ولسنا حتى واثقين أنّها شبهة إلحادية قصد بها مضادة الإيمان؛ إذ قد يكون (إبيقور) قد أوردها كمسألة حَريّة بالنظر دون القول بها.
  2. William Rowe, Philosophy of Religion: An Introduction (Encino, Calif.: Dickenson, 1978), p113.
  3. Ibid.
  4. Jane Mary Trau, “The Positive Value of Evil”, p.21
  5. J. Mackie, “Evil and Omnipotence,” p. 201.
  6. Rowe, Philosophy of Religion, p. 114.
  7. Stephen T. Davis, “Rejoinder,” in Encountering Evil, ed. Stephen T. Davis, Louisville: Westminster John Knox Press, 2001), p. 102.
  8. Antony Flew, “Divine Omnipotence and Human Freedom,” in New Essays in Philosophical Theology, eds. Antony Flew and A. C. MacIntyre (London: SCM Press, 1955), pp.150-153
  9. Antony Flew, There is a God, p.156
  10. لم يخالف في ذلك إلّا قلة هامشية مثل ديكارت ومارتن لوثر.
  11. 1 يوحنا 4/8،16.
  12. [هود:90]
  13. [فُصِّلَت:17]
  14. [البروج:14]
  15. [مريم:96]
  16. William Hasker, “D. Z. Phillips’ Problems with Evil and with God,” p. 152.
  17. Chad Meister, Introducing Philosophy of Religion (London; New York : Routledge, 2009), p.134
  18. William Hasker, “The Necessity of Gratuitous Evil,” in Faith and Philosophy, Volume 9, Issue 1, January 1992, p.23
  19. William Lane Craig, Hard Questions, Real Answers, p.101
  20. يبدو أنّ رو يقصد “بالربّ الإلوهي” الربّ الذي يتدخّل في العالم، مع اتصافه بالعلم والقدرة والرحمة، على خلاف ربّ الربوبيين (deists) المفارق للعالم والمتنائي عنه.
  21. William Rowe, “The Problem of Evil and Some Varieties of Atheism” in American Philosophical Quarterly, October 1979. 16 (4): 335
  22. Rowe, Philosophy of Religion, p. 117.

© جميع الحقوق محفوظة لمبادرة البحث العلمي لمقارنة الأديان