ملحق

البرهان الفلسفي والعلمي لخلق المادة والزمان

بين القرآن الكريم والتوراة والإنجيل

(ردا على ويليام لين كريغ)

لا يكاد يخلو كتاب خطّه مؤلّف نصراني يردّ على الإلحاد في المكتبة الإنجلوسكسونية من الاستدلال بالبرهان العلمي لخلق العالم لإثبات أنّ كوننا مخلوق، وضرورة وجود خالق حتى يوجد هذا الكيان المادي الحادث بعد عدم. ويقابل ذلك خفوت الصوت الإسلامي في دفع الإلحاد في المكتبة نفسها.[1] وإذا ذكر البرهان العلمي عند أهلنا، كان ذلك على استحياء، وفي قالب باهت وعبارات عامة لا تبعث في النفس حرارة الابتهاج به، حتى لكأنّ هذا البرهان دخيل على التصوّر الكوني للمسلم!

والملاحظ في الجدل الإيماني-الإلحادي في الغرب، تسليم الملاحدة عمومًا لموافقة برهان الحدوث لأصول النصرانية العقدية والكتابيّة، فلا تجد في مناظراتهم مع (وليام لين كريغ) و(نورمان غيزلر) (Norman Geisler) و(فرانك ترك) (Frank Turek) وغيرهم غير محاولة نقض ضرورة القول بحدوث العالم، لا القول إنّ أدلّة حدوث العالم كما يستظهرها دعاة النصرانية لا تتوافق مع كتبهم المقدسة. ولذلك سنقحم نحن المسلمون أنفسنا في هذا الجدل، مقرّرين أنّه على دعاة النصرانية (واليهودية) أن يثبتوا أمرين سلفًا حتى يصحّ لهم الاعتراض على الملاحدة، وهما أنّ:

  • البرهان الفلسفي التجريدي لخلق الكون لا يصادم مقررات النصوص المقدسة للكنيسة.
  • البرهان العلمي لخلق العالم، والمتمثّل في نموذج الانفجار العظيم منذ 13.7 بليون سنة لا يصادم الكتب المقدسة للكنيسة.

وعلى المسلم –في المقابل- أن يقيم البرهان على الأمرين السابقين بإثبات عدم مصادمة القرآن –وكذلك السنّة النبويّة المطهرّة- للقول بخلق العالم، ولليقيني من البرهان العلمي المعاصر على نشأة الوجود المادي كلّه من عدم.

وسيكون الموقف الإسلامي أقوى وأعظم إن استطعنا إثبات أنّ القرآن والسنّة يؤكّدان البرهان العلمي لخلق العالم في صورته المعاصرة ويُصَحِّحان أخطاء التوراة والإنجيل إن وجدت… وحتّى نؤمّن القارئ من غوائل التدليس، فعلينا أن نناقش الكتب المقدسة بنصوصها الأصلية، وضمن سياقاتها التاريخية، لنبحث معاني ألفاظها الحقيقية، كما علينا ألا نستدلّ من السنّة النبويّة إلا بما صحّ منها..

قصة الخلق في التوراة والإنجيل
  1. الكون الأزلي في التوراة؟
  1. “برا” والخلق من عدم
  1. كيف تصوّر كاتب سفر التكوين أصل الكون؟
  1. العلم في مواجهة التوراة والإنجيل
  1. قصة الخلق.. بين رواية التوراة ورواية العلم
  1. الكون البليوني أم الكون الألفي؟
  1. عندما فجع النصارى واليهود
قصة الخلق في القرآن والسنة
  1. الأول، خالق كلّ شيء
  1. عندما يفارق القرآن التوراة
  1. عندما يصحح القرآن أخطاء التوراة
  1. عندما يسبق القرآن خبر الانفجار العظيم
  1. عندما تهدم السنّة النبويّة دعوى الكون الصغير

قصة الخلق في التوراة والإنجيل

لا أظنّ أنّ أحدًا يجادل في أنّ الفيلسوف الأمريكي (ويليام لين كريغ) هو أهم من يقدّم اليوم (برهان الحدوث) في صيغته العصرية، ببراعة، في السجال مع فلاسفة الإلحاد، لإثبات وجود الله أو للإجابة عن سؤال: “.. فمن خلق الله؟”، ولكنّك لا –تكاد- تجد أحدًا من الملاحدة يواجه (كريغ) بحقيقة أنّ استدلال المؤمن بقداسة التوراة والإنجيل ببرهان الحدوث يجب أن يقوم على مقدّمتين:

  • تقرير التوراة والإنجيل خلق الكون من عدم.
  • مطابقة النصوص المقدسة للنصرانية (واليهودية) للبرهان العلمي المستدلّ به لخلق الكون.

وعلينا هنا أن نضع الأمرين السابقين على المحك، بأن نبحث في دلالة قصة الخلق اليهودية-النصرانية على “الخلق من عدم”، وموافقتها لحقائق العلم الطبيعي الذي نستدلّ به جميعًا للقول بخلق الكون.

  1. الكون الأزلي في التوراة؟

من السائد في الثقافة الشعبية الغربية القول إنّ الكتاب المقدس[2] يقرّر بوضوح عقيدة “الخلق من عدم”. وينطلق دعاة النصرانية واليهودية -لدفع شبهة: “…فمن خلق الله؟”- من الزعم أنّ النصوص المقدسة تصرّح بنشأة الكون من لاشيء بناءً على أمرين:

  1. دلالة كلمة “בָּרָא” [برا] في بداية قصة الخلق التوراتية (تكوين 1/1: “في البدء خلق الله السماوات والأرض”) على الخلق من عدم.
  2. دلالة سياق قصة الخلق في الفصل الأول من سفر التكوين على الخلق من عدم.

ويقول مخالفوهم –ونحن منهم- إنّ:

  1. فعل [برا] لا يدلّ ضرورة على الخلق من عدم.
  2. الدلالة اللغوية والسياقية والحقيقة المصدرية للفصل الأول من سفر التكوين، كلّها دالة على أزليّة الكون.
  3. “برا” والخلق من عدم

إنّ المتابع للجدل الإيماني الإلحادي في الغرب يعجب لجراءة )هيو روس( -وإن شئت قلت وقاحته- بسبب تكراره الدائم في كتبه ومحاضراته ومناظراته أنّ التوراة هي الكتاب الديني الوحيد على وجه الأرض الذي يثبت خلق الكون من لاشيء، لا من مادة سابقة، وحجّته هي أنّ التوراة في أوّل جملة فيها تقول: “في البدء خلق (בָּרָא) [برا] الله السماوات والأرض”. ولا يحتاج القارئ العربي البسيط، وكذلك العالم باللغات السامية أن يدرك أنّ كلمة [برا] التي تتكوّن من ثلاثة حروف “ب-ر-ا” هي نفسها “بَرَأ” العربية. ولو راجع (روس) أشهر معاجم العبرية التوراتية، لقرأ مثلًا:[3]

كما جاء في “لسان العرب”: “برأ: البارئ : من أسماء الله – عز وجل – والله البارئ الذارئ. وفي التنزيل العزيز: {الْبَارِئُ الْمُصَوِّر}.[4] وقال – تعالى-: {فَتُوبُواْ إِلَى بَارِئِكُمْ}[5]. قال: البارئ: هو الذي خلق الخلق لا عن مثال. قال: ولهذه اللفظة من الاختصاص بخلق الحيوان ما ليس لها بغيره من المخلوقات، وقلما تستعمل في غير الحيوان، فيقال: برأ الله النسمة وخلق السماوات والأرض. قال ابن سيده: برأ الله الخلق يبرؤهم برءا وبروءًا: خلقهم، يكون ذلك في الجواهر والأعراض. وفي التنزيل: { مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي أَنفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا}[6] “.[7]

فالكلمة العبرية [برا] محفوظة أيضًا في لسان العرب، والمعجم القرآني، فكيف تكون التوراة قد تفرّدت بها؟!

ثم إنّ هذه الكلمة لا تعني ضرورة “الخلق من عدم”، بل لا دليل على أنّها تعني دائمًا هذا المعنى في لسان العرب أو في اللسان العبري؛ ففي لسان العرب تعني “الإيجاد لا عن مثال سابق” أو “الخلق من عدم”، والسياق هو الحاسم في توجيه المعنى إلى أحد المرادين.

وقد استُعمل فعل [برا] مرارًا في (العهد القديم) في خلق من لهم أصل مادي سابق (تكوين 1/21، 27؛ 5/2، إشعياء 43/1، 45/7…)، فكيف إذن صار حجّة قاطعة للخلق من عدم؟!

كما أنّ السياقات التي استعملت فيها كلمة [برا] دالة أنّ هذا الفعل مرادف لفعلين آخرين استعملا للخلق في (العهد القديم)، وهما أيضًا لا يدلّان على الإنشاء من عدم: “עָשָׂה” [عسا] أي “صنع” “to make” و” יָצַר” [يتسر] أي “صوّر” أو “شكّل”. فقد استعملت -مثلًا-كلمة [برا] مع كلمة [عسا] في إشعياء 45/12 بما يفيد تطابقهما دلالة: “أَنَا صَنَعْتُ (עָשִׂ֣יתִי) الأَرْضَ وَخَلَقْتُ (בָרָ֑אתִי) الإِنْسَانَ عَلَيْهَا.” ليس –إذن- في عموم فعل [برا] ما يميّزه عن مظاهر الخلق والتشكيل الأخرى في شأن أصل المصنوع.

ويستدلّ (كريغ) بالقول إنّ فعل [برا] لا ينسب إلا للإله في (العهد القديم)، للزعم أنه حجة للخلق من عدم. وهذا تعسّف في استنطاق هذا الفعل العبري؛ إذ إنّ هذه الدعوى راجحة لو ثبت عندنا أنّ فعل [برا] لم يستعمل إلا في مقام الحديث عن البداية الأولى المطلقة للخلق، أمّا وقد ثبت عندنا من نص سفر التكوين وغيره من نصوص (العهد القديم) أنّ هذا الفعل قد استعمل لمن لم يوجدوا من عدم محض -كما هو ثابت في حق (آدم) عليه السلام، وإسرائيل (إشعياء 43/15)…- فإنّ الالتزام بحقائق الألفاظ يقتضي عندها القول: صحيح أنّ [برا] هو فعل خاص بالإنشاء الإلهي، لكن لا يمكن حصره بالإيجاد من عدم إلا بقرينة، وهذه القرينة كما يزعم (كريغ) و(بول كوبان) (Paul Copan)–في كتابهما المشترك “خلق من عدم”- هي السياق.[8] ولا يملك (كريغ) أن يستدلّ بسياق تكوين 1/1 لأنّ أصل النزاع بيننا وبينه هو في حقيقة هذا السياق كما سيأتي لاحقًا.

ومن تعسّفات (كريغ) و(كوبان) أنّهما رغم إقرارهما أنّ “فعل [برا] لا يتضمّن بصورة ضرورية الخلق من عدم في سياق الفصل الأول من سفر التكوين”[9]، إلا أنّهما أضافا أنّ القرائن التراكمية تدلّ على معنى الخلق من عدم في ذاك الفصل. وهي قرائن –على الحقيقة- لا تأخذنا إلى حيث يريد (كريغ).

ولعلّ أقوى ما استدلّ به (كريغ) وصاحبه لصالح دلالة [برا] على الخلق من العدم هو أنّ هذه الكلمة هي الأفضل للتعبير عن هذا المعنى، ولا توجد في العبرية كلمة غيرها من الممكن أن تؤدّي المقصود. [10] وهو قول له حظ من النظر لو لم تكن قصّة الخلق ببنائها وتفاصيلها وخلفيتها التاريخية دالة على أزلية المادة.

ونحن وإن كنّا نعتقد أن (كريغ) قد فشل في إثبات دلالة كلمة [برا] في مفتتح قصة الخلق التوراتية على الإنشاء من عدم، إلا أننا نحمد له إقراره أنّ الوصول إلى إثبات عكس ذلك يحتاج إلى حجّة قويّة ومركّبة، على خلاف صاحبه (هيو روس) الذي يفتتح حديثه دائمًا عن العلم والتوراة في محاضراته في الكنائس والجامعات الأمريكية بالقول إنّ [برا] كلمة عبريّة دالة –بجزم ووثوقية- على الخلق من عدم، مضيفًا أنّه قد قرأ في شبابه الكتب المقدّسة لكلّ الديانات ولم يقتنع بغير التوراة والإنجيل لأنهما يوافقان العلم المعاصر بدقة،[11] وأنه لم يقتنع بالقرآن لأنّه يقرّر أنّ النجوم أقرب إلينا من الكواكب، وهي كذبة لا يملّ من تكرارها كلّما تحدّث عن تاريخه الشخصي والإيماني والعلمي. وأنا لست أدري أين رأى ما يزعمه في كتاب الله مع أنّ القرآن قد أشار إلى بُعد النجوم عنّا ولم يفعل ذلك عند ذكر الكواكب: {فَلاَ أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُوم وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيم}[12]! بل العجب أنّ النصارى يؤمنون بظهور (نجم) (ἀστήρ) [أَسْتِيرْ] عند ميلاد المسيح. وهو نجم لا يبعد عن الأرض سوى مسافة أمتار أو بضعة أميال، ولا تتجاوز سرعته 5 كيلومترات في الساعة (وهي السرعة التقريبية للماشي)؛ إذ إنّ ذاك النجم كان يتحرّك في السماء من أورشليم في اتجّاه بيت لحم، وكان عدد من المجوس يتّبعونه حتى وصلوا إلى المسيح الرضيع (متّى 2/9). وهي خرافة قديمة شائعة في الأمم الوثنية التي كانت تربط ميلاد العظماء بظهور نجمهم في السماء![13]

ب-كيف تصوّر كاتب سفر التكوين أصل الكون؟

كيف من الممكن أن نفهم مذهب الفصل الأول من سفر التكوين في شأن أصل الكون؛ أمن عدم هو –كما يقول (ويليام لين كريغ) وبقيةُ النصارى واليهود التقليديون- أم من مادة أزليّة كما يقول خصومهم؟

يكمن الحل في استنطاق النص بلفظه العبري وفي سياقه التاريخي، ولكن لا بدّ من التنبيه قبل ذلك إلى أنّ عامة النقّاد المتخصصين في النص التوراتي وتاريخه قد أجمعوا على القول: إنّ سِفر التكوين هو نص تجميعي لأكثر من قلم، وإنّه قد عرف شكله الأخير في القرنين السادس والخامس قبل الميلاد.

وقد يعترض علينا النصارى واليهود المحافظون بالقول: إنكم تنطلقون من نظرية غير مسلّمة، مؤكدين أن النص من تأليف (موسى) –عليه السلام- في القرن الثالث عشر قبل الميلاد أو قريبًا من ذلك. ونردّ نحن بالقول إنّ الدلائل التي تنسب النص إلى عمل تجميعي تمت إعادة تحريره (redaction) في شكله النهائي في المدّة التي ذكرنا، قوية جدًا،[14] وأمّا الردود التقليدية فمتهافتة جدًا،[15] ومع ذلك فنحن نطلب النظر في الدلائل التي سنسوقها، هل هي متناسقة مع بعضها، وبالتالي مؤكدة للتاريخ المتـأخر لتجميع التوراة، أم لا؟ علمًا أنّ قبول التاريخ التقليدي لكتابة التوراة لا ينفي ما سننقله من حجج.

وغاية ما نقوله هنا هو أنّ اليهود الذين جمعوا التوراة قد عاشوا في بابل –العراق القديمة-، وتأثّروا كغيرهم من الأقليات بالثقافة السائدة الغالبة في زمنهم، بما في ذلك تفسير نشأة الكون وشكله.

وقد كشفت الحفريّات الأثريّة في الموصل سنة 1849م عن قصة شهيرة هيمنت على التصور الكوسمولوجي للعراق القديمة على مدى ألفي سنة أو أكثر، وهي المعروفة باسم “إنوما إليش” ” ????? ‎”.

اسم القصّة مأخوذ من الجملة الأولى في الألواح الأثرية التي حفظتها: “عندما في العلو [السماء]”. والألواح تقدّم قصّة الكون منذ البدء. وتبدأ بالحديث عن حال أوّل حيث الماء هو كلّ شيء، وقد كان مختلطًا ببعضه، ثم انقسم الماء إلى ماء عذب هو الإله (أبسو) وماء مالح هو الإلهة (تيامت)، ولما تمايزا، أنجبا آلهة صغيرة. ثم تمضي القصة في ذكر صراع الآلهة ومكرهم ببعضهم حتى تصل إلى صراع الإله (مردوك) مع الإلهة (تيامت)؛ إذ يقوم (مردوك) بعد قتلها بتمزيق جسدها إلى نصفين، جاعلًا أحدهما سقف السماء والآخر الأرض.

ويكاد يتّفق النقّاد على الأثر الواضح لقصّة الخلق البابلية “إنوما إليش” على القصّة التوراتية، وبالذات تكوين 1/1-10: “في البدء خلق الله السماوات والأرض.

وكانت الأرض خربة وخالية، وعلى وجه الغمر ظلمة، وروح الله يرف على وجه المياه.

وقال الله: ليكن نور، فكان نور.

ورأى الله النور أنه حسن. وفصل الله بين النور والظلمة.

ودعا الله النور نهارًا، والظلمة دعاها ليلًا. وكان مساء وكان صباح يوما واحدًا.

وقال الله: ليكن جلد في وسط المياه. وليكن فاصلًا بين مياه ومياه.

فعمل الله الجلد، وفصل بين المياه التي تحت الجلد والمياه التي فوق الجلد. وكان كذلك.

ودعا الله الجلد سماءً. وكان مساء وكان صباح يوما ثانيًا.

وقال الله: لتجتمع المياه تحت السماء إلى مكان واحد، ولتظهر اليابسة. وكان كذلك.

ودعا الله اليابسة أرضًا، ومجتمع المياه دعاه بحارًا. ورأى الله ذلك أنه حسن.

ولعلّ أهم أوجه التشابه هي: [16]

الأسطورة البابلية التوراة
كانت الأرض بلا شكل وفارغة من الأزل. وصِفت الأرض بأنّها (תֹ֙הוּ֙ וָבֹ֔הוּ) [توهو وبوهو] أي بلا شكل وفارغة.

تكوين 1/2: “كانت الأرض خربة وخالية.”

وجود فوضى مائية (watery chaos) سابقة لخلق الكون. تكوين 1/2: في البدء كانت روح الله ترف على وجه المياه.
الكون كبيضة محاصرة بالمياه. الكون كبيضة محاصرة بالمياه.
الآلهة البحر اسمها (تيامت). تكوين 1/2: “على وجه الغمر ظلمة”. كلمة “غمر” في الأصل العبري (תְּהוֹם) (تهوم)، وهي اسم وإن لم يكن نحويًا مؤنثًا، إلا أنه استعمل مع أفعال ونعوت مؤنثة (تكوين 7/11، 49/25؛ تثنية 33/19، إشعياء 51/10…). ويتابع الكثير من النقاد (هـ. غنكل) (H. Gunkel) قوله منذ أكثر من قرن إنّ هذه الكلمة بقيّة من التراث البابلي، وهي تعني “البحر/المحيط الأوّلي” “primeval ocean”.[17]
ظهور الليل والنهار قبل خلق الشمس. تكوين 1/3-5،16: ظهور الليل والنهار قبل خلق الشمس.
لما قتل الإله (مردوك) الإلهة (تيامت) التي هي البحر، قام بشقّها نصفين، ثمّ شكّل من الأوّل قبّة السماء، ومن الثاني شكّل البحر على الأرض. تكوين1/6-7، 9-10: أنشأ الله جلدًا يفصل بين الماء الذي فوق قبّة السماء والماء الذي تحتها، ثم كوّن من الماء السفلي البحار.

مزمور 74/13: “أَنْتَ شَقَقْتَ الْبَحْرَ بِقُوَّتِكَ. كَسَرْتَ رُؤُوسَ التَّنَانِينِ عَلَى الْمِيَاهِ.”

مزمور 148/1، 4: “سَبِّحُوا الرَّبَّ مِنَ السَّمَاوَاتِ. سَبِّحُوهُ فِي الأَعَالِي… سَبِّحِيهِ يَا سَمَاءَ السَّمَاوَاتِ، وَيَا أَيَّتُهَا الْمِيَاهُ الَّتِي فَوْقَ السَّمَاوَاتِ.”

مزمور 104/3: “المسقّف علاليه بالمياه”.

حدث صراع بين الإله (مردوك) والآلهة البحر في بدء الخلق، وكانت الآلهة البحر على شكل تنين. تكرّر الحديث عن صراع الربّ مع التنين في (إشعياء 27/1؛ 51/9؛ المزمور 74/13…).
خلق الربّ النجوم بعد ذلك في قبّة السماء. تكوين 1/14: “وقال الله لتكن أنوار في جلد السماء”. فالأنوار موضوعة في هذه القبّة الصلبة، كما الأنوار في السقف، ملتصقة بشيء ثابت.
الأرض قائمة على أعمدة (يظهر ذلك في الفن البابلي القديم). 1 صموئيل 2/8: ” لأَن لِلرَّبِّ أَعْمِدَةَ الأَرْضِ، وَقَدْ وَضَعَ عَلَيْهَا الْمَسْكُونَةَ “، وزكريا 10/4، والمزمور 47/9…

إنّ هذا التشابه جلي لا تخطئه عين من خبر أمر الأسطورة البابلية، وهو ما دفع الأكاديمي الإنجيلي (جون والتون) (John Walton) –أستاذ العهد القديم في (Wheaton College) [18]– منذ بضع سنوات لتأليف كتابه “العالم الضائع للفصل الأول من سفر التكوين: الكوسمولوجيا القديمة والنقاش حول الأصول”، مؤكدًا أنّ عِماية الكنيسة عن حقيقة دلالة مدخل سفر التكوين على البداية التكوينية لا الإنشائية للكون، سببها جهل الكنيسة بكوسمولوجيا الشرق الأدنى القديم التي تقرّر أزليّة المادة وتحصر دور الربّ في تشكيلها، قائلًا: “باختصار، تشير الأدلة … من العهد القديم وكذلك من الشرق الأدنى القديم أنّهما (التوراة وقصة الخلق من الشرق الأدنى القديم) يُعرّفان حال ما قبل الخلق بالعبارات نفسها، ويُظهِران تميّز هذه الحال بغياب الوظائف (absence of functions) لا غياب المادة. وتدعم هذه المعلومة فكرة أنّ مفهومهما للوجود مرتبط بالطبيعة الوظيفية (functionality)، وأنّ الخلق هو عملية إيجاد وظيفة لحال عاطل عن الوظيفة وليس إيجاد مادة في واقع تغيب عنه المادة.” [19]

ورغم مقدمة (ويليام لين كريغ) و(بول كوبان) الحماسية لكتابهما: “الخلق من عدم”، وتوسّعهما في الردّ على المخالفين، إلّا أنهّما عندما تعرّضا لعلاقة التأثير بين “إنوما إليش” وقصة الخلق التوراتية، اختارا الأسلوب الشعبي في الردّ لدفع تهمة الاقتباس، وذلك بالحديث قصرًا عن الاختلافات بين القصّتين، دون دراسة أوجه التطابق أو الشبه.[20] فجوابهما يجيب عن غير سؤالنا، إنه يردّ على سؤال: “هل نقل النص التوراتي قصة الخلق السومرية/البابلية بكلّ تفاصيلها؟” وهو أمر ليس محل جدل ابتداءً، وإنمّا السؤال هو: “هل استفاد كاتب سفر التكوين من قصّة الخلق السومريّة/ البابلية عند صياغته للفصل الأوّل؟”، وهو ما فرَّ من الإجابة عنه كُلٌّ من (كريغ) وصاحبه.

وهنا لا بدّ أن نقرّر ثلاثة أمور هامة حتى لا يلتبس على القارئ فهم ما نريد بيانه:

  1. هناك اختلاف واسع بين قصة الخلق التوراتية وقصة الخلق البابلية، وذلك في مفهوم الألوهية، وعلاقة الإله بالخلق، وعدد من الأمور الأخرى.
  2. لا يلزم من التشابه بين قصّتَي الخلق أن تكون القصة التوراتية مفتراة كلّها، بل الراجح في كثير من الأحيان أنّ تشابه التفاصيل بين الموروث اليهودي والتراث الأسطوري البابلي سببه اقتباس اليهود من التراث البابلي تفاصيل جديدة لأصل القصة التي عندهم، كما هو الأمر في شأن قصّة (نوح) –عليه السلام- والطوفان، فالتشابه بين القصّتين بلغ حدّ التطابق الكامل في تفاصيل كثيرة.[21] ومردّ ذلك أنّ طوفان (نوح) -عليه السلام- قد أصاب أرض العراق، فأثّر في المخيال السومري والبابلي لمدّة طويلة، حتى إننا نجد آثار ذلك في (ملحمة جلجامش)… ـ ولما كانت التوراة قد جمعت رواياتها المختلفة وضُمّت إلى بعضها مع التعديل والتحريف والتوفيق على يد (عزرا) الكاهن إبّان السبي البابلي في القرن الخامس قبل الميلاد، فقد تبنّت الكثير من تفاصيل الطوفان العراقي القديم في نكهته الوثنية (ولذلك نظير في التراث الإسلامي؛ إذ نقلت كتب التفسير الكثير من تفاصيل التراث اليهودي وخرافاته عند وجود إطار كبير جامع بين نصوص القرآن وتراث اليهود).
  3. كانت الحضارات القديمة، البابلية والمصرية وغيرهما زمن السبي البابلي وقبله، تؤمن بأزلية الكون، ولم تكن تعتقد أنّ الآلهة سابقة للوجود المادي. ولم تُبدِ التوراة خروجًا عن مقتضى ذلك، وهو ما يدعونا إلى فهم قصّة الخلق التوراتية في إطارها الثقافي ذاك.

الأمور الثلاثة السابقة تهدينا إلى أنّه يبعد أن نتوقّع تخلّي اليهود عن جميع أصولهم لصالح الحضارة الغالبة، وإنما الأرجح أن يأخذ اليهود من غيرهم شيئا من تصوّراتهم الكونية، خاصة ما كان شائعًا بين الأمم القديمة، وبالذات ما تعلّق بالمعارف العلمية في ذهنية بدائية.

وسؤالنا الذي نتحدّى به (كريغ) هو: ما تفسير مشابهة التوراة للتراث الكوسمولوجي البابلي؟

أهي الصُدَف؟

الجواب: لا، فالصدفة لا تفسّر هذا التطابق في التفاصيل. وهي تفاصيل لا يمكن ردّها لحقائق علمية أو تاريخية، حتّى يُقال إنّ مردّ التطابق ذكاء القدماء؛ إذ إنّ ما ذكرناه فاسد علميًا، وهو محض خرافة.

أهو لسبق التوراة لقصة بلاد ما بين النهرين؟

الجواب: أجمع الباحثون أنّ أصل قصة “أنوما إليش” أسبق زمنًا من عصر (موسى) عليه السلام، ولم ينكر ذلك أحد من أكابر المدافعين عن النصرانية في الغرب من الأركيولوجيين وغيرهم، بما فيهم (كريغ) نفسه.

لم يبق لنا إذن غير الاقتباس. ولأنّ موضوعنا لا يهدف فقط إلى إثبات أثر الحضارات القديمة على رواية الخلق التوراتية، وإنما جهدنا منصرف لبيان مفهوم “الخلق من عدم” في التوراة، فسنسأل الآن السؤال الذي يعبّر عمّا نريد:

“ثبت أنّ التوراة قد تبنّت عددًا من التصوّرات الكونية البابليّة، فهل يمثّلُ تصوّر أزليّة الكون أحدها؟”.

وجواب السؤال السابق هو في معرفة أصل الأرض والماء في التوراة؛ فهما مظهر الوجود المادي في قصة الخلق.

ومفتاح الإجابة عن هذا السؤال نجده في مقدمة التوراة: “فِي الْبَدْءِ خَلَقَ اللهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ.” (تكوين 1/1). وهو نصٌ -فيما يبدو- واضح الدلالة على أنّ الله خلق في بدء الزمان الكون كلّه، فعبارة “السماوات والأرض” هي الصيغة العبرية القديمة للتعبير عن معنى “الكون”، ولذلك يسود في الثقافة الشعبية الغربية، بين النصارى والملاحدة، الاعتقاد أنّ التوراة تقرّر بلا شك أنّ الكون مخلوق.

وللأسف تبقى دراسات الأكاديميين بين الرفوف دون أن تصل إلى رجل الشارع، وروّاد الكنائس؛ إذ إنّ الجدل العلمي حامٍ حول ترجمة هذا النص الذي يقول بالعبرية:

בְּרֵאשִׁ֖ית בָּרָ֣א אֱלֹהִ֑ים אֵ֥ת הַשָּׁמַ֖יִם וְאֵ֥ת הָאָֽרֶץ بريشيت برا إلوهيم إيت هشّامَيم وإت هاآرتس

والجدل منصب أساسًا على ترجمة عبارة: “בְּרֵאשִׁ֖ית” “بريشيت”، فالباء بمعنى “في/عند” و”ريشيت” بمعنى “بدء”، فهل تترجم العبارة “في البدء” كما هي الترجمة التقليدية المعروفة، بإضافة أداة التعريف في اللغة العبرية (ه) (ה) بصورة مضمرة، أم تترجم “في بدء”، بمعنى أنّ النص يقول: “عندما بدأ الله في خلق السماوات والأرض”؟، فالنص بذلك يصف حال الكون عندما بدأ الله التعامل معه، أي إنّ هناك وجودًا ماديًا أزليًا مع الله، ويكون نص تكوين 1/1 بذلك بداية تشكيل هذا الوجود المادي لا بداية إخراجه من العدم.

إنّ الصيغة التي تقرّر أنّ الكون أزلي، وأنّه “عند بدء خلق السماوات والأرض” كان صنيع الرب متمثلًا في تصوير الوجود لا إيجاده من العدم، لها أنصارها من علماء التوراة العبرية، بل قد تبنّـتها ترجمات معتبرة رغم ما يحمله لها ذلك من عداوات الأصوليين النصارى واليهود في سوق الكتب حيث تتحكم توجّهات الزبائن في اختيارات المترجمين.[22] ومن هذه الترجمات:

New Revised Standard Version: “In the beginning when God created the heavens and the earth—the earth was a formless void”.

ترجمة (New Revised Standard Version) (1989م) هي مراجعة حديثة لواحدة من أهم الترجمات البروتستانتية الإنجليزية اليوم (Revised Standard Version). وقد قام على هذه المراجعة عدد كبير من المتخصصين من البروتستانت والروم الكاثوليك والأرثودكس اليونان. وهي ترجمة مزكاة بصورة رسمية من 33 فرقة كنسية بروتستانتية، وحصلت على إجازة النشر من “اتحاد المطارنة الكاثوليك في الولايات المتحدة”، وفي كندا. كما زكّاها رأس الكنيسة اليونانية الأرثودكسية.

New American Bible: “In the beginning, when God created the heavens and the earth and the earth was without form or shape”

ترجمة (New American Bible) (1970م) هي أكثر ترجمة كاثوليكية إنجليزية تداولًا في الولايات المتحدة الأمريكية، وقد قام عليها خمسون من العلماء الكاثوليك، وتتميّز بطابعها الحَرْفيّ. وهي حاصلة على الإجازة البابوية للنشر (imprimatur). وقد جاء في هامشها: “صنع الله كونًا منظمًا من فوضى بدائية… . كان السطر الأوّل يترجم دائمًا حتى العصور الحديثة: “في البدء خلق الله السماوات والأرض.” العديد من قصص الخلق المقارنة المكتشفة حديثًا فيها صيغة : “عندما … ثم” ” when…then”، وهو ما يؤكّد صيغة: “عندما … ثم” هنا أيضًا. تقدّم “عندما” الحال السابقة للخلق، وتقدّم “ثم” العمل الخلقي المؤثّر على تلك الحال. لا تعكس الترجمة التقليدية “في البدء” الطبيعة النحوية العبرية لهذا المقطع”.

New English Bible: “In the beginning of creation, when God made heaven and earth, the earth was without form and void”

ترجمة (New English Bible) (نشر العهد القديم في 1970م) قام بها مجموعة من كبار العلماء المتخصصين، ودعمتها كثير من الكنائس في بريطانيا. وقد زكّاها عدد من كبار النقاد، منهم الناقد النصراني المحافظ “ف. ف. بروس” “F. F. Bruce”.

Traduction Œcuménique de la Bible: “Lorsque Dieu commença la création du ciel et de la terre, la terre était déserte et vide”.

ترجمة (Traduction Œcuménique de la Bible) (1975-1976م) هي واحدة من أهم الترجمات الفرنسية للكتاب المقدس، وقد أشرف عليها عدد من العلماء الكاثوليك والبروتستانت. وكان الآباء الدومنيكان هم من أطلقوا هذا المشروع في البدء.

Young’s Literal Translation: “In the beginning of God’s preparing the heavens and the earth — the earth hath existed waste and void.”

ترجمة (Young’s Literal Translation) (1862م) قام بها (روبرت يونغ) (Robert Young) صاحب المعجم الكتابي الإحصائي الشهير (Young’s Analytical Concordance to the Bible).

New Jewish Publication Society of America Tanakh (NJPS): “When God began to create heaven and earth—the earth being unformed and void”.

ترجمة (NJPS) (نشر سفر التكوين سنة 1962م) قام بها مجموعة من العلماء المتخصصين في كل من التراث اليهودي والدراسات الكتابية الحديثة. وهي أوسع ترجمة يهودية انتشارًا بين اليهود الناطقين بالإنجليزية اليوم.

كما اختار الناقد الكبير (ريتشارد إليوت فريدمان) (Richard Elliott Friedman) في ترجمته للكتب الخمسة المنسوبة إلى (موسى) –عليه السلام- (2003م) الصيغة التالية: “In the beginning of God’s creating the skies and the earth – when the earth had been shapeless and formless”.[23]

ومما قد يفاجِئ (كريغ) وبقية النصارى المحافظين، أنّ (ويليام فوكسول ألبرايت) (William Foxwell Albright) -عالم الأركيولوجيا الكتابية واللغات السامية الشهير، والنصراني المحافظ- قد اختار ترجمة النص هكذا: ” When God began to create heaven and earth-and the earth was chaotic and empty”.[24] وإن كان قد أضاف أنه لا يعتقد أنّ مؤلّف نص تكوين 1 قد اقتبس قصة الخلق من حضارة بلاد الرافدين، وإنّما هي قصة تنتمي إلى نفس المجال العام لقصص تلك البيئة.[25]

ومن نوادر (كريغ) زعمه حدوث إجماع بين المفسّرين على العودة إلى الترجمة التقليدية ورفض الترجمة التزمينية التي ذكرناها،[26] رغم تعاظم الثورة على القراءة الكلاسيكية حتى إنّ كلًا من (روبرت كوت) (Robert Coote) و(دافيد أورد) (David Ord) قالا في كتابهما: “في البدء: الخلق والتاريخ الكهنوتي” إنّ الترجمة التقليدية خطأٌ، وإنّ “المؤرخين عامة على علم بهذا، ولكنّ الترجمات مستمرة في ترجمة النص العبري بهذه الصيغة لأنها تقليدية جدًا”.[27] كما أكّد ذلك (جاك سَسُون) (Jack Sasson) –أستاذ الدراسات اليهودية والتوراتية، والمتخصص في علم الآشوريات والأسفار العبرية- بقوله: “أنا شخصيًا أعتقد -رغم وجود علماء قديرين متخصصين في فقه اللغة (philologists) لا يزالون يدافعون عن الترجمة التقليدية- أنّ التفسير [المخالف] هو على الحقيقة غير قابل للنقاش: أولًا لأنه مدعوم بعلم النحو وعلم النظم، وثانيًا لأنّ روايات الخلق الأخرى هي أيضًا تبتدئ بمقاطع زمانية أو ظرفية، وثالثًا لأنّ أوّل الأوامر الإلهية لم يظهر إلا بداية من العدد الثالث”.[28]

ومن اللافت للنظر أنّ عامة الترجمات التي اختارت الصيغة التقليدية: “في البدء خلق الله…” تضع في الهامش القراءة الأخرى “عندما بدأ الله في خلق…”،[29] وهو ما يعني إقرارها بأنّها بديل آخر لا يخلو من شرعية.

وهذه الترجمة التزمينية تجد دعمًا من اثنين من أهم علماء اليهود في القرون الوسطى: (راشي) (רש”) المتوفى سنة 1105م، و(ابن عزرا) (אבן עזרא) المتوفى سنة 1167م. وقد اعتمد (راشي) في اختياره ترجمة عبارة “بريشيت”: “في بدء” على أنّ هذه الصيغة موجودة أيضًا في العهد القديم (إرمياء 26/1، الأمثال 8/22)، أمّا (ابن عزرا) فقد اعتمد في ما اختاره على غياب أداة التعريف.[30]

وقد حاول (كريغ) أن ينصر ترجمته المفضلة بالقول إنها توافق النص الماسوري (أي النص العبري بعد أن أضيفت إليه الصوائت بداية من القرن السابع الميلادي). وهي دعوى فاسدة من أوجه، منها:

  • يخبرنا (ويليام فوكسول ألبرايت) باعتراف الماسوريين بالقراءتين، فقد كتب قائلًا: “كما هو معلوم، فهناك تفسيران متخالفان للتركيبة النحوية لتكوين 1/1-2، وقد اعترف الماسوريون بشرعيّتهما، وأشاروا إليهما ضمنًا في نطق الكلمتين الأوليين…”،[31] وبالتالي فلا حجة في النص الماسوري لدعوى (كريغ).
  • فسّر (كريغ) كلمة (الماسوريين) بأنّهم النسّاخ الأوائل، وبعيدًا عن فساد اختزال عملهم في النسخ، يعتبر وصفهم “بالأوائل” تدليسًا؛ لأنه يوحي للسامع أنهم عاشوا في الزمن المبكر للنسخ، والحقيقة هي أنّ (الماسوريين) الذين حرّكوا النص قد عاشوا بين القرنين السابع والعاشر ميلاديًا، وهي مرحلة متأخرة جدًا في تاريخ اللاهوت اليهودي، حيث شاع القول بالخلق من عدم.
  • أهم العلماء اليهود الذين قاموا بتحريك النص لتحديد معاني ألفاظه هم طائفة اليهود (القرائين)، خاصة عائلة (ابن آشر) التي لقي عملها قبولًا بين جماهير اليهود، وهي جماعة يهودية متأثّرة بصورة بالغة بالعقيدة الإسلامية، خاصة فكر المعتزلة، وهو ما يشكّك في أصالة تشكيل النص بما يفيد الخلق من عدم.

كما زعم (كريغ) و(كوبان) أنّ الترجمة اليونانية السبعينية تنصر القراءة التقليدية. وهي دعوى ليس عليها برهان قاطع؛ إذ إنّ الترجمة اليونانية تقول: “ἐν ἀρχῇ” [إن أَرْشِي]، وهي لا تضم أداة التعريف [تي] قبل [أرشي]. ورغم صواب القول إنّ [أرشي] لا تُسبق عادة بأداة تعريف، إلا أنّ الناقد (روبرت هلمستت) (Robert Holmstedt) يعترض على الاستدلال بالسبعينية للترجمة التقليدية لأنّ ذاك ليس قاعدة مطّردة، فقد استعملت [أرشي] مسبوقة بأداة التعريف في مواضع أخرى لـ(بداية)، مثل تكوين 41/21 حيث وردت [أرشي] معرّفة “τὴν ἀρχήν” في ترجمة “בַּתְּחִלָּה”.[32] “وهذا يدلّ على أنّ الترجمة السبعينية تقدّم شهادة غامضة في أفضل حال، ومن المؤكّد أنّها لا تنصر القراءة العبرية [بريشيت] المعرّفة”.[33]

واستدلّ (كريغ) بقول آباء الكنيسة بالخلق من عدم. وهي حجة واهية إذ إنّ (كريغ) نفسه يعترف أنّ آباء آخرين لهم وزن لاهوتي عظيم قد قالوا بأزلية الكون، خاصة من الأوائل، كـ(جستين الشهيد) و(كلمنت السكندري) و(باسيليوس القيصري) و(غريغوريوس النيصصي).[34]

واستدلّ (كريغ) و(كوبان) ببعض نصوص العهد الجديد لإثبات الخلق من عدم، وذاك منهما مردود لأسباب:

  1. ناقض (كريغ) نفسه هنا؛ إذ أنكر على مخالفيه محاولة تفسير قصة الخلق الواردة في سفر التكوين بغيرها من النصوص التي كتبت بأقلام كتّاب آخرين وبأسلوب آخر ضمن الكتاب المقدس، في حين أنه ينصر هنا نص التكوين بنصوص أسفار أخرى.
  2. ليس من بين النصوص التي استدلّ بها (كريغ) ما هو محكم الدلالة على الخلق من عدم. ومن ذلك أنّ النصّ المفضّل لمن يزعمون الخلق من عدم هو عبرانيين 11/3: “حتّى لَمْ يَتَكَوَّنْ مَا يُرَى مِمَّا هُوَ ظَاهِرٌ.” والنص في الأصل اليوناني: ” εἰς τὸ μὴ ἐκ φαινομένων τὸ βλεπόμενον γεγονέναι” وصياغته في الترجمات الإنجليزية: ” so that what is seen was not made out of what was visible” (NIV). والنص بذلك يخبرنا أنّ الكون قد نشأ من مادة غير مرئية، لا أنّه نشأ عن غير مادة!
  3. سفر 2 أخنوخ (الأبوكريفي)، ألّف في حدود عقود من تأليف الرسالة إلى العبرانيين. وقد جاء فيه بيان أنّ الله قد خلق المبصَر من غير المبصر، وأنّه “قبل وجود أي شيء مبصر، كان الربّ يجول في الأشياء غير المبصرة، مثل الشمس، من الشرق إلى الغرب ومن الغرب إلى الشرق.” (2أخنوخ 24).[35] وعلّق (ف. إ. أندرسون) (F. I. Anderson) مترجم 2أخنوخ إلى الإنجليزية بأنّ هذا النص “صريح جدًا” ” quite explicit ” في شأن أزلية الشيء غير المرئي الذي كان مع الله منذ البدء.[36]
  4. الإجماع حاصل منذ القرن التاسع عشر على أنّ الرسالة إلى العبرانيين برمّتها لم يكتبها (بولس) رغم أنها تنسَب إليه،[37] وجمهور النقاد على أنّ مؤلّفها مجهول لا يُعرَف. فكيف يُحتجّ برسالة منسوبة كذبًا إلى قديس الكنيسة (بولس) لإثبات عقائد الكنيسة!
  5. جاء في 2بطرس 3/5: “السَّمَاوَاتِ كَانَتْ مُنْذُ الْقَدِيمِ، وَالأَرْضَ بِكَلِمَةِ اللهِ قَائِمَةً مِنَ الْمَاءِ وَبِالْمَاءِ”، فالكون ليس من عدم، ولا هو من شيء لامرئي، وإنّما هو طبق ما جاء في الرسالة الثانية لبطرس من ماء! علمًا أنّه لا يوجد أي إيحاء بخلق الماء في قصة الخلق التكوينية، فالماء موجود منذ بداية القصة.
  6. 6- استدعى النصارى نص يوحنا 1/3 : “في البدء كان الكلمة، والكلمة كان عند الله، وكان الكلمة الله. هذا كان في البدء عند الله. كل شيء به كان، وبغيره لم يكن شيء مما كان.” هذا النص ليس في الخلق من عدم، وإنما في تحديد شخص الخالق: (اللوغوس/الكلمة). ولا يمكن فهم الخلق من عدم منه حتى يُفهم الإيجاد هنا على أنه يعني الإنشاء من عدم لا التصوير، وهذا ما يُنازع النصارى فيه، فالتعبير عن (اللوغوس/الكلمة) التي تخلق في الثقافة اليونانية القائلة بأزلية المادة، معروف-أساسًا في كتابات (فيلو السكندري)- في ظلّ تصوّر لاهوتي يمنع الخالِق المتعالي، اللامتغيّر، من ملامسة الزمني، وهو ما أنتج مفهوم (اللوغوس/الكلمة) الوسيط بين الله والعالم المادي.

ثمّ إنّ ترجمة النصارى يوحنا 1/3 للدلالة على الخلق من عدم محلّ نظر، إن تنزّلنا في المحاورة. إذ ينبّهنا (جيمس هبلر) (James Hubler) إلى أنّه بسبب غياب علامات الترقيم في المخطوطات الأولى للأناجيل، فإنّ القائلين بالخلق من عدم بإمكانهم استعمال نص يوحنا 1/3 إذا أضافوا نقطة قبل “ممّا كان”. وللقائلين بالخلق من مادة سابقة أن ينتصروا لمذهبهم بدلالة هذا النص إذا اعتبروا الكلام متعلّقًا ببعضه البعض. وهو ما يعني أنّ النصّ غير حاسم في غياب علامات الوقف.[38]

وللباحث (جيمس هبلر) كلام نفيس في دلالة العهد الجديد على الخلق من عدم في أطروحته للدكتوراه : “الخلق من عدم: المادة، والخلق، والجسد في الفلسفة الكلاسيكية والمسيحية حتّى الأكويني” (1995م). فقد قال: “ظهرت عقيدة الخلق من عدم فجأة في النصف الثاني من القرن الثاني الميلادي… وكما رأينا، لم تُفرض هذه العقيدة على المجتمع المسيحي من تراثهم الوحيي، سواء النصوص الكتابية أم التفسيرات اليهودية المبكّرة لها. وكما سنرى أيضًا، لم تكن هي مذهب العهد الجديد ولا حتى مذهب كتابات ما بعد العصر الرسولي. لقد كانت هي الموقف الذي اختاره المدافعون عن النصرانية في آخر القرن الثاني، (تاتيان) و(ثيوفيلوس)، وتمّ تطويرها من طرف كتّاب الكنيسة بعد ذلك مثل (إيرانيوس) و(ترتليان) و(أريجانوس). تمثّل عقيدة الخلق من عدم بدعة في التراث التفسيري للوحي، ولا يمكن تفسيرها باعتبارها امتدادًا للتراث… . اعتُبرت كثير من نصوص العهد الجديد كحجج لعقيدة الخلق من عدم. لم يقدّم أيّ نص منها دعوى صريحة.”[39]

ولنا أن نضيف أنه حتى لو صحّ أن بعض النصوص الإنجيلية تفيد الخلق من عدم، فإنّ ذلك لا يغيّر من موقفنا من (كريغ) شيئًا؛ إذ إنّ دلالة تكوين 1 و2 بمنأى عن تلك العقيدة لاختلاف المؤلّفين. ومبلغ أمل (كريغ) عندها هو إثبات التناقض بين دفّتي الكتاب المقدّس. ويبقى سفر التكوين محتكرًا للرواية التفسيريّة للبداية التكوينيّة للوجود المادي الأوّل.

ولعلّ أضعف ما احتجّ به (كريغ) لمذهبه هو ما زعم أنّه الأقوى، وهو ما ذهب إليه أحد النقّاد من أنّ نص تكوين 1/1 ليس له نظير في التراث القديم؛ إذ إنّ أساطير الخلق القديمة كانت تبدأ بصيغة: “عندما … لم يوجد بعد، عندها قام الإله بـ…”. وهذا الناقد يرى الصيغة الأسطورية مستعملة بداية من تكوين 1/2 وفي 2/5-7. وهو دفاع واه، لأسباب، منها:

  1. أساطير الخلق القديمة تقرر أنّ الآلهة نفسها مخلوقة، وأنّ الكون بلا شكل من الأزل، فليست الآلهة هي الأولى، بل هي محدثة.
  2. ما فعله (كريغ) هو مصادرة على المطلوب؛ فهو يقول: إن أخذنا بالترجمة التقليدية، فليس عندها لهذه الصيغة نظير. ونحن نرى أنّ أصل النزاع هو في شرعية الترجمة التقليدية، فكيف –إذن- يتّخذها حجّة لنفسه!
  3. وجود الصيغة الأسطورية في المقطع اللاحق مباشرة (تكوين 1/2) حجّة لنا لا علينا؛ إذ هي تؤكّد سلطان القصص الأسطوري القديم على الصيغة التوراتية.
  4. حتى لو قبلنا الترجمة التقليدية، فإنّه بإمكاننا النظر إليها كعنوان لقصة الخلق، وتكون بذلك القصة باعتراف (كريغ) مبتدئة بالأسلوب الأسطوري القديم المألوف؛ إذ تكون الجملة الأولى من سفر التكوين كعنوان لقصة الخلق، وليست جزءًا من الرواية: “The is the in-the-beginning-God-created story”.[40]

ونحن حتى لو سلّمنا مع (باري بندسترا) في مَدخله للتوراة أنّ كلا الترجمتين جائز لغة،[41] فإننا لا بدّ أن نفضّل الترجمة التزمينية؛ إذ بالإضافة إلى أنها الأقرب إلى حرف النص، كونها لا تضم أداة التعريف (هـ)، فإنّها تجعل النص مفهومًا بصورة واضحة، على خلاف الترجمة الأخرى التي توقع القارئ في حيرة.

عناصر قصة الخلق التوراتية

المادة الأولى للخلق خلق السماء خلق الأرض
تكوين 1/1-2 تكوين1/6-9 تكوين 1/9
عندما بدأ الله في خلق السموات والأرض، وكانت الأرض خربة وخالية، وعلى وجه الغمر ظلمة، وروح الله يرف على وجه المياه. وقال الله ليكن جلد في وسط المياه وليكن فاصلا بين مياه ومياه. فعمل الله الجلد وفصل بين المياه التي تحت الجلد والمياه التي فوق الجلد… ودعا الله الجلد سماء … وقال الله لتجتمع المياه تحت السماء إلى مكان واحد. وقال الله لتجتمع المياه تحت السماء إلى مكان واحد ولتظهر اليابسة.

تفاصيل قصة الخلق طبق ترجمتيها

القراءة التقليدية القراءة التزمينية
تكوين 1/1: خلق الله السماوات والأرض بما فيهما. تكوين 1/1-2: عندما بدأ الله في الخلق كانت المادة الأولى للأشياء موجودة: الأرض والماء.
تكوين 1/6: ثم خلق السماء. تكوين 1/6: أنشأ الله في وسط المياه حاجزًا، وهو قبّة السماء.
تكوين 1/9: ثم خلق البحار. تكوين 1/9: جعل الله من الماء الأزلي بحارًا.
تكوين 1/9: ثم خلق الأرض. تكوين 1/9: ثم جعل الله من الأرض غير المشكّلة أرضنا الحالية.

إنّ الترتيب في القراءة التزمينية واضح، جليّ، سلس؛ فقد كانت المادة الأولى للكون: أرضًا ليس لها شكل وفارغة، وكانت المياه مجتمعة بلا شكل، ففصل الربّ المياه عن بعضها، جاعلًا جزءًا منها فوق السماء، والآخر مادة البحار، ثم قرّر أن يصوّر الأرض من مادة الأرض الخربة. وهو فهم يراعي اللغة والسياق وتتابع الأحداث دون تكلّف. وينتهي بذلك إلى موافقة الأسطورة البابلية في أصل الكون، بل وعامة الأساطير السائدة في تلك المدّة في مصر.

وإن شئت قطع قول كلّ لجوج، فقل: كيف كان كاتب التوراة سيكتب قصة الخلق لو كان موافقًا للثقافة البابلية القائلة بأزلية مادة الكون، وتدخل الرب التكويني لا الإبداعي من العدم المحض؟ وكيف كان سيعبّر عن أصل ماء الأرض وحقيقة ماء السماء، وطبيعة الأرض الأولى الأزلية قبل تشكيلها؟

أظنه كان يقول: لما بدأ الرب في تشكيل الكون الذي نعرفه اليوم، قام إلى المادة الأولى التي لم يكن لها شكل، ففصل الماء الأول إلى ماء تحت السماء، وماء يعلو الأرض، وقام إلى الأرض الخربة، فصنع منها أرضًا صالحة للعيش.

لا أظنّ أنّ (ويليام لين كريغ) سيخالفني في الصياغة السابقة للتعبير عن قصّة الخلق البابلية، ولكنني لا أدري لِمَ يعترض على مطابقة نص سفر التكوين لتلك الصياغة؟! أليستا بنفس اللفظ تقريبًا، وبنفس الدلالة يقينًا؟! وأليس هو نفسه يعترف مع (كوبان) أنّ مؤلّف سفر التكوين كان عالما بقصص الخلق المشتهرة في الشرق الأدنى القديم؟![42] فلِمَ يمنع إذن إمكانية التأثّر مع قيام القرائن النصية لذلك؟![43]

إنّ تصوّر مفهوم الكون الذي اقتبسته التوراة، أزليّ لا بداية له كما في الأصل السومري-البابلي، وقد أكّد المؤرخ (ديودور الصقلّي) (Διόδωρος Σικελιώτης) (القرن الأول قبل الميلاد) التصوّر العراقي القديم بقوله: “كان الكلدانيون يقولون إنّ مادة العالم أزليّة، وإنّه ليس لها بداية ولن تهلك في آخرٍ”.[44] ولا يبدو أنّ مؤلف الفصل الأول من سفر التكوين حاول بيان مخالفته لأصل المادة الأولى للخلق في العراق القديمة، وهو ما يبقي الأمر على أصله، وينفي دعوى دلالة سفر التكوين على الخلق من عدم.

وقد أحسن الفيلسوف اللاهوتي النصراني (توماس جاي أوورد) و(Thomas Jay Oord) إذ لخّص حقيقة الحال بقوله: “لا ينصر الكتاب المقدس الخلق من عدم، بل على العكس من ذلك، يذكر مؤلّفو الكتاب المقدس دائمًا أنّ الله خلق من شيء… قدّم مؤلفو الكتاب أوصافًا مختلفة “للشيء” الذي خلق الله منه. في سفر التكوين، تعامل الروح مع [توهو وبوهو] (الفراغ الذي لا شكل له)، أو ما يُترجم غالبًا إلى “الفوضى البدائية” أو “كتلة عديمة الشكل” (1/2). يحوّل الله بصورة خلاقة الفوضى واللاتشكّل إلى شيء جديد: السماوات والأرض (1/1). يخلق الله من شيء، حتى لو كان “الشيء” هو في البداية غامضًا أو غير منتظم أو فوضويًا.

يتحدّث سفر التكوين عن [تهوم]، “وجه الغمر” الذي رفرف عليه الله لما كان يخلق (1/2). “الغمر” هو شيء، وليس حرفيًا لاشيء. يؤمن العديد من علماء الكتاب المقدس أنّ [تهوم] تعني وجود ماء أوّليّ لما خلق الله السماوات والأرض. تَنْصُرُ أصرح رؤية في العهد الجديد (2 بطرس 3/5: “السَّمَاوَاتِ كَانَتْ مُنْذُ الْقَدِيمِ، وَالأَرْضَ بِكَلِمَةِ اللهِ قَائِمَةً مِنَ الْمَاءِ وَبِالْمَاءِ”) هذا الرأي. الماء طبعًا هو شيء وليس لاشيئًا.

ويرفض عدد كبير من علماء الكتاب المقدس فكرة أنّ سفر التكوين يتحدّث عن الإيجاد من عدم… خلاصة القول، نحن نبحث عبثًا في الأسفار المقدسة عن نصوص تؤيّد الخلق من عدم. لقد قال مؤلّفو الكتاب المقدس إنّ الله في البداية (وباستمرار) يخلق من شيء”.[45]

ومما يحسم القول بالاقتباس التوراتي أنّ شكل الكون في الشرق الأدنى القديم هو نفسه الشكل التوراتي:

شكل الكون في الشرق الأدنى القديم[46]

شكل الكون التوراتي

(عن طبعة الكتاب المقدس Saint Joseph Edition of the New American Bible)[47]

فالسماء قبة جامدة (تكوين 1/6-8)، والأرض سطح دائري (متّى 4/8، إشعياء 40/22)، وهي طافية فوق الماء (مزمور 24/2)، وتحملها أعمدة (1صموئيل 2/8)، كما تحمل جبال من طرفي الأرض قبّة السماء (يونان 2/6)، وفوق السماء ماء (تكوين 1/7)، وتحت الأرض “شئول” أي عالم الأموات المظلم الذي اعتقد عامة الساميين أنّ الأموات ينزلون إليه (مزمور 141/7).

  1. العلم في مواجهة التوراة والإنجيل

يكرر (كريغ) في كلّ محفل أنّ العلم يقف اليوم بقوة مع الإيمان بالخالق، المنشئ من عدم، مُستَدلًا بنظرية الانفجار العظيم، سائقًا شهادات الفيزيائيين والكوسمولوجيين الملاحدة واللاأدريين على دلالة المادة وقوانينها على صدق النص الأول من سفر التكوين (كما هو في الترجمة التقليدية)، غير أنّه هو هو نفسه ينكر على من يربط بين نظرية الانفجار العظيم وقصة الخلق في سفر التكوين تكلّفه الجمع بينهما. وهذا من اضطرابات (كريغ) التي يُدفع إليها قسرًا بسبب منكرات التوراة. وليس من العدل أن نعذره في إيمانه ببعض الكتاب وكفره ببعض، فقصة الخلق التوراتية قد صيغت بقلم تأريخي واقعي (لا رمزي) على مدى الفصلين الأول والثاني من سفر التكوين، فلِمَ يستشهد (كريغ) بالعلم لأجل إثبات الدلالة العلمية لمقدمة نص تأريخي، ويسعى في المقابل لتكميم نفس الشاهد عند استنطاقه في شأن بقيّة الكلام. ولا يجد القارئ مشقة ليكشف أنّ التعامل الانتقائي لـ(كريغ) مع العلم، ومحكمات نظرية الانفجار العظيم، سببه علم (كريغ) أنّ التوراة تعارض نظرية الانفجار العظيم في كلّ تفاصيلها بفجاجة ظاهرة لا يجدي معها تسوّل الـتأويل الغالي.

  1. قصة الخلق.. بين رواية التوراة ورواية العلم

كان ترتيب نشأة الكون طبق ما تدلّ عليه الأبحاث الكونية وما تظهره التوراة أعظم تحد علمي للكتب المقدسة للنصارى واليهود. وقد حاول التأويليون الخروج من التعارض الظاهر بكل طريق، غير أنّ فريقًا كبيرًا من النصارى المحافظين الذين يؤمنون بالقداسة الحرفية للتوراة قرّروا أن يقفوا في صف التوراة ضد العلم الحديث، مقرّين بأنّ هذا التعارض واضح جلي، لا يمكن رفعه إلا بتحريف دلالات النص المقدس.

وقد كتب كثير من الكتّاب النصارى واليهود المحافظين في بيان هذا التناقض، وبيّنوا أنه يمتد من خلق الكون إلى خلق الإنسان، وتشهد عليه أبحاث الكوسمولوجيين، والبلينتولوجيين الذين يبحثون في أحافير الكائنات الحيّة. وقد اختصر علينا أحد مشاهير الأصوليين النصارى مشقة البحث عن هذه التناقضات، واختار أن يقدّمها لنا في الجدول التالي:[48]

اليوم الرواية التوراتية العلم الحديث الترتيب العلمي
السماوات والأرض الضوء 1
الظلام الفضاء (expanse) 2
الماء والمحيطات النجوم 3
الضوء الماء[49] 4
2 الفضاء الشمس 5
اليابسة الأرض والمنظومة الشمسية 6
الحياة الأولى: النبات والأشجار اليابسة 7
4 الشمس والقمر والنجوم المحيطات 8
5 السمك الحياة الأولى: الكائنات ذات الخلية الواحدة.[50] 9
5 الحيتان الموت 10
5 السمكسحليات والزواحف البحرية السمك 11
5 البلصورات والبليصورات الأشجار 12
5 الطيور والخفافيش والتيروصورات الزواحف 13
الزواحف السمكسحليات والزواحف البحرية والبلصورات والبليصورات والتيروصورات 14
الثدييات الأرضية الثدييات الأرضية 15
إنسان من التراب الطيور 16
امرأة من ضلع رجل الخفافيش والحيتان 17

وعرض التناقض -في شأن خلق الأرض والأجرام السماوية المرئية وما جاء بعد ذلك-كاتب نصراني آخر في الجدول التالي:[51]

ترتيب العلم الحديث ترتيب الكتاب المقدس
  1. الشمس والنجوم ثم الأرض
الأرض قبل الشمس والنجوم
  1. الشمس هي الضوء الأوّل الذي ظهر للأرض
ظهر الضوء قبل ظهور الشمس
  1. الحياة الأولى: الكائنات البحرية
الحياة الأولى: النباتات
  1. سبقت الزواحف الطيور
سبقت الطيور الزواحف
  1. الثدييات الأرضية سبقت الحيتان[52]
الحيتان سبقت الثدييات الأرضية

إنّ العلم في خصومة مع التوراة في تفسير نشأة الكون، ونشأة الأرض، ونشأة الحياة، ونشأة الإنسان؛ فالخبر التوراتي يخالف ما جاء في ترتيب الكواكب في العلم الحديث، بدءًا من أوّل حدث إلى ظهور الأرض، كما أنّه يخالف قصّة نشأة الأرض علميًا، بدءًا من تميّز الأرض عن غيرها من الكواكب إلى ظهور الحياة الإنسانية، وقبل ذلك الحياة الحيوانية والحياة النباتية.

وقد نبّه (بول ديفيس) إلى أنّ نظريّة الكون المتوسّع قد دفعت الكوسمولوجيين إلى اقتراح نظرية خلق “تختلف بصورة كبيرة في التفاصيل عن رواية الكتاب المقدس”.[53]

كما أقرّ الأصولي النصراني (هنري موريس) (Henry Morris) أنه سواء أقلنا إنّ الأيام الستة للخلق يساوي كلّ يوم منها 24 ساعة أم مدة طويلة من الزمن، فإنّ “ترتيب أحداث الخلق المروية في الفصل الأول من سفر تكوين تخالف بصورة كبيرة الترتيب المقبول للمستحاثات (fossils) في الصخور التي تمثّل الأزمنة الجيولوجية”.[54] ووافقه ابنُه الجيولوجي (جون مريس) (John D. Morris) –الذي خلفه في رئاسة أهم مؤسسة نصرانية في الردّ على دعوى تصادم العلم مع النصرانية “Institute for Creation Research “- حقيقة هذا التضارب، بعبارة أوسع، في قوله: “توجد تعاليم وعقائد كتابيّة تبدو في تعارض مع جلّ التفكير العلمي”.[55]

فالنظر التلسكوبي في الكون، والنظر الحفري في طبقات الأرض، يقودان بصورة حاسمة إلى تأكيد مخالفة الكتاب المقدس لنظرية الانفجار العظيم، ولما اهتدى إليه الباحثون في تاريخ الحياة على الأرض.

وخلاصة الكلام: إِنَّ الفصلَ الأَوَّلَ مِنْ سِفْرِ التَّكوين لا يجتمع في شيء مع نظريَّةِ الانفجارِ العظيمِ، لا في أَصْلِ عناصرِ الكونِ، ولا في ترتيب ظهورها:

  • أصل ظهور الأرض وزمنه غلط.
  • أصل ظهور البحار وزمنه غلط.
  • زمن ظهور الحيوانات والنباتات، وترتيبهما غلط.
  • لا يصحّ غير تأخير ظهور الإنسان في آخر مراحل خلق الكون، بعد السماء والأرض والحيوانات والنباتات. وحتى هذا الصّواب الوحيد لا نلبث أنْ نتفاجأ في الفصل الثاني من سفر التكوين بتخطئته؛ فهو يجعل خلق (آدم) -عليه السلام- قبل خلق الحيوانات (تكوين 2/7-9، 19)!

وهكذا انتهى بنا الأمر إلى تخطئة الكتاب المقدس في كلّ جزئيّة؛ فكيف يجرؤ مع ذلك (كريغ) على استعمال نظرية الانفجار العظيم في براهينه على صحّة الإيمان النصراني؟! وكيف يجرؤ (هيو روس) على القول إنّه قد تنصّر بعد أن اكتشف أنّ الكتاب المقدس هو الكتاب الوحيد -بين الكتب الدينية- الذي يوافق العلم بصورة دقيقة وإعجازية!

ويفجعنا (كريغ) بإسرافه في زيادة المهلكة العلمية للكتاب المقدس حدّة بزعمه أنّه من الممكن الجمع بين نظرية الانفجار العظيم والخلق في ستة أيام من أيامنا، وذلك بافتراض فترة صمت بين تكوين 1/1 وتكوين 1/2![56] وهو زعم يصادم نظرية الانفجار العظيم بصورة واضحة، إذ إنّ تكوّن الأرض وأجرام السماء في يوم وليلة سخافة لا يرى إمكانها أحد من علماء الكوسمولوجيا، بالإضافة إلى أنّه لا ينجّي التوراة من الخطأ مدُّ الأيام أو قصرها؛ إذ إنّ ترتيب المخلوقات زمنيًا مخالف للعلم ابتداءً!

إنّنا أمام محنة الأمانة في زمن غاب فيه المسلمون عن أداء واجب البلاغ، فترك الأمر إلى غير أهله!

  1. الكون البليوني أم الكون الألفيّ؟

كانت الكنيسة منذ بدايتها مولعة بالبحث عن أصل الكون، وتاريخ الآباء، وزمن ما قبل المسيح. وقد استقر القول عند آباء الكنيسة أنّ عمر الكون لا يتجاوز بضعة آلاف سنة. كما كان اليهود يعتقدون أنّ المسيح [الذي لم يأت بعد]، سيظهر في نهاية الألفية السادسة منذ خلق الكون، كما في التلمود. [57]وسارت الأمور على هذا القول قرونًا قبل أن تدهم الاكتشافات العلمية الكنيسة بأخبارها، خاصة الدراسات الجيولوجية التي أثبتت أَنَّ طبقاتِ الأرض مَرَّتْ بأحقاب كثيرة وطويلة قبل أن تصل إلى يومنا هذا.

لم يصل النصارى واليهود إلى أَنَّ عُمُرَ الكَوْنِ لا يتجاوز بضعة آلاف، بمحض الظن والذوق، وإنّما قادتهم إلى ما قالوا نصوص التوراة المتعلقة بالأنساب وبالأحداث التاريخية، على اختلاف ليس بكبير مردّه بعض المواضع الاحتمالية الاجتهادية في تقدير مدى المراحل التاريخية، بالإضافة إلى الاختلافات بين النص العبري والترجمة السبعينية اليونانية.

وبالإمكان بيسر معرفة العمر التقريبي للكون، بالنظر في جداول الأنساب والترتيب الزمني للأحداث التاريخية، ثم زيادة خمسة أيام على ذلك؛ إذ إنّ (آدم( -عليه السلام- قد خلق في اليوم السادس. والتفصيل يظهر في الجدول التالي:[58]

المرجع حصيلة المدة المدة الابن الأب
تكوين 5 130 130 شيت آدم
تكوين 5 235 105 أنوش شيت
تكوين 5 325 90 قينان أنوش
تكوين 5 395 70 مهللئيل قينان
تكوين 5 460 65 يارد مهللئيل
تكوين 5 622 162 أخنوخ يارد
تكوين 5 687 65 متوشالح أخنوخ
تكوين 5 874 187 لامك متوشالح
تكوين 5 1056 182 نوح لامك
تكوين 7/11 1656 600 الطوفان نوح
تكوين 11 1658 2 أرفكشاد الطوفان
تكوين 11 1693 35 شالح أرفكشاد
تكوين 11 1723 30 عابر شالح
تكوين 11 1757 34 فالج عابر
تكوين 11 1787 30 رعو فالج
تكوين 11 1819 32 سروج رعو
تكوين 11 1849 30 ناحور سروج
تكوين 11 1878 29 تارح ناحور
تكوين 11 2008 130 إبراهيم تارح
تكوين 21/5 2108 100 إسحاق إبراهيم
تكوين 25/26 2168 60 يعقوب إسحاق
تكوين 47/9 2298 130 مصر يعقوب
الخروج 12/40 2728 430 الخروج يعقوب في مصر
1 الملوك 6/1 3208 480 بداية الهيكل الخروج

إنّ مدّ عمر الكون فوق بضعة آلاف من السنين يقتضي تكذيب التوراة بالقول بكذب سلسلة الأنساب وتوثيق الأحداث، وهو ما لا يجرؤ عليه النصراني أو اليهودي الأرثودكسي.

  1. عندما فجع النصارى واليهود

مكّنت مخالفة التوراة والإنجيل لقطعيات العلوم الكونية لثنائية القطيعة بين الدين والعلم في الوجدان الثقافي في الغرب، ولذلك تعتبر قضيّة الجمع بين الدين والعلم من المعضلات المعرفية الكلاسيكية التي حُبّرت فيها المطوّلات، وهي تحد هائل قال فيه الناقد التوراتي المحافظ (غوردون ونهام) (Gordon Wenham): “المشكلة الأعظم التي تواجه القارئ المعاصر لسفر التكوين هي أن يعلم كيف يوفّق بين تكوين 1-11 والمعرفة العلمية والتاريخية الحالية”.[59]

وقد أدّت الضربات العلمية المتكررة للرواية الكتابية للخلق إلى تفتيت التجمّع النصراني إلى مذاهب شتى متنافرة، من أقصى الكفر بالنصرانية، بل بالدين جملة، إلى أقصى الكفر بالثوابت العلمية التي تدرّس كحقائق في الجامعات، وبين هذا وذاك رؤى تكشف حجم المعضلة.

الكفر بالنصرانية: كان الخروج من عصر الظلمات في القرون الوسطى إلى عصر البحث والنظر وكسر سلطان هيبة صكوك الحرمان الكنسي واللعن الأحباري بداية لانكشاف مصادمة الأسفار المقدسةِ حقائقَ الكون المفهوم في معادلات الرياضيات وقواعد الفيزياء وكشوف الحفريات ومراصد الفلك، وهو ما حفّز ظهور طائفة “المفكرين الأحرار” “Free thinkers” الذين يرون الحرية الحقة في التحرر من جهالات التوراة وأساطير الإنجيل. وقد اتّخذوا قصة الخلق مادتهم الأولى للتهكم على طفولة العقل البشري الذي تريد الكنيسة ومعها الأحبار إبقاءهم في قفصه. ومن أهم المؤلفات التي صدرت عن هذا الفريق، كتاب “A History of the Warfare of Science with Theology in Christendom“(1896م) لمؤسس جامعة (كورنل) (أندرو وايت) (Andrew White) الذي فضح مخالفة الكتب المقدسة للكنيسة لعلوم الفلك والجغرافيا والجيولوجيا…

الإقرار بوجود أخطاء ونفي عصمة الكتاب: ذهب بعض الكتّاب المتديّنين إلى حل توفيقي بين ربانية التوراة والإنجيل، ووجود أخطاء علمية فاحشة أصيلة في النص، فقالوا إنّ النص المقدس معصوم فقط في ما يتعلّق بالرسالة الدينية، أمّا في غير ذلك، فالمؤلّف ابن بيئته، ينقل خرافاتها ويكرر ضلالاتها. وهذا مذهب منتشر بين النصارى الليبراليين الذين يدركون تهافت كلّ محاولة توفيق بين النص المقدس والعلم، وهم الذين يرفضون عقيدة الأصوليين المسماة “عصمة الكتاب المقدس” “Biblical inerrancy”. بإمكاننا أن نرى مسلك هذا الفريق –مثلًا- في تعليق “الرهبانية اليسوعية الكاثوليكية” على الكتاب المقدس؛ إذ قالت تعليقًا على نص تكوين 1/1: “الكائنات تأتي إلى الوجود بنداء من الله بحسب ترتيب يرتفع مقامًا حتى يصل إلى الإنسان… والنص يستند إلى علم لا يزال في عهد الطفولة. فلا حاجة إلى التفنّن في إقامة التوافق بين هذه الصور وعلومنا العصرية“.[60]

زعم رمزية التوراة: المذهب الرمزي في تفسير الكتب المقدسة، منحى أثير في تاريخ الكنيسة، أسّسه )أريجانوس( منذ القرن الثالث، لكنه لم يجد هنا متابعة من بقية الآباء لأن الفصل الأول من سفر التكوين نص تاريخي عصيّ على الانتزاع من التجذير التاريخي، لكن لما حسم العلم أمره، وفُكَّت مغاليق التاريخ بالنظر والحساب، اضطر فريق من المفكّرين النصارى الذين عزّ عليهم ترك الإيمان بالله لدلالة العقل والعلم عليه، ولم يكن أمامهم خيار ديني غير النصرانية، إلى الهروب إلى الترميز مرّة أخرى، وأنّ الأيام الست لا تؤخذ على ظاهرها وإنما هي قوالب للتعبير عن ظهور الكون للوجود. من أهم من نصر هذا المذهب أتباع ما يُعرف بـ”Framework Hypothesis”، وهو مذهب ظهر سنة 1924م على يد (Arie Noordzij)، ثم اشتهر على يد أسماء بارزة كـ(Herman Ridderbos) و(Meredith Kline) و(Bruce K. Waltke).

ومن العجيب أنّ بابا الفاتيكان (يوحنا بولس الثاني)، قد تبرّأ من تاريخية قصة الخلق التوراتية، زاعمًا أنّها ذات دلالة روحية محضة، وذلك في رسالته إلى “الأكاديمية البابوية للعلوم” (3 أكتوبر 1981م)؛ إذ كتب: “أثار كل من علم نشأة الكون وعلم تطوّره دائمًا اهتمامًا كبيرًا بين الشعوب والأديان. يحدّثنا الكتاب المقدس نفسهُ عن أصل الكون وتكوينه، لا من أجل تزويدنا بأطروحة علمية، ولكن من أجل تقرير العلاقات الصحيحة للإنسان بالله وبالكون. وتَودّ الأسفار المقدسة ببساطة أن تعلن أن العالم قد خلق من قبل الله. ومن أجل تعليم هذه الحقيقة، تعبّر الأسفار المقدسة عن نظرتها بعبارات الكوسمولوجيا المتداولة زمن حياة المؤلّف.

يرغب الكتاب المقدس أيضًا أن يخبر الناس أنّ الكون لم يخلق كمقرّ للآلهة، كما هو تعليم نظريات نشأة الكون وتطوره الأخرى، وإنّما تم إنشاؤه لخدمة الإنسان ومجد الله. كلّ تعليم آخر عن أصل الكون وتشكيله هو غريب عن نوايا الكتاب المقدس الذي لا يرغب في تعليم الناس كيف خلقت السماء ولكن كيف يذهب المرء إلى السماء (الجنّة).” [61]

الأخذ بالحرفية: الفريق الوحيد المخلص لنص التوراة والإنجيل، والذي يذعن لدلالات النصوص دون تكلف هو الذي ينتصر لمذهب “Young Earth creationism”. وهو يقرر أنّ معاني النصوص المقدسة ظاهرة لا تحتاج إلى مزيد بيان من خارجها، وهي صريحة في أنّ الكون قد وجد منذ بضعة آلاف من السنين.

والفارس الأكبر لهذا التيار، هو الداعية الأصولي (هنري موريس) (Henry Morris) الذي أسس القواعد العصرية للمذهب الحرفي لقصة الخلق التوراتية، واليوم يخلفه الداعية الأصولي -الأسترالي المولد- (كن هام) (Ken Ham) الذي أثبت في جميع مناظراته مع الدفاعيين النصارى الموافقين لمقولات العلم المعاصر مخالفة التوفيقيين لنصوص التوراة والإنجيل، وتعسّفهم في استنطاق الكلمات المقدسة.[62] ولهذا الفريق ردود كثيرة على (هيو روس) ومن يقولون بقوله، أهمها كتاب “Refuting Compromise: A Biblical and Scientific Refutation of Progressive Creationism ” (لجوناثان سرفاتي) (Jonathan Sarfati) الذي يعتبر الرمز العلمي الأول لهذا التيار اليوم، وثانيهما صدر منذ أشهر للكاتب نفسه بعنوان “ The Genesis Account: A theological, historical, and scientific commentary on Genesis 1-11 “، وهو تعليق علمي ولاهوتي على الفصول الإحدى عشرة الأولى من سفر التكوين في ثمانمائة صفحة مع اهتمام بالغ ببيان دلالات النصوص في أصلها العبري، وكشف مغالطات النصارى المتصالحين مع المتفق عليه من المقررات العلمية. ومن أهم أدلّة هذا الفريق على فساد نظرية “الانفجار العظيم” التي يناصبونها العداء الشديد، ومقولة القدم النسبي للكون، أنّ أيّ قارئ للتوراة والإنجيل دون تأثير سلطوي خارجي من العلوم المعاصرة لا بدّ أن ينتهي إلى الكفر بدعاوى الكوسمولوجيين المعاصرين واعتناق ما تبنّاه آباء الكنيسة من أنّ الكون يقدّر سنّه ببضعة آلاف من السنين.

يبلغ عدد أنصار نظرية الخلق الحديث، أو الألفي، عشرات الملايين في الولايات المتحدة الأمريكية، ففي سبر تمّ سنة 2009م، قال أكثر من ثلث الأمريكيين (39%) إنّهم يعتقدون أنّ “الله خلق الكون، والأرض، والشمس، والقمر، والنجوم، والنبات، والحيوان، والبشرَين الأوّلَين في العشرة آلاف سنة الأخيرة”.[63]

وقد فاجأ (ر. س. سبرول) (R. C. Sproul) -الفيلسوف اللاهوتي الشهير، والذي يصنّف ضمن الطبقة الأولى من دعاة النصرانية من الأكاديميين في العالم- قُرّاءه بتقريره في آخر كتبه تراجعه عن مذهبه التأويلي القديم، واعتناقه للتفسير الحرفي لأيام الخلق الستة باعتبار اليوم منها 24 ساعة.[64] وقد ردّ في كتابه على النظريات التفسيرية غير التقليدية، مصرّحا بمذهبه قائلًا: “كنت أؤمن طوال رحلتي التعلمية بـ”Framework Hypothesis” على أنّها تفسير مقبول لكنّني اليوم غيّرت رأيي. أنا الآن أتبنّى تفسير الستة أيام الحرفية للخلق، وهو البديل الرابع والتقليدي. يقول سفر التكوين إنّ الله خلق الكون وكلّ شيء في مراحل من 24 ساعة. وطبقًا لمنهج تفسير النصوص المقدسة لعصر الإصلاح الديني (Reformation hermeneutics)، الخيار الأوّل هو اتّباع المعنى الظاهر للنصّ. إنّ على المرء أن يسرف في التعسّف التفسيري إذا أراد الهروب من المعنى الظاهر للفصلين الأوّلين من سفر التكوين”. [65]

والمعنى الظاهر الحرفي هو مذهب عامة آباء الكنيسة، قبل “مجمع نيقية” وبعده. وبحساب أيام الخلق الست مع عمر البشرية من (آدم) –عليه السلام- إلى المسيح، لا تتجاوز المدّة بضعة آلاف من السنين. وممن قال بذلك من الآباء:[66]

الكاتب تاريخ حياته تاريخ خلق آدم المرجع
كلمنت السكندري 150-215م 5592 Miscellanies 1.21
يوليوس أفريكانوس 160-240 5500 Chronology, fragment 1
هبوليتوس الرومي 170-236 5500 Daniel 4
أريجانوس 185-253 <10000 Against Celsus 1.20
يوسابيوس القيصري 263-339 5228 Chronicles
أوغسطين 354-430 <5600 City 12.11

وهي أيضًا نظرة اليهود وأعلام النصرانية عبر القرون:[67]

التلموديون 5344 قبل الميلاد
الترجمة السبعينية للتوراة، الفاتيكان 5270 قبل الميلاد
قديس الكنيسة (بيدا) (توفي 735م) 5199م قبل الميلاد
المؤرخ اليهودي (يوسيفوس) 4698م قبل الميلاد
الحساب السامري 4427م قبل الميلاد
الترجمة السامرية للتوراة 4305م قبل الميلاد
النص العبري (الماسوري) للتوراة 4161م قبل الميلاد
(بلايفير) و(والكر) 4008 قبل الميلاد
(آشر) و(سبنهايم) و(كالمت) و(بلير)… 4004 قبل الميلاد
(كبلر) عالم الفلك (توفي 1630م). 3993 قبل الميلاد
(بتافيوس) (توفي 1652م) 3984 قبل الميلاد
(ملانكتون) المصلح (القرن السادس عشر) 3964 قبل الميلاد
(لوثر) المصلح (القرن السادس عشر) 3961 قبل الميلاد
(لايتفوت) 3960 قبل الميلاد
(كورنليوس لبد) 3951 قبل الميلاد
(إزاكسن) 3950 قبل الميلاد
(ستروكيوس) 3949 قبل الميلاد
الحبر اليهودي (لبمان) (توفي 1654م) 3616 قبل الميلاد

وتعتبر دعوى (سرفاتي) أنّ الكون ظهر إلى الوجود بين سنتي 4228-4128 ق. م. آخر المحاولات المطروحة اليوم![68]

الأيام-أزمنة طويلة: يذهب فريق من أنصار قصة الخلق التوراتية إلى تبني تفسير الأزمنة الطويلة (
http://d.adroll.com/cm/r/out
Day-Age Interpretation
http://d.adroll.com/cm/f/out
http://d.adroll.com/cm/b/out
http://d.adroll.com/cm/w/out)، أي إنّ “يوم” قصة الخلق التوراتية لا يطابق 24 ساعة، بل هو أطول من ذلك بكثير، غير أنّ هذا الفريق يجد إشكالًا في تفسير عبارتي “صباح” و”مساء” في حديث التوراة عن هذه الأيام، كما أنّ سلسلة الأنساب في التوراة والإنجيل تجزم أنّ (آدم) –عليه السلام- قد عاش منذ بضعة آلاف من السنين.

ويعتبر اللاهوتي الإنجليكاني (جورج ستانلي فابر) (George Stanley Faber) (توفي 1854م) أوّل لاهوتي دافع عن تفسير الأيام الطويلة. ويمثّل (هيو روس) اليوم أهم شخصية علمية من النصارى تعتنق هذا المذهب وتسعى إلى التوفيق بين حقائق العلم المعاصر ومكتشفاته من جهة، والكتاب المقدس من جهة أخرى، وإن بمنطق مطاط لزج، وله في ذلك مؤلفات، من أهمها “The Genesis Question” و” A Matter of Days“.

وأمّا في الطرف اليهودي، فإنّ الليبراليين -الكافرين بقداسة النصوص- يهيمنون هيمنة تامة على الدراسات التوراتية غير المحصورة في المدارس المحافظة، وقد برز رغم ذلك نجم الفيزيائي (Gerald Schroeder)، خاصة في كتابه “Genesis and the Big Bang Theory: The Discovery Of Harmony Between Modern Science And The Bible “حيث تعسّف كلّ التعسّف للتوفيق بين كوسمولوجيا الانفجار العظيم وألفاظ الفصلين الأولين من سفر التكوين.[69] ويسير على خطاه اليوم الباحث الشاب صاحب الدراسة اليهودية الشرعية التقليدية، (نتن سليفكين) (נתן סליפקין) صاحب كتاب “ The Challenge of Creation: Judaism’s Encounter with Science, Cosmology and Evolution ” (2006)[70] الذي أثار عليه كثيرًا من الأرثودكسيين الذين عابوا عليه تكلّفاته ومخالفته للتراث الموروث!

يقف التلفيقيون أمام لغة التوراة بلا حجّة موضوعية، حتّى قال (جيمس بار) (James Barr) –أحد علماء اللغة العبرية البارزين، وأستاذ تفسير الأسفار المقدسة في جامعة أكسفورد-: “لا أعرف في حدود علمي أستاذًا للعبرية أو العهد القديم في أي جامعة محترمة في العالم لا يؤمن أنّ كاتب سفر التكوين 1-11 أراد أن يبلّغ قرّاءه أنّ الخلق قد تمّ في مجموع ستة أيام كأيامنا من أربع وعشرين ساعة.”[71]

وقد درس (غرهارد ف. هاسل) (Gerhard F. Hasel) -أستاذ العهد القديم واللاهوت الكتابي- كلمة “يوم” في سفر التكوين 1 في مقاله ” “أيام” الخلق في تكوين 1: “أيام” حرفية أم “مدد/عصور” زمنية رمزية” ” من أكثر من زاوية لغوية وسياقية، مع عرض المذاهب المتخالفة، وانتهى إلى القول: “لم يكن بإمكان مؤلّف سفر التكوين أن يقدّم طرقًا أكثر شمولًا وإحاطة بالمسالك التي تعبّر عن فكرة “اليوم” الحرفي من تلك التي تمّ اختيارها. هناك غياب تام لمؤشرات من حروف الجر، والتعبيرات التحديدية، وبناء الجمل، والروابط الدلالية-النحوية، وغير ذلك مما يمكن على أساسه أن تُحمل عبارة “يوم” في أسبوع الخلق على أي شيء آخر غير اليوم المعتاد الذي يتكون من أربع وعشرين ساعة.” مضيفًا أنّ الصياغة النحوية والصرفية واللفظية مع التقريرات الإلهية في سفر الخروج 20/8-11 و31/12-17، كلّها تؤكّد الفهم الحرفي المعتاد لكلمة يوم.[72]

والذي أراه هو أنّ كلمة “يوم” في العبرية من الممكن أن تعني مدة 24 ساعة أو أقلّ من ذلك أو أطول، وهو ما عليه جميع الذين انغمسوا في هذا الحوار من نصارى ويهود وملاحدة، غير أنّ أهم ما يحسم القول لليوم الاعتيادي (24 ساعة)، هو وجود “الصبح” و”المساء”، ولذلك اعتبر معجم العبرية التوراتية الأشهر (The Brown-Driver-Briggs lexicon) “يوم” قصّة الخلق يومًا “عاديًا؛ إذ عُرّف بالمساء والصباح”.[73] علمًا أنّ كلمة “يوم” قد استعملت خارج الفصل الأول من سفر التكوين مع “مساء” أو “صباح” 23 مرّة، و”مساء” مع “صباح” من غير “يوم” 38 مرّة، بمجموع 61 مرّة، وكانت الدلالة دائمًا اليوم الاعتيادي.[74]

نظرية الفجوة: تقرّر (نظرية الفجوة) (Gap Theory) وجود فجوة تاريخية بين تكوين 1/1 وتكوين 1/2، وهي فجوة تبلغ بلايين السنين؛ فقد خلق الله الكون على صورة غير مهذّبة، ثم عاد بعد ذلك فبنى الكون على الصورة المهذّبة. لم تُعرف هذه النظرية قبل كتابات الداعية الإنجيلي (توماس شلمرز) (Thomas Chalmers) (توفي 1847م). وقد لقيت الدعم الأكبر لما أحال إليها اللاهوتي الأمريكي (س. إ. سكوفيلد) (C.I. Scofield) (توفي 1921م) في هامش ترجمة الكتاب المقدس الدراسية (The Scofield Reference Bible) سنة 1909م، وهو الكتاب الذي أثّر على التصوّرات اللاهوتية لكثير من دارسي اللاهوت في أمريكا.

آفة (نظرية الفجوة) الكبرى هي أنها لا تجد أي دعم من النص المقدس، ولذلك لم يقع في خلد المفسرين الأوائل شيء منها.

ولا تزال المكتبات في الغرب تضخ المزيد من النظريات الجديدة الحائرة في فهم مقدمة سفر التكوين عن أصل الخلق، ومن آخرها كتاب صدر منذ ثلاث سنوات عنوانه: “في البدء… أسأنا الفهم: تفسير تكوين 1 في سياقه الأصلي“، وهو يقرّر أنّ التوراة تتبنّى بوضوح الأساطير القديمة لخلق الكون في مصر القديمة حيث عاش (موسى) -عليه السلام-، ولا سبيل إلى إنكار هذا الأمر. والحل لهذا الإشكال هو في القول إنّ الله كان يخاطب بني إسرائيل بما يوافق ثقافة العصر، أي توظيف الأسطورة لرسالة لاهوتية![75] ومن المثير هنا أنّ مؤلّفَي الكتاب، بروفسوران نصرانيان من خريجي “Dallas Theological Seminary” المحافظة، وكلاهما كان قسيسًا من أنصار الكون الألفي، وقد عاشا أزمة مخالفة العلم للنص المقدس، وتخصّصا في الدراسات الكتابية، وهما يؤمنان أنّ الكتاب المقدس كلمة الله. والكتاب -كما يقول مؤلفاه- قد كُتب لأجل منع الشباب من هجر النصرانية عندما يطّلعون على الثقافة المعاصرة وصراع الإيمان والعلم.[76]

ما موقف (ويليام لين كريغ) من هذه النظريات المتطاحنة؟

(كريغ) مدرك لتعدد تفسيرات قصة الخلق في سفر التكوين، وقد ساقها لمستمعيه وقرّائه، وردّها كلّها، وأكّد أنّه لا يتبنّى إلى الآن أيّ تفسير مخصوص، لعدم وجود تفسير يرضاه،[77] لكنّه أردف أنّ في اختلاف هذه التفسيرات ثراءً تفسيريًا يسمح للنصراني بأن يختار منها ما شاء!![78]

وبدل أن يقرّ (كريغ) بأزمة النص أمام حقائق العلم، معلنًا أنّ تضارب التفاسير كاشف لحقيقة أنّ قصة الخلق التوراتية تأبى التطويع القسري، وأنّها قصّة مشبعة بالنفس الخرافي لأمم قديمة ذات تصوّر كوسمولوجي وكوسموجوني بدائي مخالف للعلم، ذهب إلى أنّ في كثرة التفاسير المتهافتة سبيلًا للخروج من محنة مخالفة العلم!

خلاصة النظر: لا يحقّ لـ(كريغ) ولا لغيره من النصارى واليهود الاستدلال على وجود الله أو محاولة الرد على اعتراض: “… فمن خلق الله؟” بحقيقة الخلق من عدم؛ إذ إنّ البرهان الفلسفي على خلق الكون معارَضٌ بدلالة سفر التكوين على أزلية المادة. والبرهان العلمي قائم أساسًا على نظرية الانفجار العظيم والعمر البليوني للكون، وهما معارَضان بدلالة النصوص المقدسة على العمر الألفي للكون ومخالفة القصة التوراتية لترتيب الخلق المقبول علميًا.

قصة الخلق في القرآن والسنة

لا شكّ أننا نوافق على قول (كريغ) و(كوبان) فساد منهج من يريدون إثبات دلالة الكتاب المقدس على “الانفجار العظيم”، فذاك ليس تفسيرًا للنص (exegesis)، وإنما هو إسقاط لأفكار الباحثين وآرائهم على النص المقدس (eisegesis).[79] فالنص بلغته وسياقاته هو الدال على المعنى، فهل يدلّ كلّ من القرآن والسنّة على خلق الكون من عدم؟ وهل في القرآن ما يعارض أو يؤيّد نظرية الانفجار العظيم؟

  1. الأول، خالق كلّ شيء

لا أعتقد أنّ من يقرأ القرآن قراءة مستسلمة لظواهر المعاني يجد مشقة في الكشف عن عقيدة الخلق من عدم في هذا الكتاب المقدس، ولذلك لم يجد المستشرقون والمنصّرون سبيلًا لإنكار قرآنية هذه العقيدة.

وقد استعمل القرآن ألفاظًا كثيرة تدلّ على الإيجاد على غير نظير سابق أو على الإيجاد من عدم، كـ(خلق) و(برأ) و(فطر) و(بدع):

{ذَلِكُمُ اللّهُ رَبُّكُمْ لا إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيل}.[80]

{هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الأَسْمَاء الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيم}.[81]

{قُلْ أَغَيْرَ اللّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلاَ يُطْعَمُ قُلْ إِنِّيَ أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكَين}.[82]

{بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُون}.[83]

ولئن كان النزاع حاصلًا حول دلالة آحاد هذه الألفاظ على الإيجاد من عدم، إلّا أنّ الدلالة النهائية لمجموعها يجب ألا تغادر هذا المعنى؛ إذ لا يُعرف في لغة العرب أقرب منها (إن لم يكن مطابقًا لها) إلى الإيجاد من عدم، فإذا أضفنا إلى ذلك:

  • الغياب التام لأيّ نص يدلّ على وجود شيء أزلي مع الله رغم كثرة الآيات الكونية في القرآن، ووفرة الآيات التي تحدّثت عن أصل الكون.
  • غياب أثر الحضارات القائلة بأزلية المادة في النص القرآني.
  • الغياب التام لفكرة أزلية المادة في عصر الصحابة، واتّفاقهم جميعًا على نسبة الخلق من عدم إلى الكتاب والسنّة.

لزم أن تكون مسألة الخلق الإلهي من عدم من ثوابت القرآن، وحقائق الدين التي كفّر أهل السنة الفلاسفة القدماء بقولهم بها لأنّها تخالف المعلوم من الدين بالضرورة.[84]

  1. عندما يفارق القرآن التوراة

من المتّفق عليه بين المستشرقين منذ القرن التاسع عشر أنّ القرآن نسخة معدّلة أو “مشوّهة” من التوراة، والتراث الشفهي اليهودي، والتراث الأبوكريفي النصراني.[85] ونحن رغم مخالفتنا للمستشرقين دعواهم إلّا أننا نجد العذر[86] لمن يقول بذلك منهم بعد أن صمّم على رفض المصدر الربّاني للقرآن. وسبب إعذارنا هؤلاء هو ثبوت أنّ “صاحب النصّ القرآني” له علم واسع ودقيق بأسفار أهل الكتاب، ظاهرًا وباطنًا، بل بإمكاننا أن نقول مع المستشرق (غبريال رينولدز) (Gabriel Reynolds)[87] وغيره من المستشرقين إن النص القرآني يشفّ عن معرفة ضمنية (subtext) تمثّل التراث الكتابي لليهود والنصارى. وقد ارتاع عدد من كبار المستشرقين لهذا الكشف، حتّى زعم أحد زعمائهم في القرن العشرين –( جون ونسبرو) (John Wansbrough)- أنّ القرآن لم يظهر في التقويم التقليدي للبعثة النبوية، وإنما هو نتاج آخر القرن الثاني الهجري أو بداية الثالث؛ إذ إنّه ليس ثمرة بيئة وثنية أميّة، وإنما هو حصيلة طائفة يهودية متنصرة عاشت في بيئة معرفية مثقلة بالجدل الديني.[88]

لا شكّ إذن أنّ من وضع كلمات القرآن ومعانيه عظيم المعرفة بالثقافة الكتابيّة، سواء أسّلمنا بربانية القرآن أم جحدنا ذلك؛ فهل وافق القرآن التوراة قولها في خبر نشأة الكون كما وافقها كثيرًا، وبتفصيل شديد في جلّ ما أتى بعد ذلك من قصص، من (آدم) –عليه السلام- إلى (عيسى) عليه السلام؟

وإذا لم يفعل ذلك، فهل فارق القرآن التراث اليهودي-النصراني ليوافق العلم أم ليخالفه؟ أي: ما هو الداعي القهري في القرآن لمخالفة أهل الكتاب خبرهم دون حاجة من تطوّر معرفي حادث في القرن السابع لم يكن كتبة الأسفار المقدسة على علم به؟

إنّ قراءة (قصّة التكوين) القرآنية بالتوازي مع القصّة التوراتية تكشف عن (نشوز) –إن تجوّزنا هذه العبارة- في الخط القرآني، وذلك بمخالفة غير مألوفة للرواية التوراتية، وهي مخالفة واضحة ومكثّفة، ولا تفسير لاهوتي لها (إذا استثنيا الخلق من عدم)، ولا نرى لها سببًا محتملًا غير حقائق العلم، غير أنّ علم نشأة الكون زمن البعثة النبوية لا يخالف في شيء معارف الكون زمن كتابة الأسفار المقدسة لليهود والنصارى؛ فالظن والخرافة هما الأصل في كليهما. وزد على ذلك أنّ الرواية التوراتية كانت ذات سلطان معرفي عظيم في البلاد المجاورة للجزيرة العربية، حتى إن الثقافة اليونانية التي هيمنت على كلّ المعارف الطبيعية النصرانية واليهودية (البيولوجيا، والتشريح، وعلم الأرصاد الجوية…) عجزت أن تغيّر كوسمولوجيا الكنيسة.

إنّ القرآن لا يتضمّن العناصر الأسطورية أو الساذجة المخالفة للعلم الواردة في التوراة والإنجيل،[89] فلا توجد إشارة البتّة إلى:

  • خلق الكون من ماء، وإنّما الماء شيء متميّز عن الخلق، وعليه عرش الرحمن.[90] وقد استفزّ وجود الماء الذي عليه عرش الرحمن في التوراة الأصليّة العقل اليهودي الديني ليتبنّى أسطورة الماء الأزلي الذي هو أصل الكون في التراث البابلي (والمصري) القديم، فجاء القرآن فردّ الأمر إلى أصله الأوّل، دون أن يكون للماء دور في شيء من الخلق.
  • ليس هناك حديث عن أصلٍ غير مشكّل للكون في البدء.
  • ليس هناك حديث عن قسمة الماء الأوّل إلى جزء سماوي وآخر أرضي.
  • الأيام الستة في القرآن ليس فيها ذكر الصباح أو المساء، ووجود الصباح والمساء عمدة من فهم هذه الأيام على أنها أيام من أيامنا في التوراة. علمًا أنّ كلمة “يوم” في العربية، هي كما في العبرية[91]، تحتمل معنى اليوم المعروف لدينا، وأدنى من ذلك –أي بعضه-، وأطول من ذلك، بما يعنى المدة الطويلة من الزمان. قال (الراغب الأصفهاني) (توفي 502 هـ) في كتابه “المفردات في غريب القرآن”: “اليوم يعبَّرُ به عن وقت طلوع الشمس إلى غروبها. وقد يعبّر به عن مدّة من الزمان أيّ مدة كانت.”[92] والقرآن دال على تعدّد مدد “اليوم”. قال تعالى: {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَن يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْمًا عِندَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّون}[93]، وقال تعالى: {فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَة}.[94] ولذلك كان المفسّرون في سعة في اختيار معنى “يوم” في أيّام الخلق. قال (ابن كثير): “واختلفوا في هذه الأيام، هل كل يوم منها كهذه الأيام”.[95] واختار فريق من المفسّرين أنّ هذه الأيام هي محض مُدد. قال (ابن عاشور): “وقيل المراد: في ستّة أوقات، فإنّ اليوم يطلق على الوقت كما في قوله تعالى: {وَمَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَه}[96] أي حين إذ يلقاهم زَحْفًا، ومقصود هذا القائل أنّ السماوات والأرض خُلقت عالَمًا بعد عالم ولم يشترك جميعُها في أوقات تكوينها.”[97]
  • ليس هناك ذكر أو وصف للسماء على أنّها شيء صلب، يفصل بين شيئين، علمًا أن نص تكوين 1/6 قد وصف السماء بأنّها (רָקִ֖יעַ) [رَقِيَعْ]، وهي الكلمة التي نقلتها الترجمة السبعينية إلى (στερέωμα) من فعل (στερεόω) أي “جعله صلبًا/ثابتًا”، ولذلك اختارت ترجمة الفولجاتا اللاتينية عبارة (firmamentum) للتعبير عن معنى العبارة العبرية.
  • ليس هناك وصف للكواكب على أنّها أشياء ملتصقة بالسقف [السماء]، وإنّما هي فقط في السماء، أي ما يعلو الأرض كما في لغة العرب.
  • خَلْقُ )آدم) –عليه السلام- قبل خلق الحيوانات في تكوين 2، ليس له ذكر في القرآن، بل القرآن يدلّ ظاهر لفظه على أنّ الجنس الآدمي قد ظهر بعد ظهور الحيوانات. قال تعالى: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء}.[98] فالله –سبحانه- قد أخبر أنه سيخلق على الأرض خليفة، فتساءلت الملائكة عن هذا الكائن الأرضي، والحكمة من خلقه؛ إذ هي لا تعلم على الأرض إلّا أنّ أهلها يفسدون فيها ويسفكون الدماء. وقد وقف المفسّرون القدماء أمام قول الملائكة في حيرة؛ إذ كانت الثقافة السائدة أنّ الحياة بدأت على الأرض بخلق (آدم) –عليه السلام-، فاضطروا إلى القول إنّ الجنّ هي تلك الكائنات الأرضية (!) التي تسفك دماء (!) بعضها، رغم أنّ الجنّ قد خُلقت من نار! ولئن كان للمفسّرين شيء من العذر في قولهم؛ لجهلهم بتاريخ الأحياء على الأرض، إلّا أن معارفنا العلمية اليوم تجعلنا نفهم كلام الملائكة على ظاهره دون تكلّف، مع موافقة لحقيقة ظهور الكائنات المتوحشّة التي تسفك دماء بعضها قبل خلق (آدم) –عليه السلام- بمئات ملايين السنين.

ما تفسير عصمة النص القرآني من الخطأ؟ هنا يعجز الماديون عن تقديم بيان مقنع. وأصل العصمة سيتّضح في ما سيأتي.

  1. عندما يصحح القرآن أخطاء التوراة

ناقض القرآن الرواية التوراتية في عدد من التفاصيل، بما يوافق العلم بصورة دقيقة لم تكن مدرَكة علميًا من قبل:

  • تزعم الرواية التوراتية تهيئة الأرض للحياة قبل خلق الشمس والقمر والنجوم، وتزعم خلق النبات قبل وجود الشمس، وهو عكس الترتيب القرآني الذي جعل ظهور السماء بأجرامها سابقًا لظهور النهار. قال تعالى:{أَأَنتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاء بَنَاهَا رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا وَالأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءهَا وَمَرْعَاهَا}.[99]
  • لا توجد إشارة إلى أنّ أصل البحار الماء الأوّل، وإنما جاء ذكر أنّ أصل ماء البحار من داخل الأرض نفسها. قال تعالى: {وَالأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءهَا وَمَرْعَاهَا}،[100] وهو ما أكّده العلم الحديث مؤخرًا بكشفه عن آثار الماء في باطن الأرض، وهو ما جعل العلماء ينسبون ماء ظاهر الأرض إلى باطنها.[101]
  • يزعم العهد الجديد (2بطرس 3/5) أن الأرض أصلها ماء، في حين يحصر القرآن مجال أصالة الماء بالقول إنه أصل الأحياء لا الجمادات ﴿ وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ ﴾،[102] وهي الحقيقة التي يُسَلِّمَ لها العلماء الذين يبحثون عن الحياة في الكواكب الأخرى؛ إذ يربطون بين وجود الماء وإمكان الحياة.
  • تزعم التوراة أنّ للأرض أعمدة من تحتها، ويقرّر القرآن أنّ الرواسي هي فوق الأرض.
  1. عندما يسبق القرآن خبر الانفجار العظيم

المدهش في أمر القرآن ومطابقته لحقائق العلوم أنه يُرضي تنبؤات من يزعم أنّ هذا الكتاب وحي منزّل. ومن عجائب هذا الباب حديث القرآن عن أهم حقائق قصة الخلق منذ الانفجار العظيم:

الانفجار:

الوصول إلى حقيقة الانفجار الكوني الأوّل بصورة مباشرة أمر متعذّر لأنه حدث لحظيٌ مضى وانقضى. والانفجار الكونيّ الأوّل هو انفلاق كرة ناريّة بالغة الحرارة. وقد أدرك العلماء حقيقة ذلك من خلال قياس درجات حرارة الأزمنة المتباعدة كما ترصدها المراصد؛ فإنّ المراصد قادرة على رصد تاريخ الكون القديم من خلال تتبّع تطوّرات الشكل الكوني الأوّل عبر الضوء الذي يصل منها إلينا. وقد دلّت الدراسات الرصدية الحسابية بيقين أنّ الكون في أقدم صوره كان حاميًا ثم بدأ في التبرّد، كما أنّ تشكّل عدد من عناصر الكون يحتاج طاقة حرارية عالية جدًا لا تتوفّر حتى في بطون النجوم، وهو ما يعيد نشأتها لحرارة أولى عالية جدًا مبكّرة، فهلّ أرّخ القرآن للانفجار الأوّل الحامي؟

جواب القرآن هو في قوله تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِين فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاء أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيم}.[103]

ما الدخان؟ لماذا لم يكن الهواء أو التراب أو الماء أو النار، وهي العناصر الأربعة التي يتكون منها الكون في التصوّر الأرسطي المهيمن على العالم النصراني عند البعثة النبوية؟ لماذا لم يقل الماء كما هو مذهب الإنجيل النصراني والحضارة البابلية والمصرية القديمة؟

ما الدخان غير أثر عن انفجار أو احتراق، وكذلك كان الكون الأول، انفجار ونار حامية، ثم تبرّد، ومن الانفجار كان الدخان، وهو صريح النص القرآني.

التوسع:

سبق لنا بيان اهتداء العلماء في بداية القرن العشرين إلى توسّع الكون بالحساب الرياضي، وهو أمر انتهى إلى تقريره (أينشتاين) أيضًا نظريًا، ثم تأكّد الأمر بعد ذلك بالرؤية المرصادية، أولًا من طرف (هابل)، ثم بقية المراصد، فما عاد هناك شك معتبر في هذا الشأن، فقد اعتضد البحث النظري بالكشف العملي، وهو أمر يبعد على العقل القديم تصوّره؛ فإنّ افتراض توسّع سقف الأرض لا يكاد يدلّ على معنى معقول أو متصوّر، ورغم ذلك فمن السلف من فسّر قوله تعالى: {وَالسَّمَاء بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُون}،[104] بمدّ السماء، كـ(عبد الرحمن بن زيد بن أسلم) (توفي عام 182هـ)، وهو من أعلام المفسّرين في زمن تابعي التابعين.[105] وبنفس الدلالة قال (أبو إسحاق الزجاج) النحوي (متوفى 311هـ).[106] وقال (ابن كثير): “{وَإِنَّا لَمُوسِعُون} أي: قد وسعنا أرجاءها، فرفعناها بغير عمد حتى استقلت كما هي”.[107] ويُستأنس بقوله تعالى: {يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاء كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِين}[108] للقول إنّ طيّ الكون في آخر الزمان هو مقابل توسعته في أوّله، فكما بُدئ الكون بالتوسّع يُردّ بالطيّ.

مدة الخلق:

تتفّق الهيئات العلمية الكبرى على مجموعة من التقريرات التي تمثّل مكاسب عظيمة للعقل العلمي في القرنين العشرين والواحد والعشرين:

  1. مادة الكون بأرضه وسمائه وجدت في الانفجار العظيم.
  2. عمر الكون: 13.7 بليون سنة، وعمر الأرض: 4.5 بليون سنة.
  3. تكوّنت الأرض في المدّة الأخيرة من عمر الكون.

والناظر في كتاب الله برويّة يجد تطابقًا مذهلًا مع مكتشفات العلم الحديث، ووجه الإذهال فيه أنه موافق بدقّة لأدقّ الدراسات العلمية الأحدث، وأنّه مخالف بشدّة لما جاء في التوراة والإنجيل.

مادة الكون: قال تعالى: {أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلاَ يُؤْمِنُون}.[109] فالسماوات والأرض من مادة واحدة، وجدتا أولاً، ثم حدث الانفصال، فتميّزت السماء عن الأرض.

عمر الكون والأرض: القراءة البسيطة غير المتكلّفة لآيات الخلق في القرآن تدلّ على عدد من الأمور:

  • خلق الكون في ستة أيام: قال تعالى: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللّهُ رَبُّ الْعَالَمِين}.[110] فالسماوات والأرض قد خلقتا في ستة أيام، في عبارة محكمة. والأيام هنا مدد من الزمن دون حصر، ولا قرينة على أنّها أيام من أيام الدنيا.
  • أيام الخلق متساوية بصورة تامة، فقد قال تعالى: {فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاء لِّلسَّائِلِين}[111]، فهي “سواء” أي متساوية زمنًا.
  • السماء والأرض وجدتا معًا ثم فتقتا.
  • الأيام الست في القرآن مقسمة على الشكل التالي:
  1. خلق الله الأرض في يومين، ومعنى الخلق هنا هو إيجاد المادة الأولى، ثم طبخها في الفرن الكوني: {قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِين}.[112]
  2. تسوية السماوات في يومين، وهذا ليس خلقًا لمادة السماوات وإنما تشكيلها على صورة سبع سماوات، وذاك دال أنّ السماء تسبق الأرض في إحكام البناء، وإن تزامن خلق مادة السماء ومادة الأرض. قال تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِين فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاء أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيم}.[113]
  3. فصل الأرض عن السماء، أي الأجرام التي ستعلوها بعد ذلك. قال تعالى: {أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلاَ يُؤْمِنُون}.[114] بعد انفصال الأرض عن بقية الكواكب، بَسَطها الله سبحانه، وثبّتها، وذلك في يومين اثنين، وهذا هو سنّ أرضنا، أو قل: “عمرها الجيولوجي” –على حد تعبير الفيزيائي (منصور محمد حسب النبي) -: {قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِين وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِن فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاء لِّلسَّائِلِين}.[115] فهذه الأيام الأربع تتضمّن اليومين الأوّلين لخلق الأرض، واليومين الآخرين لتثبيت القشرة الأرضية كما هو قول كثير من المفسّرين القدماء والمعاصرين.[116] والقرآن يميّز في غيرما موضع بين “خلق” و”قدّر”، كقوله تعالى: {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا}.[117]

النتيجة: قرآنيًا، العمر الجيولوجي للأرض يساوي 2/6 عمر الكون، أي ثلثه 1/3، ونهايته هي اللحظة التي نعيشها الآن، فهو واقع في آخر العمر الكوني لكوننا.

اعتراض: رغم أنّ التفسير الذي قدّمتموه مُؤيَّد بنصوص القرآن، إلا أنّه مخالف لتفسير الصحابة، وأنتم بذلك تتعسّفون في استنطاق النصوص القرآنية لتوافق العلم الحديث!

الجواب: بل تفسيرنا موافق لتفسير الصحابة، فهو عين تفسير (ابن عباس) -رضي الله عنه- لآيات الخلق، ولم نخالفه إلا في مسألة واحدة فقط، وهي قوله إنّ السماء خلقت بعد الأرض، لا مع الأرض، فقد فهم –رضي الله عنه- قوله تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِين فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ}[118] على أنه مخبر بإنشاء السماء بين اليوم الثاني واليوم الثالث[119] الذي بدأ فيه أمر تسوية السماوات إلى سبع. فقد أخرج (البخاري) في صحيحه أنّ رجلًا استشكل آيات ترتيب الخلق، فأجابه (ابن عباس) –رضي الله عنه- قائلًا: “خلق الأرض في يومين، ثم خلق السماء، ثم استوى إلى السماء فسواهن في يومين آخرين، ثم دحا الأرض، ودحوها: أن أخرج منها الماء والمرعى، وخلق الجبال والجماد، والآكام وما بينهما في يومين آخرين، فذلك قوله تعالى: {دَحَاهَا}، وقوله: {خَلَقَ الأَرْضَ فِي يَوْمَيْن}، فجعلت الأرض وما فيها من شيء في أربعة أيام، وخلقت السماوات في يومين”.[120] وبيان فهم (ابن عباس) –رضي الله عنه- لآيات الخلق في الجدول التالي:

اليوم 1 و2 بين اليوم 2و3: نهاية الثاني (!) أو بداية الثالث(!) اليوم 3و4 اليوم 5و6
الأرض خلق السماء (الدخان) تسوية الدخان سبع سماوات تهيئة الأرض للحياة

ما قرّره (ابن عباس) –رضي الله عنه- هو ظاهر القرآن، غير أنّ قوله إنّ الله –سبحانه- قد خلق السماء بعد الأرض، ثم سوّاها سبع السماوات، بعيد، فالقرآن تحدّث عن تسوية السماوات في يومين، وليس في هذين اليومين خَلْقُها، والتسوية متأخّرة عن الخلق بداهة، فلزم أن يكون خلق السماوات في اليومين السابقين لليوم الثالث والرابع، أي إنّ القرآن قد دلّ على خلق السماوات ضمنًا في اليومين الأوّلين بحديثه عن تسويتها سبع سماوات في المرحلة الثانية من الخلق، فالله –سبحانه- استوى إلى السماء الموجودة أصلًا على هيئة دخان في اليوم الثالث، فجعلها على هيئة سبع سماوات في يومين. ولا حجّة للقول إنّ السماء قد خلقت في آخر اليومين الأوّلين من القرآن؛ إذ ليس في آيات ترتيب الخلق حديث صريح عن مرحلة خلق السماء؛ فيبقى الأمر على إطلاقه، وهو أنّ السماء خلقت في يومي خلق الأرض إلا بقرينة صارفة، ولا قرينة!

اعتراض: فلماذا لم يشر القرآن إلى خلق السماء مع الأرض؟

الجواب: بل أشار القرآن إلى ذلك في قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا}.[121] فقد كانت السموات والأرض كتلة واحدة، ثم تم فصلهما عن بعضهما، بالفتق، والفتق ضد الوصل؛ فسوّيت السماوات السبع، وهيّئت الأرض للحياة. قال (ابن كثير): “كان الجميع متّصلاً بعضه ببعض، متلاصق متراكم بعضه فوق بعض في ابتداء الأمر، ففتق هذه من هذه، فجعل السموات سبعًا، والأرض سبعًا”.[122] وقد صحّ تفسير الآية بفصل السماء عن الأرض عن التابعي الجليل المفسّر (قتادة السدوسي) (توفي 118هـ)، والتابعي الجليل (الحسن البصري) (توفي 110هـ).[123]

ترتيبنا للخلق قرآنيا

اليوم 1 و2 اليوم 3 و4 اليوم 5و6
خلق مادة السماوات والأرض تسوية الدخان سبع سماوات إنشاء الكرة الأرضية بما فيها
{أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا}

{قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأَرْضَ فِي يَوْمَيْن}

{ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِين فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ} تهيئة الأرض بعد خلق السماء: {أَأَنتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاء بَنَاهَا رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا وَالأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءهَا وَمَرْعَاهَا}.

مدة خلق الكرة الأرضية: يومان، بعد حذف يومَي خلق المادة وطبخها بتكوين العناصر الأساسية من مجموع الأيام الأربعة: {قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِين وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِن فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاء لِّلسَّائِلِين}

ومن الناحية العلمية، يقدّر علماء ناسا رسميًا عمر الكون على أنه 13.7 بليون سنة، ويقدر العلماء عمر الأرض بـ4.5 بليون سنة.[124] وبحساب سُدسي عمر الكون، أي يومين من حياته إذا قدّرنا أنه ستة أيام، تكون النتيجة بالضبط 4.5، بهذه الدقة وهذا الإعجاز![125]

عمر الأرض بالنسبة إلى الكون علميا عمر الأرض بالنسبة إلى الكون قرآنيا
4.5 بليون سنة/13.7 بليون سنة يومان/6 أيام
1/3 2/6=1/3

والأمر الذي يقطع أنّ هذا التطابق بين القرآن والعلم ليس صدفة، حقيقة الـمُدَد التي قرّرها القرآن، فإنّه يجوز أن يقال إنّ الأمر صدفة لو كان القرآن قد اختار القول إنّ الأرض قد خلقت في يوم واحد؛ باعتبار أنّ الأرض شيئ واحدٌ، خُلِق في يوم واحد، أو أن تكون مدة خلق الأرض ثلاثة أيام، باعتبار أنّ الكون هو “السماوات والأرض”، فللسماوات نصف مدة الخلق الإجمالية، وللأرض النصف الآخر، نصف المدة. وليس في القرآن ذلك!

  1. عندما تهدم السنّة النبويّة دعوى الكون الصغير

ليس في القرآن إشارة إلى طول عمر البشرية، لكن دلّت السنّة على أنّ عمر البشريّة أعظم بكثير من أوهام الكتاب المقدس، وهذا ما بيّنه الإمام (ابن حزم) في زمن تشرّب فيه الأخباريون المسلمون دعاوى النصارى، بل ونقلوا سلاسل أنساب التوراة دون برهان من قرآن أو سنّة.

قال (ابن حزم) منذ أكثر من عشرة قرون من الآن: “وأما اختلاف الناس في التاريخ، فإن اليهود يقولون للدنيا أربعة آلاف سنة ونيف. والنصارى يقولون للدنيا خمسة آلاف سنة. وأما نحن فلا نقطع على عدد معروف عندنا. وأما من ادعى في ذلك سبعة آلاف سنة أو أكثر أو أقل، فقد كذب، وقال ما لم يأت قط عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه لفظة تصح، بل صح عنه عليه السلام خلافه، بل نقطع على أن للدنيا أمرًا لا يعلمه إلا الله عز وجل. قال الله تعالى: {مَا أَشْهَدتُّهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلاَ خَلْقَ أَنفُسِهِمْ}.[126] وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: “ما أنتم في الأمم قبلكم إلا كالشعرة البيضاء في الثور الأسود أو كالشعرة السوداء في الثور الأبيض”.[127]

هذا عنه عليه السلام ثابت، وهو عليه السلام لا يقول إلا عين الحق، ولا يسامح بشيء من الباطل. وهذه نسبة من تدبّرها، وعرف مقدار أعداد أهل الإسلام، ونسبة ما بأيديهم من معمور الأرض، وأنّه الأكثر، علم أن للدنيا عددًا لا يحصيه إلا الله الخالق تعالى.

وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم: “بعثت أنا والساعة كهاتين”، وضمّ أصبعيه المقدستين السبابة والوسطى.[128]

وقد جاء النص بأنّ الساعة لا يعلم متى تكون إلا الله عزّ وجل، لا أحد سواه. فصحّ أنه عليه السلام إنما عنى شدة القرب لا فضل طول الوسطى على السبابة، إذ لو أراد فضل ذلك، لأخذت نسبة ما بين الأصبعين، ونسب ذلك من طول الوسطى، فكان يعلم بذلك متى تقوم الساعة، وهذا باطل.

وأيضا فكأن تكون نسبته عليه السلام إيانا إلى من قبلنا بأنه كالشعرة في الثور كذبًا ومعاذ الله من ذلك.

فصحّ أنه عليه السلام إنما أراد شدة القرب، وله عليه السلام مذ بعث أربعمائة عام ونيف، والله أعلم بمقدار ما بقي من عمر الدنيا. فإذا كان هذا العدد العظيم لا نسبة له عند ما سلف لقلته وتفاهته بالإضافة إلى ما مضى، فهذا الذي قاله عليه السلام من أننا فيمن مضى كالشعرة في الثور أو الرقمة في ذراع الحمار”.[129]

إنّ السنّة النبوية الصحيحة تخبرنا إذن أنّ ما مضى من زمن طويل جدًا لا يساوي فيه عمر أمة الإسلام شيئًا. وذاك لا يلتقي مع تقدير اليهود والنصارى أن عمر الكون ستة آلاف سنة من اليوم. ولم يصحّ من السنّة غير ذلك رغم ثراء التراث النبوي.[130]

وأخيرًا عليّ أن ألجم القلم عن السيلان، ومن أراد مزيد بيان، وطويل إفاضة في أمر العلم والتوراة والإنجيل والقرآن، فعليه بكتابنا الذي ألّفناه لذلك.

ربّنا اغفر وارحم.. وتجاوز عمّا تعلم!

كلمة في الختام

{ذَلِكُمُ اللّهُ رَبُّكُمْ لا إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيل}

[الأنعام:102]

  1. إذا كانت المكتبة الإسلامية الإنجليزية في باب محاورة النصارى تتميّز بالسطحيّة واللازمنية، فإنّها في باب الحوار مع الإلحاد تتميّز بالغياب التام عن المشهد. والأمر ذاته قائم في المكتبة الإسلامية الفرنسية. ويساهم الإعلام الدعوي العربي والمال الدعوي العربي في ترسيخ واقع الرداءة ذاك بتمجيدهما للأسلوب الشعبي الباهت للدعوة في الغرب. وهذا باب من القول يحتاج إلى عرض وبسط حتى لا تتّسع المأساة التي بدأ يدفع ثمنها أبناء المهاجرين الذين نخرتهم عقائد النسبية والإلحاد، ولا ينبّئك مثل خبير، أو قل: مثل موجوع يعايش محنة هذا الجيل المتآكل في صمت!
  2. الكتاب المقدس= مجموع الكتب المقدسة التي تؤمن بربانيتها وإلزاميتها الكنائس النصرانية. وهي تنقسم إلى (عهد قديم)، وهو مجموع الكتب المقدسة التي يشترك اليهود مع النصارى في الإيمان بها، وتسمى مجازًا (التوراة)، وتنسب الكتب الخمسة الأولى منها إلى (موسى) عليه السلام. وأوّلها (سفر التكوين)، وكلمة (سفر) تعني (كتاب). ويسمّى الجزء الثاني من الكتاب المقدس بـ(العهد الجديد)، وهو مجموع 27 كتابًا على اختلاف أنواعها بين إنجيل، وقصة تأريخية، ورسالة، ورؤيا. ويسمّى مجازًا (الإنجيل)، ولا يؤمن بقداسته غير النصارى.
  3. Francis Brown; S. R. Driver; Charles A. Briggs; G. R. Driver; Wilhelm Gesenius; Emil Roediger and Edward Robinson, A Hebrew and English Lexicon of the Old Testament (Oxford: Clarendon, 1898), p.135.
  4. [الحشر:24].
  5. [البقرة:54].
  6. [الحديد:22].
  7. ابن منظور، لسان العرب، مادة (ب-ر-أ).
  8. Paul Copan and William Lane Craig, Creation out of Nothing: A Biblical, Philosophical, and Scientific Exploration (Leicester, England: Apollos; Grand Rapids, Mich.: Baker Academic, 2004), p.49.
  9. المصدر السابق، ص58.
  10. المصدر السابق.
  11. Hugh Ross, The Genesis Question: Scientific Advances and the Accuracy of Genesis (Colorado Springs, Colo.: NavPress, 1998), pp.8-10.
  12. [الواقعة: 75-76].
  13. انظر الشهادات التاريخية في (D. M. Murdock, Christ in Egypt: The Horus-Jesus Connection (Seattle, WA: Stellar House Pub., 2009), pp.198 ff.)، وإن كنّا نتحفظ على الأطروحة العامة للمؤلفة.
  14. Richard Elliott Friedman, Who Wrote the Bible? (San Francisco: HarperSanFrancisco. 1989), pp.159 ff.
  15. انظر مثلا Walter C. Kaiser, The Old Testament Documents: Are They Reliable & Relevant? (Downers Grove, Ill.: InterVarsity Press, 2001), pp.137-146.
  16. Leonard W. King, Enuma Elish: The Seven Tablets of Creation (New York: AMS Press, 1976), pp.lxxxii-lxxxviii.
  17. H. Gunkel, Schöpfung Und Chaos in Urzeit Und Endzeit (Göttingen, 1895), pp.29 ff.
  18. (والتون) عالم توراتي متخصص في باب علاقة تراث شرق الأدنى القديم بالتوراة، وله في ذلك مؤلفات أخرى، مثل: (Ancient Israelite Literature in its Cultural Context) و(Genesis 1 as Ancient Cosmology).
  19. John H. Walton, Lost World of Genesis One: Ancient Cosmology and the Origins Debate (Downers Grove, Ill.: IVP Academic, 2009), p.53.
  20. Paul Copan and William Lane Craig, Creation out of Nothing, pp.30-36.
  21. Stephanie Dalley, Myths from Mesopotamia: Creation, the Flood, Gilgamesh, and Others (Oxford; New York: Oxford University Press, 1989).
  22. ومن ذلك موقفهم العنيف من الترجمات التي حوّلت “عذراء” إلى “فتاة شابة” في إشعياء 7/14؛ إذ النص العبري قد استعمل عبارة “עלמה” [علما] التي تقابل “غلامة” لا “عذراء” في العربية. وقد هوجمت ترجمة (Revised Standard Version) وأحرِقت نسخٌ منها على الملأ بسبب تبنّيها عبارة “فتاة شابة” في النص السابق (David Dewey, A User’s Guide to Bible Translations (Downers Grove, Ill. : InterVarsity Press, 2004), p.87).
  23. Richard Elliott Friedman, The Bible with Sources Revealed (San Francisco: HarperSanFrancisco, 2003).
  24. W. F. Albright, “Contributions to Biblical Archaeology and Philology”, in Journal of Biblical Literature, Vol. 43, No. 3/4 (1924), p.365.
  25. المصدر السابق.
  26. “There has really been, I think, a new consensus emerging on this question by commentators that, in fact, the traditional understanding of this as an independent clause has been emerging.< http://www.reasonablefaith.org/defenders-1-podcast/transcript/s16-02>.
  27. Robert B. Coote and David Robert Ord, In the Beginning: Creation and the Priestly History (Minneapolis: Fortress Press, 1991), p.50.
  28. Sasson, “Time . .. to Begin,” pp.187-188 (Quoted by Mark Smith, The Priestly Vision of Genesis 1 (Minneapolis: Fortress Press, 2010), p.45)
  29. Robert D. Holmstedt, “The Restrictive Syntax of Genesis I 1”, in Vetus Testamentum, Vol. 58, Fasc. 1 (2008), p.58.
  30. Mark Smith, The Priestly Vision of Genesis 1, p.44.
  31. W. F. Albright, “Contributions to Biblical Archaeology and Philology”, p.364.
  32. Robert D. Holmstedt, “The Restrictive Syntax of Genesis I 1”, in Vetus Testamentum, Vol. 58, Fasc. 1 (2008), p.57.
  33. المصدر السابق.
  34. William Lane Craig, Creatio Ex Nihilo: A Critique of the Mormon Doctrine of Creation.< http://www.reasonablefaith.org/creatio-ex-nihilo-a-critique-of-the-mormon-doctrine-of-creation>.
  35. 2 Enoch, in James Charlesworth, ed., F. I. Anderson, trans. The Old Testament Pseudepigrapha (New York: Doubleday & Co., 1983), 1/142.
  36. المصدر السابق.
  37. Orello Cone, The epistles to the Hebrews, Colossians, Ephesians, and Philemon, the Pastoral Epistles, the Epistles of James, Peter and Jude, Together With A Sketch of the History of the Canon of the New Testament (New York & London, G.P. Putnam’s Sons, 1901), pp.3-4.
  38. James N. Hubler, “Creatio ex Nihilo: Matter, Creation, and the Body in Classical and Christian Philosophy through Aquinas” (PhD diss., University of Pennsylvania, 1995), Manuscript, 108.لتحميل نسخة الأطروحة:< http://repository.upenn.edu/cgi/viewcontent.cgi?article=2119&context=edissertations >
  39. المصدر السابق، ص 102، 107-108.
  40. Barry Bandstra, Reading the Old Testament: Introduction to the Hebrew Bible (Belmont, CA: Wadsworth, 1995), pp.38-39.
  41. المصدر السابق، ص 38.
  42. Paul Copan and William Lane Craig, Creation out of Nothing, p.37.
  43. تأثّرُ الكتاب المقدس وعقائد الكنيسة بثقافات الأمم الوثنية القديمة في أكثر من باب، معلوم، دلّت عليه الشواهد القوية، انظر كتابنا: هل اقتبس القرآن الكريم من كتب اليهود والنصارى، ص 583-612. ومن المهم الإشارة هنا إلى وجوب التعامل بحذر مع الكتابات الغربية في باب أثر العقائد الوثنية في الأسفار المقدسة للكنيسة؛ إذ تنزع كثيرًا إلى المغالاة والتكلّف، فتجمع بذلك الحق مع الباطل، ويمثّل هذا النمط في المكتبة العربية كتاب “العقائد الوثنية في الديانة النصرانية” لـ(محمد بن طاهر التنير)؛ إذ ينقل عن الكتب الغربية دون تحقيق.
  44. اقتبسه Alexander Heidel, Babylonian Genesis: The Story of the Creation (Chicago; London : University of Chicago Press, 1963) , p.89.
  45. Thomas Jay Oord, “God always creates out of creation in love”, in Theologies of Creation: Creatio Ex Nihilo and Its New Rivals, ed. Thomas Jay Oord, (New York: Routledge, Taylor & Francis Group, 2015), pp.109-110.
  46. Barry Bandstra, Reading the Old Testament, p.40.
  47. الصورة معبرة بصورة جيدة عن التصوّر الكوني للتوراة، مع تعديل واجب، وهو أنّ الشمس والقمر والكواكب ملتصقة بقبّة السماء وليست هذه الأجرام تحتها،كما هو ظاهر من نص تكوين 1/14، 16-17 : “وَقَالَ اللهُ: “لِتَكُنْ أَنْوَارٌ فِي جَلَدِ السَّمَاءِ لِتَفْصِلَ بَيْنَ النَّهَارِ وَاللَّيْلِ… فَعَمِلَ اللهُ النُّورَيْنِ الْعَظِيمَيْنِ: النُّورَ الأَكْبَرَ لِحُكْمِ النَّهَارِ، وَالنُّورَ الأَصْغَرَ لِحُكْمِ اللَّيْلِ، وَالنُّجُومَ. وَجَعَلَهَا اللهُ فِي جَلَدِ السَّمَاءِ لِتُنِيرَ عَلَى الأَرْضِ”.
  48. Jonathan D. Sarfati, The Genesis Account: A Theological, Historical, and Scientific Commentary on Genesis 1-11 (Powder Springs, Georgia, USA: Creation Book Publishers, 2015), p.58.
  49. ما يزعمه صاحب الجدول هنا ليس بصحيح؛ إذ إنّ ظهور الماء –من الناحية العلمية- متأخّر جدًا في عمر الكون.
  50. نحن نرفض فكرة الخلية الأولى التي تمثل الأصل الذي تفرعت عنه بقية الموجودات الحيّة. وهذه الدعوى هي محض الظنّ، ولا برهان عليها. كما أنّ الظهور العفوي للخلية الأولى ساذج لأنّ الخليّة الأولى القابلة للحياة والتناسخ معقدة جدًا بما لا يدع مجالًا للعشوائية أن توجدها (Fazala Rana, The Cell’s Design (Grand Rapids, Mich.: Baker Books, 2008), pp.53 ff.).
  51. D. Manthei, “Two World-views in Conflict”, in Creation 20 (4): 26– 27 (September– November 1998).
  52. لا بدّ من التمييز بين ترتيب الكائنات في الظهور، وتطوّر الكائنات من بعضها، فالأمر الأوّل هو نتيجة ملاحظة أثر الكائنات الحيّة في مختلف طبقات الأرض، وأمّا الأمر الثاني فهو دعوى تفسيريّة بالربط بين آثار الطبقات، ولنا عليها ملاحظات، أهمها قيامها على الظن المحض، وفقدان الحلقات الوسيطة التي تسمح بتكوين سلسلة تطوّرية متكاملة. وليس من المتوقّع أن تكشف طبقات الأرض في قابل الأيام عن ترتيب جديد جوهري لظهور التصنيفات الكبرى للكائنات الحيّة.
  53. Paul Davies, God and the New Physics, p.17.
  54. Henry M Morris, The Genesis Record: A Scientific and Devotional Commentary on the Book of Beginnings (Grand Rapids : Baker Book House, 1977) p.53
  55. John D. Morris, Is the Big Bang Biblical? : And 99 Other Questions (Green Forest, AR: Master Books, 2003), p.86.
  56. < http://www.reasonablefaith.org/defenders-1-podcast/transcript/s16-02>.
  57. Talmud, Sanhedrin 97a and 97b.
  58. Lita Cosner, How does the Bible teach 6,000 years?. < http://creation.com/6000-years >.
  59. G. J. Wenham, Genesis 1-15, Word Biblical Commentary (Waco, Tex.: Word Books, 1987), pp. lii-liii, 1987.
  60. ترجمة الرهبانية اليسوعية للكتاب المقدس، بيروت: دار المشرق، 1988م، ط3، ص 68.
  61. <http://www.ewtn.com/library/PAPALDOC/JP2COSM.HTM>
  62. انظر –كمثال- هذه المناظرة الحديثة بين الفريقين:<https://www.youtube.com/watch?v=jUHNz6bUSIU>
  63. Bishop, George F; Thomas, Randall K; Wood, Jason A; Gwon, Misook (2010), Americans’ Scientific Knowledge and Beliefs about Human Evolution in the Year of Darwin. <http://ncse.com/rncse/30/3/americans-scientific-knowledge-beliefs-human-evolution-year->.
  64. حديث (سبرول) هو عن مدة الخلق وليس عن سن الأرض إلى الآن.
  65. R. C. Sproul, Truths We Confess: A Layman’s Guide to the Westminster Confession of Faith: Volume 1: The Triune God (Phillipsburg, N.J.: P & R Pub., 2006), pp.127-128.
  66. Sarfati, Refuting Compromise (Green Forest, AR: Master Books, 2004), p.122.
  67. Hales, A New Analysis of Chronology and Geography, History and Prophecy 1: 210, 1830 (Quoted by Sarfati, Refuting Compromise, p. 131).
  68. Sarfati, The Genesis Account, p.125.
  69. لا يفسد ذلك جهده كباحث ومناظر بارع في بيان دلالة العلم الحديث على وجود الله، ونقض دعاوى الملحدين.
  70. نشرت النسخة الأولى تحت عنوان “ The Science of Torah: The Reflection of Torah in the Laws of Science, The Creation of the Universe and the Development of Life ” (2001).
  71. J. Barr, letter to David C.C. Watson, April 23, 1984 (Quoted by Sarfati, Refuting Compromise, p.137).
  72. Gerhard F. Hasel, “The “Days” of Creation in Genesis 1: Literal “Days” or Figurative “Periods / Epochs” Of Time?,” in Origins 21(1): 38 (1994).<http://ldolphin.org/haseldays.html>.
  73. Francis Brown; S. R. Driver; Charles A. Briggs; G. R. Driver; Wilhelm Gesenius; Emil Roediger and Edward Robinson, A Hebrew and English Lexicon of the Old Testament, p.398.
  74. J. Stambaugh, “The days of creation: Asemantic approach”, in TJ 5(1):75.
  75. Johnny V. Miller and John M. Soden, In the Beginning– we Misunderstood: Interpreting Genesis 1 in its Original Context (Grand Rapids, MI : Kregel Publications, 2012).
  76. لقاء مع المؤلف:< http://www.apologetics315.com/2013/02/author-interview-johnny-v-miller.html>
  77. ذكر ذلك في سلسلته (Doctrine of Creation: Excursus on Creation and Evolution). وهي متوفرة على موقعه الرسمي.
  78. فعل ذلك في سلسلة محاضراته عن الخلق والتطوّر (Doctrine of Creation: Excursus on Creation and Evolution)، وهي موجودة على موقعه، وعلى اليوتيوب (الحلقات 1-12).
  79. Paul Copan and William Lane Craig, Creation out of Nothing, p.19.
  80. [الأنعام:102]
  81. [الحشر:24]
  82. [الأنعام:14]
  83. [البقرة:117]
  84. وردت بعض النصوص في الكتاب المقدس مخبرة أنّ الله خالق كلّ شيء، لكنّ هذا العموم (للشيء) مخصوص بالنصوص الأخرى التي تخبر بمادة أزليّة مع الله.
  85. انظر كتابنا الموسّع في الردّ على هذه الفرية: هل اقتبس القرآن الكريم من كتب اليهود والنصارى، دار البصيرة، 2012م.
  86. ليس هذا “بإعذار شرعي”، وإنما هو تقرير لكون التفسير المادي لمصدر بشري للقرآن متناسق مع مقدمته المادية التي ترفض نسبة القرآن إلى أصل سماوي.
  87. Gabriel Said Reynolds, The Qur’an and its Biblical Subtext (London; New York: Routledge, 2010).
  88. John Wansbrough, Quranic Studies: Sources and Methods of Scriptural Interpretation (Oxford: Oxford University Press, 1977); The Sectarian Milieu: Content and Composition Of Islamic Salvation History (Oxford: Oxford University Press,1978).
  89. روى (مسلم) عن (أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه قَالَ : ” أَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَدِي فَقَالَ: “خَلَقَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ التُّرْبَةَ يَوْمَ السَّبْتِ، وَخَلَقَ فِيهَا الْجِبَالَ يَوْمَ الْأَحَدِ، وَخَلَقَ الشَّجَرَ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ، وَخَلَقَ الْمَكْرُوهَ يَوْمَ الثُّلَاثَاءِ، وَخَلَقَ النُّورَ يَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ، وَبَثَّ فِيهَا الدَّوَابَّ يَوْمَ الْخَمِيسِ، وَخَلَقَ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَام بَعْدَ الْعَصْرِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فِي آخِرِ الْخَلْقِ، فِي آخِرِ سَاعَةٍ مِنْ سَاعَاتِ الْجُمُعَةِ فِيمَا بَيْنَ الْعَصْرِ إِلَى اللَّيْلِ”. وهو حديث ضعّفه من هم أعلم من الإمام (مسلم) بالعلل كـ(البخاري) و(ابن المديني)، وضعّفه أيضًا أقرانه من المحدّثين كـ(ابن معين) و(عبد الرحمن بن مهدي). كما أنكره أئمة آخرون كـ(البيهقي) و(ابن تيمية) و(ابن القيم) -الذي صرّح أنّه حديث موضوع-، قبل ظهور المعارف العصرية بقرون.وقد قال الحافظ (ابن كثير) عن هذا الحديث: “اختلف فيه على ابن جريج، وقد تكلم في هذا الحديث علي بن المديني، والبخاري، والبيهقي وغيرهم من الحفاظ. قال البخاري في (التاريخ): وقال بعضهم عن كعب وهو أصح. يعني أن هذا الحديث مما سمعه أبو هريرة وتلقاه من كعب الأحبار، فإنهما كانا يصطحبان ويتجالسان للحديث، فهذا يحدثه عن صحفه وهذا يحدثه بما يصدقه عن النبي صلى الله عليه وسلم، فكان هذا الحديث مما تلقاه أبو هريرة عن كعب عن صحفه، فوهم بعض الرواة فجعله مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم” (البداية والنهاية، تحقيق: عبد الله التركي، دار هجر، 1424هـ / 2003م، 1/33)والحديث مخالف صراحة للقرآن من أوجه -بل ليس فيه من ترتيب القرآن شيء-:يزعم هذا الحديث الباطل أنّ الخلق تمّ في سبعة أيام، وفي القرآن أنّ الخلق في ستة أيام.خلق الأرض وتقدير ما فيها في أربعة أيام في القرآن، وفي الحديث أنّ خلق الأرض في سبعة أيام. ولا ذكر لخلق السماوات وتسويتها.يزعم الحديث أنّ الله –سبحانه- خلق الشرّ يوم الثلاثاء. والشرّ ليس من مخلوقات الله –سبحانه-، قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: “والشرّ ليس إليك” (رواه مسلم). وخلق الشرّ دعوى مجوسيّة باطلة.الشرّ أثر عن المخلوقات، ولا معنى لأن يستقلّ حدوثه بيوم.وأمّا من ناحية الإسناد، فقد أعلّ الحفّاظ الحديث من ثلاثة أوجه:الحديث من رواية (أبي هريرة) عن (كعب الأحبار) موقوفًا عليه. قال (البخاري): “روى إسماعيل بن أمية عن أيوب بن خالد الأنصاري عن عبد الله بن رافع عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “خلق الله التربة يوم السبت”، وقال بعضهم عن أبي هريرة عن كعب وهو أصح.” (التاريخ الكبير، 1/413، ترجمة “أيوب بن خالد”).هذا الحديث رواه (إسماعيل بن أمية) عن (إبراهيم بن أبي يحيى)، و(إبراهيم) هذا متهم بالكذب (النسائي، الضعفاء والمتروكين، ص 42)، وبهذه العلّة ضعّف (ابن المديني) الحديث. قال: (ما أرى إسماعيل بن أمية أخذ هذا إلا من إبراهيم بن أبي يحيى) (البيهقي، الأسماء والصفات، 2/255-265).في الإسناد (أيوب بن خالد). قال الحافظ (الأزدي): “أيوب بن خالد ليس حديثه بذاك، تكلم فيه أهل العلم بالحديث، وكان يحيى بن سعيد ونظراؤه لا يكتبون حديثه.” (ابن حجر، تهذيب النهذيب، 1/365). (انظر سليمان بن محمد الدبيخي، أحاديث العقيدة المتوهم إشكالها في الصحيحين، الرياض: مكتبة دار المنهاج، 1427هـ، 357-360).
  90. ملحوظة: أخرج (أحمد) و(ابن حبان) و(الحاكم) عن (أبي ميمونة) عن (أبي هريرة)، قال: قلت يا رسول الله: “إني إذا رأيتك طابت نفسي وقرت عيني، فأنبئني عن كل شيء”. فقال: “كل شيء خلق من ماء”. قال: قلت: “يا رسول الله، أنبئني عن أمر إذا أخذت به دخلت الجنة”. قال: “أفش السلام، وأطعم الطعام، وصل الأرحام، وقم بالليل والناس نيام، ثم ادخل الجنة بسلام‏.”وقد أخرجه (الحاكم) 4/129 و160 في موضعين، ولم يذكر في الموضع الأول الشطر الأول من الحديث. وكذلك أخرجه (ابن حبان) (508) و(2559) دون أن يذكر في الموضع الأول الشطر الأول منه، وهو الشطر الذي يدلّ على أنّ الماء هو أصل الكون.الحديث مداره على (أبي ميمونة). وقد قال الإمام (الدارقطني): “أبو ميمونة عن أبي هريرة عنه قتادة مجهول يترك “، وقال (ابن معين): “أبو ميمونة الأبار صالح”، أي إنّ حديثه يكتب للاعتبار لا الاحتجاج (تهذيب التهذيب، من كنيته: أبو ميمون وأبو ميمونة، (1167).)، وقد وهم من صحّح الحديث إذ ظنّ (أبا ميمونة الفارسي) الثقة نفسه (الأبار). وذهب (البخاري) و(مسلم) و(أبو حاتم) وغيرهم كـ(الدارقطني) إلى التمييز بينهما. والحديث بذلك ضعيف الإسناد. وقد ضعّفه (الألباني) لذلك في السلسلة الضعيفة (3/492)، وهو آخر قوليه فيه.أما الحديث الذي أخرجه (الترمذي) عن (أبي هريرة) قال: “قلنا يا رسول الله: ما لنا إذا كنا عندك، رقت قلوبنا، وزهدنا في الدنيا، وكنا من أهل الآخرة. فإذا خرجنا من عندك، فآنسنا أهالينا، وشممنا أولادنا، أنكرنا أنفسنا”. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “لو أنكم تكونون إذا خرجتم من عندي كنتم على حالكم ذلك، لزارتكم الملائكة في بيوتكم، ولو لم تذنبوا لجاء الله بخلق جديد كي يذنبوا فيغفر لهم.” قال: قلت: “يا رسول الله، مم خلق الخلق؟” قال: “من الماء”. قلنا: “الجنة ما بناؤها؟” قال: “لبنة من فضة، ولبنة من ذهب، وملاطها المسك الأذفر، وحصباؤها اللؤلؤ والياقوت، وتربتها الزعفران… الحديث”، فقد ضعّفه (الترمذي) بقوله: “هذا حديث ليس إسناده بذاك القوي، وليس هو عندي بمتصل”. أمّا من صحّح الحديث، كـ(الألباني)، فقد صحّحه بشواهده، دون “مم خلق الخلق؟”، أي إنّ هذه الزيادة المتعلّقة بالماء لا تصحّ بذاتها ولا تشهد لها أحاديث صحيحة أخرى، فهي ضعيفة.
  91. Nathaniel Philippe Sander and Isaac Léon Trenel, Dictionnaire Hébreu-Français (Imprimerie de Ch. Jouaust, 1859), pp.233-234.
  92. الأصفهاني، المفردات في غريب القرآن، بيروت: دار القلم، 1412هـ، ص894.
  93. [الحج:47].
  94. [المعارج:4].
  95. ابن كثير، تفسير القرآن العظيم (الرياض: دار طيبة، 1420هـ/1999م)، 3/426.
  96. [الأنفال:16].
  97. ابن عاشور، التحرير والتنوير (تونس: الدار التونسية للنشر، 1984م)، 8/2/162.
  98. [البقرة:30]
  99. [النازعات:27-31]
  100. [النازعات:30-31].
  101. University of Alberta, “Water-rich gem points to vast ‘oceans’ beneath Earth’s surface, study suggests.” ScienceDaily. ScienceDaily, 12 March 2014. <www.sciencedaily.com/releases/2014/03/140312150229.htm>.
  102. [الأنبياء: 30].
  103. [فُصِّلَت: 11-12].
  104. [الذاريات:47].
  105. ابن الجوزي، زاد المسير (بيروت: المكتب الإسلامي، 1423هـ/2002م)، ص 1351.
  106. المصدر السابق.
  107. ابن كثير، تفسير القرآن العظيم، 7/424.
  108. [الأنبياء:104].
  109. [الأنبياء:30].
  110. [الأعراف:54]
  111. [فُصِّلَت/10]
  112. [فُصِّلَت:9].
  113. [فُصِّلَت:11-12].
  114. [الأنبياء:30].
  115. [فُصِّلَت/9-10].
  116. وهو نفسه قول (ابن عباس) رضي الله عنه –في ما أخرجه البخاري- ببيان تعلّق اليوم الأول والثاني والخامس والسادس بالأرض.
  117. [الفرقان:2]
  118. [فُصِّلَت:11-12].
  119. العبارة غامضة، فربما قصد (ابن عباس) –رضي الله عنه- نهاية اليوم الثاني أو بداية اليوم الثالث.
  120. رواه البخاري (ح/4537).
  121. [الأنبياء:30].
  122. ابن كثير، تفسير القرآن العظيم، 5/339.
  123. الطبري، جامع البيان عن تأويل آي القرآن، تحقيق: عبد الله التركي، الرياض: دار هجر، 1422هـ/2001م، 16/256.
  124. G. Brent Dalrymple, “The age of the Earth in the twentieth century: a problem (mostly) solved”. Special Publications, Geological Society of London, 2001, 190 (1): 205–221.
  125. أوّل من ربط بين المعطى القرآني والمعطى العلمي بهذه الدقة -في حدود علمي- هو الدكتور (منصور محمد حسب النبي)، علمًا أنه لم يكن متأكدًا من دقة الكشوف الحديثة لعمر الكون، ويرى أنّ “معظم الدلائل العلمية تشير الآن إلى أنّ عمر الكون يتراوح بين 12 إلى 15 مليار سنة، كأرقام معروفة الآن لدى علماء الفيزياء الكونية.” (مقال إلكتروني: الزمن بين العلم والقرآن)، فكيف لو علم مطابقة النص القرآني لكشوف العلم بالدقة المعروفة اليوم؟!
  126. [الكهف:51].
  127. متفق عليه.
  128. متفق عليه.
  129. ابن حزم، الفصل في الملل والأهواء والنحل، بيروت: دار الكتب العلمية، 1999، 1/325-326
  130. ملحوظة: روى (الطبراني) –في “الكبير” و”الأوسط”- وغيره بإسنادهم عن (أبي توبة)، قال: حدثنا (معاوية بن سلام)، عن أخيه (زيد بن سلام)، قال: “سمعتُ (أبا سلام) قال: “سمعتُ (أبا أمامة) أن رجلًا قال: “يا رسول الله، أنبيّ كان (آدم)؟” قال: “نعم”، قال: “كم بينه وبين (نوح)؟” قال: “عشرة قرون”. قال: “كم بين (نوح) و(إبراهيم)؟” قال: “عشرة قرون”…الحديث.ويبدو أنّ الإمام (الطبراني) قد أعلّ هذا الحديث في “الأوسط” (405) بالتفرّد، إذ أخرجه في معجمه الأوسط الخاص بالأحاديث الأفراد -وهو بذلك كتاب علل-، وقال: “لا يروى هذا الحديث عن أبي أمامة إلا بهذا الإسناد، تفرّد به: معاوية بن سلام”. وهذا باب عظيم من أبواب تضعيف ما يرويه الثقات إذا تفرّدوا وكانوا من الطبقات المتأخرة (توفي معاوية بن سلام سنة 170هـ) [قال الإمام (ابن رجب) في وصف منهج أئمة الحديث المتقدمين: “وأما أكثر الحفاظ المتقدمين فإنهم يقولون في الحديث إذا تفرّد به واحد وإن لم يرو الثقات خلافه: إنه لا يتابع عليه، ويجعلون ذلك علّة فيه، اللهم إلا أن يكون ممن كثر حفظه واشتهرت عدالته وحديثه كالزهري ونحوه، وربما يستنكرون بعض تفرّدات الثقات الكبار أيضًا، ولهم في كل حديث نقد خاص، وليس عندهم لذلك ضابط يضبطه” (شرح علل الترمذي، 1/352) وهذا هو مذهب (يحيى القطان) و(ابن المديني) وغيرهما.. فأحاديث كبار الثقات قد تردّ لنكارة المتن، فكيف بمن دونهم؟!]، وهذا الراوي ممن اختلف أئمة الجرح والتعديل في توثيقه؛ فقد قال فيه (ابن معين): “صدوق الحديث” [الأصل أنّ مصطلح “صدوق” من مراتب الجرح عند (ابن معين)، ولكن لما نقل (الدارمي) عن (ابن معين) قوله فيه : “ثقة”، كان الجمع بين القولين أنه في أدنى مراتب الثقات، وربما-أيضًا- ظهر (لابن معين) في آخر قوليه –وهو الذي نرى أنه الذي نقله عنه (عباس بن الوليد الخلال)- أنه ضعيف؛ إذ ظهر له من حاله ما يدعو إلى تضعيفه، فقد كان من شأن (ابن معين) توثيق من ظهر له حسن حاله في أوّل الأمر، ثم هو بعد ذلك يضعّفه لما يبدو له بعد ذلك غير ذلك.]، بل لقد ضعفه “أبو حاتم الرازي” بقوله: “لا بأس بحديثه” أي لا يحتج به [هذا اصطلاح خاص (بأبي حاتم)، فقد قال مثلا (ابن أبي حاتم): “سألت أبي عن علي بن علي الرفاعي. قال: ليس بحديثه بأس. قلت : يحتج بحديثه؟ قال : لا” ( الجرح والتعديل 6 / 169 ). وقال أيضًا: في محمد بن سليمان بن الأصبهاني : “لا بأس به، يكتب حديثه، ولا يحتج به” ( الجرح والتعديل 7/ 267)] ، وقال فيه “يعقوب بن شيبة”: “ثقة صدوق”، وهو منه تضعيف له [هذا اصطلاح خاص (بيعقوب بن شيبة السدوسي)؛ فإنّه إذا قرن عبارة “ثقة” بما “دونها” كـ”صدوق”، كان ذاك منه تضعيفًا للراوي، فقد قال مثلًا في (محمد بن مسلم بن تدرس): “ثقة، صدوق، إلى الضعف ما هو” (تهذيب الكمال، 26/408)، وقال في (عبد الرحمن بن زياد بن أنعم): “ضعيف الحديث، وهو ثقة صدوق، رجل صالح” (تهذيب الكمال، 17/106)]. وقد قال الإمام (الذهبي) في تفرّد (الصدوق): “وإنَّ تفرّد الصدوق ومَن دونه يُعد منكرًا” (الذهبي، ميزان الاعتدال في نقد الرجال (بيروت: دار المعرفة، د.ت.)، 3/140-141).

    ثمّ إنّ الحديث من رواية (أبي سلام ممطور الحبشي)، وقد سمع من (كعب الأحبار) المكثر من رواية الإسرائيليات، وسماع (أبي سلام) عن (أبي أمامة) أنكره (أبو حاتم)؛ إذ قال في (المراسيل) (812) (لابن أبي حاتم): “ممطور أبو سلام الأعرج الحبشي الدمشقي روى عن ثوبان والنعمان ابن بشير وأبي أمامة وعمرو بن عبسة: مرسل”. ويُشكل على ذلك تصريح (أبو سلام) بالسماع هنا، فربّما كان نقل السماع وهمًا من الرواة، والحديث بذلك مرسل، أو هو من خبر (كعب الأحبار)، والإرسال هنا يحتاج إلى نظر على كلّ حال، خاصة أنّه –كما يقول (الذهبي) في “الكاشف” (5719) – عامة مرويات (أبي سلام) مرسلة!

    وأمّا متنًا، فالحديث مخالف –مفهومًا- لما ذكره (ابن حزم) من حديث مما هو في أعلى درجات الصحّة (في البخاري ومسلم)، ومخالف قبل ذلك لصريح القرآن في بيان كثرة الأمم بين (نوح) و(إبراهيم) عليهما السلام، كقوله تعال: {وَقَوْمَ نُوحٍ لَّمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْنَاهُمْ وَجَعَلْنَاهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً وَأَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ عَذَابًا أَلِيمًا وَعَادًا وَثَمُودَ وَأَصْحَابَ الرَّسِّ وَقُرُونًا بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيرًا}.[الفرقان:37-38]، فهل يصحّ أن يُقال بكثرة الأمم بين (نوح) و(إبراهيم) عليهما السلام، والعدد لا يتجاوز السبعة في أفضل حال، بعد حذف قوم (عاد) و(ثمود) و(أصحاب الرس)؟! فما القلّة في لغة العرب، إذا كانت هذه هي الكثرة؟! ورحم الله “الخطيب البغدادي” (توفي 463هـ) إذ قال: “ولا يُقبل خبر الواحد في منافاة حكم العقل، وحكم القرآن الثابت المحكم، والسنّة المعلومة… وكلّ دليل مقطوع به” (الخطيب البغدادي، الكفاية في علم الرواية، بيروت: دار الكتب العلمية، 1409هـ/1988م، ص432). فكيف بروايةِ المتأخّر -المختلَف في ضبطه- روايةً تخالف العقل والنقل بيقين!

    وقد صحّ –في المقابل- عن (ابن عبّاس) –الصحابي، رضي الله عنه- موقوفًا عند (الطبري) و(الحاكم) قوله: “كان بين نوح وآدم عشرة قرون، كلهم على شريعة من الحق”. ولم يرفعه –رضي الله عنه- إلى الرسول صلّى الله عليه وسلّم، وإنّما هو من قوله هو. وهذا من الأخبار المأخوذة عن أهل الكتاب (الإسرائيليات)؛ فإنّ (ابن عبّاس) رضي الله عنه كان –كما هو معلوم-كثير النقل عنهم. وقد جاء النص في التوراة، في الفصل الخامس من سفر التكوين، أنّ بين (آدم) و(نوح) –عليهما السلام- عشرة قرون. كما نصّ اليهود في “التلمود” (אבות‎ 5/2) على هذا العدد من الأجيال بين (آدم) و(نوح) عليهما السلام. وجاء النص في “التلمود” مباشرة بعد الموضع السابق ذكره منه (אבות‎ 5/3) أنّ بين (نوح) و(إبراهيم) –عليهما السلام- عشرة قرون، وهو أمر مستنبط من التوراة، سفر التكوين، الفصل 11/10-26، والمقصود “بالجيل” هنا هو المسافة بين عصر الآباء وعصر الأبناء الذين من أصلابهم. وذاك هو مصدر رواية (ابن عباس) بيقين، وإن كان قد أخذه مشافهة عن أهل الكتاب، أو –الراجح- مسلمة أهل الكتاب، فقد كان اليهود قديمًا يعتنون عناية بالغة بالأنساب المزعومة في التوراة.

© جميع الحقوق محفوظة لمبادرة البحث العلمي لمقارنة الأديان