إشكالات حول السؤال

___{بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّهْتَدُون}[الزُّخرُف:22]

يطرح سؤال الملاحدة: “… فمن خلق الله؟” مجموعةً من الإشكالات المضمرة أو الاعتراضات التي تنشأ مع مُضيّ الفريقين –الملاحدة والمؤلّهة- في إنشاء نقاش طويل تتفرّع عنه إشكالات مبدئية أو مسائل جانبية يظهرها الحفر النقدي. ولذلك علينا أن نكشف هذه المضمرات ونناقشها هنا حتى لا يزعم المخالف أنّ نقاشنا السابق لمشكلة أسبقيّة الخالق على الزمان قد أهملها عمدًا لأنّها تنقض تقريراتنا الكبرى، كما أنّ من هذه الإشكالات ما يمسّ الفساد الذاتي لشبهة الملحد بما يقتضي استحضارها أمام ناظرَيه. ولعلّ أهم الأسئلة التي تستدعي النظر هي:

  • هل وقع الملحد في “أغلوطة الفئة”؟
  • هل تورطّنا نحن –حقًا- في “أغلوطة التركيب”؟
  • هل يعجز العقل عن تصديق وجود من لا بدايةَ زمنية له؟
  • بماذا يَفْضُل جواب أوّليّة الله –سبحانه- دعوى أوّليّة المادة؟
  • هل يدلّ البرهان العلمي بذاته على وجود الله؟
  • كيف يخلق الله قبل ميلاد الزمن؟!
  • ماذا كان الله –سبحانه- يفعل قبل خلق العالم؟
  • ماذا لو فشل الدليل الكوسمولوجي عن الإجابة على السؤال؟

أغلوطة الفئة

يقع السؤال عن خالق الخالق ضمن الأغلوطات المنطقية، وتحديدًا ما يعرف بـ(أغلوطة الفئة) (The category fallacy)، وهي تتمثّل في خلط الفئات، بربط الشيء بغير فئته التي هو منها، كالسؤال عن لون الروائح (لون رائحة البنفسج!)، أو طعوم الألوان (طعم اللون البنيّ!).

مظهر المغالطة هنا هو السؤال عن الخالق الذي هو في تعريفٍ مجمل يفيدنا في هذا المقام: ” القائم بنفسه، الذي لا سبب لوجوده خارج ذاته”. إنّه سؤال عن سبب وجود مسبّب الوجود، وواجب الوجود، الذي وجوده حتم عقلًا. هو سؤال عمّن أوجد المكان والتاريخ، فكيف يكون له تاريخ؟! إنّ السؤال عن سبب السبب الأوّل متناقض في ذاته لأنّه يفترض إمكان مناقضة الشيء نفسه.

لسنا نثبت باعتراضنا على الملحد وقوعَه في (أغلوطة الفئة) أنّ الله موجود؛ فخطأ الملحد في فهم معنى (الألوهية الخالقة) لا يثبت بذاته وجود الله، ولا أنّ الخالق بلا بداية، وإنّما نحن نقرّر أنه إن وُجد الله فلا بد أن يكون بلا بداية. ونحن بذلك لا نفترض وجوده بدءًا، وإنّما ننكر على المنكر إنكاره حقيقة تعريف (الألوهية الخالقة) بفك التلازم بين الألوهية والأزليّة.

إنّ إنكارنا على الملاحدة هنا صياغتهم للاعتراض هو لبيان أنّهم لم يفهموا معنى “الإله” الذي ننتصر لوجوده، فإنّنا لا نخالف الملاحدة حاجة الإله إلى من يخلقه لو كنا نتبنى مذهب “الإله المخلوق” كما هي عقيدة بعض الأديان القديمة، وإنّما نحن نؤمن بخالق واجب الوجود، يلزم من عدمهِ الزَمني تناقض عقلي.

بعبارة أخرى، تعريفنا للإله أنه واجب الوجود وأنّ إرادته علّة لكلّ الموجودات، ليس اعتباطيًا؛ إذ صفة الواجبيّة هي التي تفسّر وجود الوجود ضمن سلسلة عليّة متناهية لها بداية؛ فالملاحدة لم يحسنوا فهم الدليل الكوسمولوجي، ولذلك اعترضوا عليه بأمر ليس هو من حقيقته، كمن يعترض على اللون الأحمر طعمَه، أو مفهوم الشكّ لونَه!

ثمّ إنّ الملاحدة يذهبون إلى أن المؤمنين بالله ينطلقون لإثبات وجود الخالق من دعوى أنه لا بد لكل شيء من خالق، ومادام الكون شيئًا فهو مخلوق، فهو محتاج إلى خالق، وهم بذلك (المؤمنون) يقعون في التناقض؛ إذ إنهم قد قرروا في ابتداء استدلالهم أنه لا بد لكل شيء من سبب، لكنّهم استثنوا الإله رغم أنه شيء أيضًا.

العرض الإلحادي للدليل الكوسمولوجي فيه تحريف واضح لاستدلال الألوهيين على وجود الله، إذ لا يزعم الألوهيون أن كلّ شيء لا بدّ له من محدث، وإنما هم يقولون إنّ كل شيء حادث لا بد له من محدِث، أو بعبارة أخرى: لكلّ أثر سبب. وبين دليل الألوهيين كما يجري على ألسنتهم، وصورته التي ينقلها عنهم كثير من الملاحدة فرق شاسع، إذ الألوهيون يقولون إنّ الحادث لا بد له من محدث، أي إنّ الأثر لا بد له من سبب، ولا يزعمون البتة أنّ كل شيء -لمجرد أنه شيء- يحتاج إلى محدث، فلكلّ سبب أثر، ولكلّ أثر سبب، ولكن ليس لكلّ سبب سبب، فالشيء قد يكون سببًا من جهة وأثرًا من جهة أخرى، كما قد يكون سببًا دون أن يكون أثرًا من جانب آخر (وقد يكون أثرًا دون أن ينتج عنه أثر). والظنّ أنّه لا بد لكل شيء (السبب والأثر على السواء) من سبب يعني أنّنا نعيش في كون غير عقلاني. وفي كون لاعقلاني لا يمكن أن نتعلّم شيئًا؛ لأنّ عقلانية الواقع شرط للتعلّم![1]

وقد انتقد الفيلسوف (إدوارد فزر) الصيغة الإلحادية للدليل الكوسمولوجي في شكلها المحرّف بقوله: “في الحقيقة، لم يقدم البتة أحد من المدافعين المشهورين عن الدليل الكوسمولوجي في تاريخ الفلسفةِ الحجّةَ الغبيّة: “لا بدّ لكلّ شيء من سبب”- لا (أفلاطون)، ولا (أرسطو)، ولا (الغزالي)، ولا (ابن ميمون)، ولا (توما الأكويني)، ولا (يوحنا دانز سكوتس)، ولا (ج. و. ليبنتس)، ولا (صموئيل كلارك)، ولا (رجينال غريغو-لاغرنج)، ولا (مرتمر أدلر)، ولا (ويليام لين كريغ)، ولا (ريتشارد سونبرن)، ولا أحد غيرهم في حدود علمي.” [2]وقد أصاب (فزر) الحقّ في تقريره؛ إذ إنّ علماء اليونان واليهود والنصارى والمسلمين الذين اعتمدوا الدليل الكوسمولوجي على اتّفاقٍ أنّ الغاية من ورائه هي إثبات وجود استثناء لقاعدة السببية أو قاعدة الإمكان.

وقد يسأل معترض:

لماذا نحن في حاجة أصلًا للبحث عن الكائن الأزلي أو المتعالي على الزمان؟

أليس في ذلك استدعاء عمدي غير موضوعي ولا علمي للإله؟

أليس في ذلك تحايل للوصول إلى المطلوب؟!

لماذا لا تطرحون مبدأ السببية إلّا للوصول إلى تقرير عقيدتكم، دون اطّراد؟ وهي التهمة التي استظهرها الفيلسوف (شوبنهاور) ضدّ خصومه من المدافعين عن الدليل الكوسمولوجي؛ إذ يرى أنهم يتعاملون مع مبدأ السببية “مثل استدعاء سيارة تاكسي؛ إذ إننا نهملها عندما نصل إلى مقصدنا.”[3]

والجواب على الاعتراض السابق هو بالقول:

  1. “مِن لا شيء، لا ينشأ شيء”، أي إنّ علمنا بوجود الكون يقتضي القول إنّه يحتاج إلى سبب لوجود أفراده، الآن، وكلّما سرنا القهقرى في حركة التاريخ نحو الماضي.
  2. لا يمكن لشيء أن يوجد في الكون، إذا سُبق الكون بالعدم المحض.
  3. لا يمكن لسلسلة العلل إلّا أن تتناهى في الماضي؛ إذ يقطع العقل أن لهذه العلل بداية؛ لأنه إن لم تكن لها بداية لم يكن لها وجود.

=الكائن الذي يفرض العقل علينا أن نسلّم أنه واجب الوجود، لا بدّ أن يكون بالضرورة العقلية متعاليًا على العلل المتناهية في الماضي.

وقد يكون الاعتراض الإلحادي متوجهًا فقط الى الدليل العلمي على خلق الزمان. والملحد هنا يقول: إنكم تعتمدون الدليل العلمي المادي للقول بخلق العالم، لكنكم تتنكرون للدليل المادي بعد ذلك لإثبات وجود الله!

يكمن فساد الاعتراض الأخير في ثلاثة أوجه:

  1. افتراض الملحد أنّ استعمال التعليل المادي في مسألة ما يقتضي أن يطّرد في جميع المسائل ليس بمسلّم لأنّه لا بدّ أن تتوافق طبيعة الدليل مع طبيعة الموضوع، فقد أوصلَنا البرهان المادي إلى أنّ للمادة بداية، ولذلك علينا أن نتعامل مع نشوء المادة من عدم خارج قوانين المادة لأنّه لم تكن مادةٌ أصلًا حتى يكون لقانونها وجود.
  2. يفترض الملحد أنّ الدليل العلمي هو الدليل الوحيد المقبول، وهي دعوى لا تسلّم له لأنّ الدليل العقلي له محلّ في هذا النقاش، بل له اليد العليا. واستدلالنا لوجود الله قائم على البرهان العقلي ثم تأكيده بالدليل العلمي من باب التثبيت لا الإنشاء.
  3. ينكر الملحد –ضمنًا- أن يكون فوق القوانين خالق خلقها، وذاك ظاهر من افتراضه أزليّتها، وهذا المبدأ ليس بمسلّم، بل هو محلّ نظر ومحاججة، فمن المسلّم به أنّ هذه القوانين ممكنة الوجود وليست واجبة الوجود، كما أنّ إثبات خلق الزمكان حجة لأنها حادثة، ثمّ إنّ طبيعة عملها كاشفة أنّ وراءها خالقًا مبدعًا.

وبإمكاننا التعبير عن مذهبنا بصيغة أخرى، بالقول: إنّ هناك تفسيرًا لوجود كل موجود، ونحن هنا نميّز بين الممكنات التي تفسير وجودها هو في سبب خارج عنها، وواجب الوجود الذي تفسير وجوده في ذاته، لأنّ وجوده متعيّن عقلًا، وافتراض عدم وجوده مُوقع في التناقض.

هل نحن نرتكب “أغلوطة التركيب”؟

(أغلوطة التركيب) (The fallacy of composition) هي أغلوطة تقوم على افتراض أنّ الشيء لا بدّ أن يوصف بصفة أفراده. وقد أشار عدد من الفلاسفة الذين يعترضون على الدليل الكوسمولوجي إلى أنّ هذا الدليل يقوم على مغالطة التركيب لأنّه يبني على القول إنّ كلّ شيء في الكون حادث أنّ الكون بأكمله مخلوق أي:

كلّ شيء في الكون له بداية=الكون بأكمله له بداية.

أيسر طريق للردّ على هذه الدعوى هو أن نسأل: هل يمثّل كلّ استدلال يقوم على نسبة صفات الأفراد للكلّ مغالطة منطقية؟ والجواب من خمسة أوجه:

الوجه الأول: صحيح أنّ الاستدلال بصفات الأجزاء على أنّ الكلّ يحمل نفس الصفة قد يخطئ أحيانًا، ومثال ذلك الاستدلال التالي:

  1. كلّ الطوب صغير.
  2. الجدار مبني من الطوب.
  3. إذن فالجدار صغير.

لكن الاستدلال بصفات الأفراد هو في عامة الأحوال صحيح، ومثال ذلك:

  1. كلّ الطوب أحمر.
  2. الجدار مبني من الطوب
  3. إذن فالجدار أحمر.

للتفريق بين الأمرين، نقول: إنّ الأصل في الكلّ أن يحمل صفات الأجزاء لأنّه ليس أكثر من مجموعها، وعلى المخالف أن يثبت صحّة الاستثناء لوجود قرينة على ذلك، كأن يؤول جَمع الأجزاء إلى اختفاء صفاتها الأولى (كالصغر أو الشفافية إذا وُضعت متقابلة..) لأنّ طبيعة الجمع حسابيًا أو فيزيائيًا… تؤول إلى فقدان الكلّ صفات الأجزاء، وفي غياب هذه القرينة التي يحمل المخالف عبء إثباتها يبقى الأصل أنّ الكلّ يحمل صفات أعضائه. ولا قرينة على أنّ أجزاء الكلّ المخلوقة تجعل المجموع واجب الوجود أو أزليًا.

الوجه الثاني: ليس في الكون غير عناصر ممكنة الوجود، وليس منها شيء يُلزم العقل أنه واجب الوجود أي يترتّب على عدمه محال، أي تناقض، وهو ما يؤكّد أنّ العالم المادي من جنس مثال الطوب الأحمر؛ إذ لا يؤدي اجتماع ممكنات إلى جعلها واجبة الوجود، فالممكن لا يتحوّل منطقيًا إلى أمر محال عدمه باجتماعه مع بعض.

ومما يُثبت ما نقول أنّ توقّف وجود كلّ العناصر ممكنة الوجود في الكون عن الوجود مرّة واحدة سيؤول مباشرة إلى اختفاء الكون، وليس واجب الوجود كذلك؛ إذ إنّ وجوب الشيء عقلًا لا يتأثّر باختفاء بعضه، بل هو لا يتجزّأ أصلًا.

يقول الفيلسوف (بروس ريكنباك): “إنّ مجموع (الكائنات الممكنة) (contingent beings) ليس إلّا مجموع أفراد الكائنات الممكنة؛ إنّه ليس شيئًا أكبر أو أقلّ من هذه الكائنات. كلّ واحد منها إذا وُجد من الممكن تصوّر عدم وجوده. ولكن ما الذي يمكن أن يقع إذا توقّفت كلّ هذه الكائنات عن الوجود في اللحظة التالية، وهي إمكانية قائمة إذ إنّ كلّ منها ممكن؟ بداهة، إذا وقع هذا الأمر فإنّ المجموع نفسه سيتوقّف عن الوجود؛ إذ إنه إذا كان المجموع هو حصيلة مجموع كلّ أجزائه، ولم تكن هناك أجزاء، فإنّه يلزم من ذلك استحالة أن يوجد المجموع، ولكن إذا كان هذا هو الحال فإنّه من اللائق جدًا تصوّر أنّه ليس بإمكان المجموع أن يوجد. وإذا كان بالإمكان تصوّر عدم وجود المجموع ، لزم من ذلك أيضًا أنّ المجموع ممكن أيضًا، وبالتالي إذا كانت كلّ أجزاء الشيء ممكنة، لزم أن يكون المجموع كذلك ممكنًا، وأمكن تصوّر عدم وجوده.” [4]

الوجه الثالث: الحكم على الشيء أنه ضروري الوجود نابع من حقيقة جوهره التي تمنع الحكم عليه أنّه مستحيل العدم، وليس في الكون شيء مما يدلّ على ذلك.

الوجه الرابع: الكون في حقيقته هو مجموع أسباب وآثار، ولما كان مجموع هذه الأسباب والآثار متناهيًا له حد في الزمن، لاستحالة أن تكون الأسباب والآثار لامتناهية، لزم عندها أن تحمل هذه السلسلة صفات أفرادها المتناهية، فتكون بذلك متناهية، وبالتالي مخلوقة، تعود إلى سبب أوّل خارج عنها.

الوجه الخامس: الكون مركّب من أجزاء، وكلّ مركّب ممكن الوجود؛ إذ إن تصوّر انفكاك تركيبه ممكن عقلًا، ووجوده مركبًا لا يفسّر نفسه، وبالتالي فوجوده غير ضروري.

مشكلة الأوّل الذي ليس قبله شيء

كتب (سام هاريس) (Sam Harris) -وهو أحد أعمدة (الإلحاد الجديد)، وإن كان جدله الأكبر في فائدة الدين كمكون قِيَمي وسياسي للمجتمع، مع عدوانية طافحة ضد الإسلام- في الاعتراض على الدليل الكوسمولوجي: “يطرح مفهوم الخالق بصورة مباشرة مشكلة التقهقر اللانهائي (infinite regress). إذا كان الكون قد خلقه الله، فمن خلق الله؟ القول إنّ الله بالضرورة (by definition) غير مخلوق، هو افتراضٌ غير مبرّر لصحّة ما يُطلب إثباته.”[5]

هل قولنا إنّ الله هو ضرورة الأوّل الذي لم يسبقه شيء مصادرة على المطلوب؟

يتّفق المسلمون وعامة الملحدين وبقيّة العقلاء على أنّه: “لا ينشأ شيء من لاشيء”. وبالنظر في الكون اليوم، علمنا أنّ الكون لا يمكن أن يكون أزليًا لأنه لا يحمل شروط الكائن الأزلي. ولو افترضنا أنه سُبق بكون آخر كان وانتهى، فسيكون ذاك الكون متناهيًا في النهاية، وبالتالي متناهيًا في البداية، ومن الممكن أن نستمر في تصوّر أكوان سابقة، ولكنها ستكون كلّها مخلوقة ضرورة لأنّ لها نهاية، وما كانت له نهاية فله بداية. ولا حلّ لهذا التسلسل إلّا بأن نفترض كائنًا أوّل لا بداية له، أي متعال على الزمان، إذ الزمان نفسه مخلوق، ومِن إرادة هذا الأوّل نشأ العالم. وهو الذي نسمّيه نحن: “الله” -سبحانه-.

قولنا إذن إنّ الله ضرورة لا أوّل له ليس مصادرة على المطلوب وإنّما هو إذعان للمطلوب عقلًا بتقرير أنّه إذا كان لا ينشأ شيء عن العدم المحض، كان علينا المسير إلى القول بوجود كائن لا أوّل له. للملحد أن يقول إنّ المادة هي هذا الأوّل، وللمسلم أن يخالفه بالقول إنّ الأوّل هو الله، ولكن على كلّ منهما أن يستظهر بيّنته. ولذلك يقول الفيلسوف (أوستن فرار) (Austin Farrer) في تحديد محلّ النزاع: “ليس الإشكال بين الملحد والمؤمن حول شرعية التساؤل عن الحقيقة النهائية، وإنّما حول سؤال: “ما هي الحقيقة التي تعتبر نهائية؟”. الحقيقة النهائية للملحد هي الكون، والحقيقة النهائية للمؤلّه هي الله”.[6]

الضرورة العقليّة قائمة على وجوب الاعتقاد في وجود من/ما لا زمن قبله، والفيصل في الخيارات المطروحة لا ينفي وجود الأوّل غير المسبوق بعدم وإنما يحدّد هويته. فلا مفرّ إذن من القول بمن لا سبب لوجوده، ومن لا زمن يسبقه.

لا ريب أنّ العقل البشري لا يستطيع أن “يتصوّر” كائنًا لا أوّل له، لكن علينا هنا أن نميّز بين “التصوّر” و”التعقّل”؛ فالتصوّر هو أن تنشئ للشيء صورة في الذهن، في حين أنّ التعقّل هو أن تقبل أنّ هذا الشيء موافق للعقل أو لا يخالف ضرورات العقل.

العقل البشري إذن لا يتصوّر وجود كائن لا أوّل له؛ وذلك لأنّ تصوّره محدود بالزمن؛ فهو كلّما تصوّر كائنًا تصوّر له بداية. ويقابل هذا العجز تصوّرٌ آخر للعقل، وهو أنّ كلّ لحظة مسبوقة بلحظة سابقة، في سلسلة ممتدة إلى ما لانهاية، ولذلك يَكلّ العقل عن تصوّر لحظة غير مسبوقة.

النتيجة: العقل يحمل تصوّرين متعارضين. الأوّل ينفي الثاني والثاني ينفي الأوّل. وهي حقيقة تؤكّد عجز “التصوّر” العقلي عن معالجة مشكلة الزمن؛ لأنّ العقل محدود بالزمن؛ فهو يفكّر ضمن آليات الواقع البشري المعيش: “الآن”، و”القَبْل” و”البعد”. وهو ما اعترف به الفيلسوف الملحد (برتراند راسل) في قوله: “فكرة أنّه لا بدّ أن تكون للأشياء بداية تعود في الحقيقة إلى فقر خيالنا (imagination)”،[7] رغم أنه من أهم المحتجين بشبهة “… فمن خلق الله؟”.

كيف نتجاوز هذا الإشكال؟

لا بدّ أن نرجع إلى “تعقّل” العقل لا “تصوّر” العقل؛ لأنّ التصوّر محدود بالبيئة والمألوف، في حين أنّ التعقّل قائم على مجموع قواعد مجرّدة. فالقضية إذن ليست عدم التصوّر الشخصي (subjective inconceivability)، وإنما هي عدم المعقولية الموضوعية (objective irrationality) أي عدم تناسق المفهوم منطقيًا. وفي هذا يقول (أبو حامد الغزالي): “… وهذا كله لعجز الوهم عن فهم وجود مبتدأ إلا مع تقدير ” قبل” له، وذلك ” القبل” الذي لا ينفك الوهم عنه، نظن أنه شيء محقق موجود هو الزمان، وهو كعجز الوهم عن أن يقدر تناهي الأجسام فيما يلي الرأس إلا على سطح له فوق، فيتوهم أنّ وراء العالم مكانًا، إما ملاء وإما خلاء. وإذا قيل: ليس فوق سطح العالم فوق ولا بعد أبعد منه، كاع الوهم عن الإذعان لقبوله، كما إذا قيل: ليس قبل وجود العالم “قبل” هو وجود محقق، نفر الوهم أيضًا عن قبوله.”[8]

ونبّه (بول ديفيس) على قصور التصوّر الذهني، وجنايته على العقل عند طرق باب التصوّرات الكونيّة الكبرى، قائلًا: “فشل الخيال البشري في فهم بعض الميزات الهامة للواقع، هو تنبيه لنا أنّه لا يمكن أن نتوقّع تأسيس الحقائق الدينية الكبرى على تصوّرات ساذجة عن المكان والزمان والمادة مستمدة من التجربة اليومية”.[9]

إنّ من مبادئ التعقّل أنّه لا يستقيم أن يوجد الشيء دون موجد له، فإنّ هذا الموجد إما أن يكون:

  1. خارج الشيء.
  2. أو الشيء ذاته.
  3. أو لا وجود لموجِد.

قال تعالى: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُون}.[10]

الاحتمال الثاني مرفوض بداهة لأنّه يقتضي أن يوجد الشيء قبل ذاته ليوجِد ذاته، فلو افترضنا أنّ (أ) خلق نفسه على الساعة السادسة، فإنّ ذلك يعني أنّ (أ) قد وُجد قبل الساعة السادسة ليوجد نفسه عند الساعة السادسة. وهذا من المحالات العقليّة. والاحتمال الثالث أوضح منه بطلانًا؛ إذ إنّ خروج الشيء من العدم إلى الوجود دون سبب يناقض بداهة قانون السببيّة.

النتيجة: لا بدّ من أن يكون هناك شيء موجود بلا بداية. ويبقى الجدل عندها محصورًا في معرفة هذا “الأوّل”. ولا نجد غير احتمالين: الله -سبحانه- أو المادة؟

  • يقول الملاحدة إنّ المادة هي هذا الأوّل.
  • ويقول المسلمون إنّ الأوّل هو الله –سبحانه-.

النتيجة: اتّفق المسلمون والملاحدة على وجود من لا أوّل له.

سؤال: هل من الممكن أن يتصوّر عقل الملحد هذه المادة التي لا أوّل لها؟

الجواب: لا يستطيع عقل الملحد تصوّر المادة الأزليّة، مثلما أنّه عاجز عن تصوّر الإله الأزلي.

النتيجة الكبرى: سقط سبب استنكار الملحد رفض أزليّة الإله؛ لأنّه لا حلّ له غير القول بأزليّة المادة؛ ولما كان سبب إنكار أزليّة الله (العجز عن التصوّر) قائمًا عند تصوّر أزليّة المادة؛ سقط الاعتراض؛ لأنّ الاعتراض على تصوّر أزليّة الإله هو نفسه قائم عند محاولة تصوّر أزليّة المادة.

هذا الوجه من الرد كاف في دحض الشبهة، مع إضافة أنّ هذا العجز عن التصوّر بالنسبة للمؤلهة لم يعد مشكلة اليوم في ظل تطور علوم الفيزياء الكونية التي قدّمت تصورًا نموذجيًا لزمان ومكان مخلوقين.

الأوّل.. الله أم المادة؟

كتب (دافيد هيوم) مستنكرًا: “لماذا لا يكون الكون المادي هو الكائن واجب الوجود، طبقًا لهذا التفسير المدّعى للوجوب”.[11]

صحيح أنّه لا يلزم من القول بوجود الله أنّ المادة ليست أزلية، وهذا مذهب عامة الفلاسفة اليونان وكثير من الأديان الشائعة قديمًا، إلا أن القول إنّ المادة حادثة وإنّ الكون غير أزلي يلزم منه الإيمان بخالق تسبب في وجودها. والسبب في أنّ حدوث الكون يلزم منه وجود إله هو أن إخراج الكون من العدم وتنظيمه بهذه الصورة الهائلة والبديعة والتي تأخذ بالأنفاس لا بد له من سبب يملك الصفات التي ينسبها إليه الإسلام، والمسمى “الله”.

ومن بواقع (الإلحاد الجديد) تسليم أحد مفوّهي فرسانه -(دانيال دانيت) (Daniel Dennett)- في مناظرة مع (دسّوزا) (D’Souza) –سنة 2007م- تحت عنوان “هل “الله” اختراع بشري؟” أنّ الكون مخلوق له بداية، غير أنّه قال إنّ الكون قد أوجد نفسه بنفسه، ولا إشكال في ذلك لأننا إن سلمنا أنّ الله هو خالق الكون، فعلينا أيضًا أن نعتقد أنه قد خلق نفسه بنفسه.[12] وهذا ضرب فاضح من التخليط؛ إذ إنّ الشيء لا يمكن أن يوجد نفسه وهو معدوم؛ ولذلك لا يملك الكون ملكة خلق ذاته لامتناع وجود هذه الملكة عقلًا، كما أنّ الإله لا يملك هو أيضًا خلق نفسه لامتناع ذلك عقلًا، غير أنّنا نحن -أهل الإسلام- لا نؤمن بإله مخلوق يحتاج إلى من يُبدئه، وإنما نقول إنّ الوجود –مهما كان نوعه- يقتضي أن يكون قد بدأ بموجود، فوجود الكون أو أيّ شيء لا يمكن أن يكون قد بدأ بقصة ينصّ فصلها الأوّل أنّ العدم كان في البدء، وأنّ الوجود قد أوجد نفسه في الفصل الثاني، وإنّما لا بدّ من الإقرار أنّ وجودًا مستغنيًا عن الحاجة إلى موجِدٍ قد كان في البدء؛ إذ إنّ العدم لا ينشئ شيئًا كما أنّ الشيء لا يخلق ذاته.

لقد أقرّ عامة رؤوس الملاحدة أنّ نفي أزليّة المادة وثبوت حدوثها يؤول مباشرة إلى وجوب القول بوجود خالق أخرج هذه المادة من العدم إلى حيّز الوجود، ولذلك قاوموا بشراسة كلّ استدلال للمسير إلى الاعتراف أنّ الكون -بمادته وطاقته وزمانه- له لحظة ميلاد.

لم يتوقع الملاحدة أن بداية القرن العشرين تحمل لهم “بشارة” غير سارة تجعل إقرارهم بأنّ “لاأزليّة الكون حجّة لوجود الله”، حقيقة قائمة، لا مجرّد افتراض جدليّ لملاججة المؤمنين. وقد اجتمعت بذلك البراهين من أكثر من صوب لتؤكّد حاجة الكون إلى صانع حكيم. يقول فيلسوف العلماء (بروس غوردن) (Bruce Gordon): “عندما يثبت تعاضد كلّ من الضرورة المنطقيّة والميتافزيقية لسبب فعّال، والغياب المثبت لسبب مادي، وقيام الدليل على وجود بداية مطلقة لأي كون أو أكوان، مع حقيقة أنّ كوننا موجود وأنه دقيق الضبط (في أشيائه وقوانينه) بصورة غير متناهية فوق طاقة أيّة عمليّة غير عاقلة، عندها يشير البرهان العلمي بصورة حاسمة نحو كائن متعال ذكيّ كأرجح تفسير، إن لم يكن هو التفسير الوحيد المعقول”.[13]

إنّ المادة التي يحكم العقل الإلحادي لها بالأزليّة تمتلك في ذهن الملحد أربع خصائص أساسيّة، وهي القدرة على أن توجد نفسها من عدم، والقدرة على أن تنظم نفسها بطريقة ذكية، والقدرة عل التآلف مع بقية أجزاء العالم، وأخيرًا معرفة النهايات الذكية لنفسها.

يمتنع على العقل المذعن للبداهة أن يقرّ في المقابل للمادة الحادثة العمياء بالقدرة على أن تصنع المعجزات بأن تخرج من العدم بنفسها، وأن تجتهد وتنجح في تصميم نفسها على صورة معقولة مثيرة للإعجاب، بل ولا حتى مفهومة.

ناقشنا سابقًا دعوى المادة التي تخلق نفسها من عدم، وأنها فاسدة منطقيًا، وأن القول بهذه الدعوى يقود إلى إشكالات أكبر من مشكلة خلق العالم من عدم. ونحتاج أن ننظر الآن في دعوى المادة الذكية.

الحديث عن المادة الذكية يلزم منه قبلًا أن نعرّف الذكاء. وللذكاء تعريفات عديدة تبعًا للتخصّص العلمي للمعرّفين ولمجال اهتمام الباحث في شأن مجموع الذكاء بآلياته وأسبابه وآثاره، ولذلك سنختار تعريفًا واحدًا يقودنا إلى قلب مفهوم الذكاء. يقول عالم النفس الأمريكي الشهير (دافيد واكزلر) (David Wechsler): “تشير كلّ تعريفات الذكاء أساسًا إلى القدرة على التعلّم والتكيّف مع الظروف الجديدة… فهو القدرة على اكتساب المعرفة والقدرة على التعامل مع التجربة بطريق ناجحة”.[14] أين المادة من هذا الذكاء؟! أين هي من التعلّم؟! والتكيّف القصدي الغائي؟! إنها كيان أعمى وأصمّ! لا حلّ لهذه الاستحالة الذاتية إلّا بافتراض عامل خارجي يتمتّع بالحكمة، أو ما يسمّيه الفلاسفة وعلماء الطبيعة “الذكاء”، ولا حلّ إذن إلّا من خارج عالم المادة، لأنّ المادة في أفرادها ومجموعها عاجزة عن أن تفسّر ذكاءها، وهنا ننتهي إلى من نسمّيه نحن المؤلّهة “بالله”، الحكيم، غير المادي، الذي ليس كمثله شيء!

إنّ هذه الحكمة بادية منذ اللحظة الأولى لنشأة الكون. وقد عرض عالم الرياضيات والفيزياء (روجر بنروز) نظرة علمية لاحتمال وجود الكون على صيغته الأولى: “ما التقدير العشوائي لاحتمالية أن يكون الكون قد اتخذ في بداياته شكل المفردة، حتى وإن كانت احتمالية ضعيفة كما هي الحال بالفعل؟ تُقدّر هذه الاحتمالية بأقل من جزء واحد من 123 (1010). كيف أمكن التوصل لهذا التقدير؟ من خلال صيغة رياضية وضعها (جاكوب بكنشتاين) و(ستيفن هاوكنغ) تتعلق بالقصور الحراري للثقب الأسود. إذا طبقنا هذه الصيغة الرياضية على هذا السياق، فإننا سنحصل على الإجابة الهائلة التي تقول إن الأمر برمته يعتمد على حجم الكون. وإذا وضعنا حال الكون الذي أفضله شخصيّا في الاعتبار، فإنّ التقدير الرقمي للاحتمالية، في الواقع، سيبلغ ما لانهاية.

ماذا يوضّح ذلك عن الدقة المتضمنة في عملية (الانفجار العظيم) دون أدنى شك؟ إنها دقة متناهية للغايةوإذا كان من المستطاع وضع صفر واحد بجانب كل جسيم أولي في الكون، فسأظل لا أستطيع كتابة العدد بالكامل، إذ إنّه عدد مذهل”.[15]

باختصار، المنطق الرياضي قاض أنّ احتمال نشوء الكون على صورته المعروفة، يعادل الصفر الرياضي؛ إذ إنّ عدد الأصفار المتراكمة يمين الرقم 1 في هذه النسبة الاحتمالية لنشأة الكون على صيغته المنظمة الأولى أكبرُ من عدد ذرات الكون كلّه، بل أكبر من عدد مكونَي الذرة: البروتونات والنيوترونات. وحديثي هنا هو عن الأصفار الموجودة في النسبة الاحتمالية المكتوبة وليس عن حجم الرقم نفسه، فتدبّر!

وإذا وَرَدْنا عالَم الأحياء، فالأمر أيضًا لا تتحمّله البداهة البشرية؛ فقد درس الدارويني (روبرت شبيرو) (Robert Shapiro) -أستاذ الكيمياء والمتخصص في الحمض النووي (DNA) في جامعة نيويورك- احتمال نشوء بكتيريا واحدة بسيطة (جسم الإنسان يضم مئتي ألف نوع بكتيريا) بالصدفة. النسبة الاحتمالية كانت (1040.000)؛ أي رقم واحد وعلى يمينه أربعين ألف صفرًا، وهو أمر لا نظير له في الكون![16] وقد علّق (شندرا وكراماسنغ) (Chandra Wickramasinghe) -عالم الرياضيات التطبيقية والفلك- على هذه النسبة الاحتمالية المفاجئة بقوله إنّ هذا الرقم “هائل بصورة كافية ليدفن (دارون) وكامل نظرية التطوّر… إذا لم تكن بدايات الحياة عشوائيةً فإنّ ذلك يدلّ لزومًا أنّها نتيجة ذكاء هادف.”[17]

وقد أحسن (كارل شترن) (Karl Stern) -المحلل النفسي المشهور الذي ترك الإلحاد- القول في التصوّر الإلحادي لنشأة الحياة على الكون من تفاعلات مادية صمّاء على مدى أطوار متعاقبة: “الإيمان أنّ عالمنا المدهش من الممكن أن يكون قد تطوّر بالصدفة العمياء هو جنون. وأنا لا أقصد البتّة الجنون بالمعنى الشتائمي، وإنما بالمعنى العلمي للاضطراب العقلي. حقيقة، في مثل هذه الرؤية تشابهٌ كبير مع بعض خصائص التفكير الشيزوفريني (الفصامي).”[18]

عندما تفشل المادة في إثبات أزليّتها وحكمتها، لا يبقى للملحد مفرّ من الله –سبحانه- إلّا إليه.

العلم والغيب

قد يصرّ المعترض على القول إنّ فشل المادة في امتحان الأزليّة وثبوت أنّها مخلوقة يجب ألا يؤولا إلى الإقرار أنّ الله –سبحانه- هو الخالق، لأنّ إثبات وجود الذات الإلهية لم يثبت، ولا يثبت، ولن يثبت بالدليل العلمي المباشر.

هذا الاعتراض فاسد من وجوه، ومنها:

  • قائل هذا الكلام ينتسب إلى مذهب (العلموية) (scientism) الذي يرى العلم الطريق الوحيد لإثبات الحقائق أو يكاد، وهو مذهب فاسد في أصل مبدئه لأنّه يقرّر مبدأ لا يمكنه أن يُدلّل عليه من خلال آلياته، أيّ إنّه يقرّر أنّ العلم المادي هو الطريق الوحيد للمعرفة، في حين أنّه لم يقدّم دليلًا علميًا واحدًا على صحّة هذه الدعوى، بل إنّ هذه الدعوى لا يمكن إثباتها بالدليل العلمي. والعلم نفسه مدين للمقررات العقلية البدهية التي توفّر له أساسيات العلم النظري والعمل التجريبي، وهذه المقررات تسبق العلم المادي ولا تعقبه، ومن ذلك الرياضيات.[19]
  • قد أثبت الدليل العقلي وجود الأوّل بالغ القدرة والحكمة، ولا دليل من العلم على نقض هذا التقرير.
  • نحن نوافق المخالف في أنّ الدليل العلمي لا يثبت وجود الله، ولكن لسبب غير ما يظنّه؛ إذ إننا نقول إنّ العلم لا يثبت وجود غير المادة والطاقة وقوانينهما؛ فهو في عمله المباشر لا يتعامل إلا مع المادة والطاقة، أي القياس والوزن والحس… والله سبحانه غير ذلك، وفوق ذلك، وبالتالي فمن غير الصواب القول إنّ العلم المادي بإمكانه أن يثبت أو ينفي وجود الله، وإنّما الصواب هو أنّ العلم بإمكانه أن يمنحنا مقدمات جيّدة في بناء استنباط عقلي دال على وجود الله، مثل:

أ-لا ينشأ شيء من لا شيء.

ب-الكون نشأ بعد ألم يكن=الشهادة العلمية.

ت-الكون نشأ من شيء غير مادي لأنّ الكون هو كلّ المادة.

ث-خالق الكون هو ذات قديرة أنشأت الكون من العدم، وبديعة أحسنت تنظيمه وترتيبه.

ج-الله هو خالق الكون لأنه من تنطبق عليه جميع أوصاف خالق الكون.

العلم المادي لا يدلّ بنفسه على وجود الله، وإنما يستدلّ العقل بحقائقه في برهان فلسفي على وجود الله.

كيف يخلق الله قبل الزمن؟!

طرح بعض الملاحدة إشكالًا على خلق الله للكون، ومفاده أنّ هذا القول غير معقول لأنّ الزمن قد بدأ مع خلق الكون، فكيف يخلق الله الكون في الزمن رغم أنّ الزمن لم يوجد بعد؛ إذ لا يوجد “قبل” الخلق قبلٌ؟

لا يرى علماء أصول الدين في هذا الاعتراض حجّة للملحد لأنّهم لا يقولون بالتقدّم الزمني للسبب عن أثره، فهم يؤمنون بـ(السببية المتزامنة) (simultaneous causation) ، أي إنّ فعل الخلق متزامن مع وجود المخلوق، فقد خلق الله الزمن والكون مع لحظة وجودهما، دون تقدّم فعل الخلق عليهما، ولا يلزم من (السببية المتقدمةِ) (causal priority) (الزمنية المتقدمة) (temporal priority)، أي إنّ وجوب وجود السبب قبل أثره لا يلزم منه نفي تزامن الفعل وأثره. فـ(الانفجار العظيم) -أو أي نموذج آخر لبداية الخلق- قد خلقه الله عند إخراجه من الليس إلى الأيس، وليس قبل ذلك.

وقد قال الفيلسوف (عمانويل كانط) (Immanuel Kant) في الطبيعة الزمنية للأسباب: “الجزء الأكبر من الأسباب الفاعلة في الطبيعة متزامن مع آثاره، وليس تتالي السبب والأثر إلّا من باب أنّ السبب لا يعطي كلّ أثره في لحظة واحدة، ولكن عندما يبدأ الأثر في النشوء، يكون دائمًا معاصرًا لسببيّة سببه؛ إذ إنه لو توقّف هذا السبب عن الوجود للحظة قبلًا، لما وُجد الأثر ذاته.”[20]

لقد خُلِق العالم بالتزامن مع أمر الله له بالوجود، وهو من مألوف علاقة السبب بمسببه في حياتنا اليومية، وهي علاقة التزامن اللحظي، دون حاجة لأن يسبق السبب أثره زمنًا.

ماذا كان الله يفعل قبل خلق العالم؟

من الأسئلة المألوفة الاعتراض بالقول:”إذا كان الكون مخلوقًا له بداية، فماذا كان الله يفعل قبل خلقه؟”. ويزيد الملاحدة على ذلك اعتراضًا آخر، وهو: “إذا كان الله أزليًا، وكان الكون مخلوقًا، فلِمَ اختار الله زمانًا دون غيره للخلق؟ ألا تستوي الأزمنة كلّها في الزمن الأزلي؟”.

جواب الاعتراضين السابقين قد عرضناه في حديثنا السابق عن أنّ الله –سبحانه- ليس موجودًا في زمان، وإنّما هو –سبحانه- متعال على الزمان؛ إذ هو مُزَمِّنه، فقد خلق الكون المادي، وخلق بخلقه الزمان، فالمادة والزمان متساوقان وجودًا وعدمًا؛ إذ الزمان لا وجود له في ذاته وإنما هو عَرَض للكون المادي المتغيّر. وإذا كان الزمان مخلوقًا، والزمان هو الذي يقبل “القبل” و”البعد”، فلا معنى للحديث عن فعل الله “قبل” الزمان؛ لأنه لا “قبل” قبل “البدء”، فالله متقدّم على الزمكان بالذات لا بالزمان. وهذا الكلام يصدق على القول إنّ عالمنا هو أوّل العوالم أو أنّه مسبوق بعالم زمني آخر[21] أو أكثر من عالم متناه العدد؛ فالزمن أو الأزمنة كلّها لا بد أن تنتهي إلى بداية أولى ليس قبلها زمان.[22]

الاعتراض الإلحادي الذي لا ينهي النقاش

يعتقد الكثير من الملاحدة أنّه إذا فشل الدليل الكوسمولوجي في إثبات أنّ الزمان غير أزلي، فذاك يعني أنّه لا يمكن الإجابة عن سؤال: “… فمن خلق الله؟”، وبالتالي يصبح الإيمان بلا مبرّر. وهي الدعوى التي قام عليها كتاب “وهم الإله” لـ(ريتشارد داوكنز) .

والجواب على هذه الدعوى من أوجه:

أولا: للدليل الكوسمولوجي أكثر من صيغة، ومن صيغه ما يُعرف بدليل الإمكان، وهي صيغة لا تقوم على دعوى إثبات حدوث الكون بزمانه، بل ولا تتعارض حتى مع أزلية الزمان، وهي مع ذلك طريق لإثبات وجود الله من خلال إثبات أنّ وجوده واجب عقلًا.

الثاني: الدليل الكوسمولوجي هو أحد أدلّة وجود الله، فحتى لو عجز المؤلّهة أن يجيبوا عن سؤال: “… فمن خلق الله؟”، فإنّ غاية الأمر أن تسقط حجتهم لوجود الله من خلال الدليل الكوسمولوجي في صيغته المسماة “دليل الحدوث”. ولهم مع ذلك أدلّة أخرى كثيرة تثبت وجود الله، كدليل تصميم الكون للحياة، وتصميم الكائنات الحيّة، وهداية الكائنات -والمعروف بالغريزة-، والدليل الأخلاقي، ودليل الوعي، ودليل معقولية الكون، ودليل الجمال، ودليل القرآن ومعجزات الرسول صلى الله عليه وسلّم…

الثالث: افتراض غياب كلّ دليل لوجود الله ليس حجة لنفي وجود الله؛ فإنّ غياب الدليل ليس حجّة لغياب المدلول، وقد آمن كثير من الفلاسفة في القرون الأخيرة بالله، مع تقريرهم غياب برهان على ذلك (وإن كنّا نعتقد فساد إنكارهم للأدلة الإيجابية على وجود الله).

  1. R. C. Sproul, Not a Chance: The myth of chance in modern science and cosmology. pp.170-171.
  2. Edward Feser , ‘The New Philistinism’ in the American magazine <http://www.american.com/archive/2010/march/the-new-philistinism>.
  3. Arthur Schopenhauer, On the Fourfold Root of the Principle of Sufficient Reason and on the Will in Nature, trans. Karl Hillebrand (London: G. Bell, 1889), pp. 42-43.
  4. Bruce R. Reichenbach, The Cosmological Argument: A Reassessment, p.102
  5. Sam Harris, Letter to a Christian Nation (New York: Knopf, 2006), p.73.
  6. Austin Farrer, A Science of God (London, Geoffrey Bles: 1966(, pp. 33-34.
  7. Bertrand Russell, Why I Am Not a Christian, p.7
  8. أبو حامد الغزالي، تهافت الفلاسفة، تحقيق: سليمان دنيا (القاهرة: دار المعارف، د.ت.، ط8)، ص11-112.
  9. Paul Davies, God and the New Physics, pp.18-19.
  10. [الطور:35]
  11. David Hume, Dialogues concerning Natural Religion, (Indianapolis: Bobbs-Merrill. 1947), p. 190.
  12. رابط المناظرة:< https://www.youtube.com/watch?v=T6BvpDmj-ZQ>.
  13. Bruce Gordon, Inflationary Cosmology and the String Multiverse in New Proofs for the Existence of God: Contributions of Contemporary Physics and Philosophy, Robert J. Spitzer, (Grand Rapids: Eerdmans Publishing, 2010). p.103
  14. Israel S. Wechsler, A Textbook of Clinical Neurology (Philadelphia: W. B. Saunders Co., 1927), p.105
  15. روجر بنروز، فيزياء العقل البشري والعالم من منظورين (تعريب: عنان الشهاوي، أبو ظبي: كلمة، 2011م، ط2)، ص66-67
  16. Robert Shapiro, Origins: A Sceptic’s Guide to the Creation of Life on Earth (New York, Summit Books, 1986), p.127
  17. Fred Hoyle and Chandra Wickramasinghe, Evolution from Space (New York: Simon & Schuster, 1984), p.148
  18. K. Stern, The Flight from Woman (New York: Straus and Giroux, 1965), p. 290
  19. انظر في نقد العلموية Keith Ward, The Big Questions in Science and Religion (West Conshohocken, Pa.: Templeton Foundation Press, 2008), pp.134ff.
  20. Immanuel Kant, Critique de la Raison Pure, tr. Jules Barni (Paris: Germer- bailliere, 1869), 1/262
  21. جاء في الحديث أن الرسول صلى الله عليه وسلّم قال: ” كان الله ولم يكن شيء غيره، وكان عرشه على الماء، وكتب في الذكر كل شيء، وخلق السموات والأرض.” (رواه البخاري). ومعنى الخلق في اللغة يدلّ على الإيجاد من عدم، أو تهيئة الصورة من مادة سابقة، فعلى القول بمعنى التصوير، لا يلزم من الحديث وجود كون قبل كوننا، وإنّما حصل الخلق أي التصوير بعد وجود مادة الكون، وعلى القول بالإيجاد من عدم، يثبت (إذا ضُمّ إلى هذا الحديث حديث القلم: ” كَتَبَ اللَّهُ مَقَادِيرَ الْخَلَائِقِ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِخَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ، قَالَ: وَعَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ” (رواه مسلم)) وجود كون واحد فقط قبل كوننا، فيه عرش الرحمن على الماء، والعرش والماء والقلم وجدوا بعد عدم. وقد نقل الإمام (ابن حزم) الإجماع على مخلوقية كلّ شيء، فقد قال في كتابه “مراتب الإجماع” (ص167): “اتفقوا أن الله وحده لا شريك له ، خالق كل شيء غيره ، وأنه تعالى لم يزل وحده ، ولا شيء غيرُه معه ، ثم خلق الأشياء كلَّها كما شاء، وأن النفس مخلوقة، والعرش مخلوق، والعالم كله مخلوق”. وقد كان الإمام (ابن حزم) المتوفى سنة 456هـ، واسع المعرفة بالإجماعات، كما أنّه كان شديد الاهتمام بمسألة خلق العالم، وله في ذلك مناظرات مع الملاحدة والفلاسفة في الأندلس، بما يجعل نسبة الوهم إليه في نقل الإجماع في هذه المسألة العظيمة مما يُردّ بيقين لا يخالطه ريب.
  22. يذهب بعض النصارى -ومنهم (ويليام لين كريغ)- إلى تفوّق (التوحيد) النصراني على التوحيد الإسلامي في تفسير حال الله –سبحانه- “قبل” الخلق، فقد كان (الربّ) –بزعمهم-يعيش في جو أسري ماتع مع ثالوثه (الآب والابن والروح القدس)، على خلاف (الربّ) الأحد المستوحش في الإسلام! وذاك من تأرجحات النصارى إذا حدثونا عن (توحيدهم) العجيب، فإنّهم يخبروننا عن واحدية الخالق لدلالة العقل على لزوم القول بالتوحيد، ولهم في ذلك براهين فلسفية يشاركهم فيها المسلمون، غير أنّهم يسفرون عن شركهم إذا وجدوا إلى ذلك سبيلًا، كما هو الحال عند الحديث عن ما “قبل” القبل.وبعيدًا عن تعدد الآلهة الواضح في الحديث عن حال الاهتياج العاطفي بين الآب وابنه وروحه “قبل الخلق”، يبدو معنى هذه العلاقة الرومانسية الأزلية محض توهّم وظن بلا برهان، بل الانتصار لهذا الوهم قائم على أنسنة هذا الإله الذي يخشى عليه (كريغ) من الملل والضجر قبل خلق الزمان، فلو خلا الوجود إلا منه، فستتكدّر ساعاته ويضيق صدره من الوحشة، ولذلك وجد في تشتت نفسه إلى ثالوث، ما يملأ وقته بتفكّر بعضه في بعضه، وغرام بعضه ببعضه، وبذلك لا يملّ بعضه من بعضه! ولست أرى في تصوّر (كريغ) للإله الحقّ شيئًا يفارق تصوّر الوثنيين لإلههم، إذ ملؤوا صدره بمشاعر الحدة والكدر والعجز، فهم يخترعون له وظائف تملأ أوقاته الباردة، فحياته قبل خلق البشر صراعٌ مع الآلهة، وبعد خلق البشر صراع مع البشر! وصدق سبحانه إذ قال: {مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيز}[الحج:74].

© جميع الحقوق محفوظة لمبادرة البحث العلمي لمقارنة الأديان