من هو مبدئ العالم؟

{أَمْ جَعَلُواْ لِلّهِ شُرَكَاء خَلَقُواْ كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْء}[الرعد:16]___

لم ييأس الملاحدة من محاولة إفساد الدليل الكوسمولوجي بعد فشل اعتراضاتهم الفلسفية والعلمية، فعمدوا إلى التشكيك في دلالاته بعد أن شكّكوا في صوابه، فقالوا إنّه لا يجدي في إثبات وجود الله، ولذلك فهو لا يجيب على سؤال: “… فمن خلق الله؟”!

إله الدليل الكوسمولوجي ، إله الفجوات؟

قد انتهينا إلى أنّه لا بدّ لهذا العالم من “سبب أوّل” أخرجه من كتم العدم إلى فسحة الوجود، لكن يواجهنا (داوكنز) وغيره من خصوم الدليل الكوسمولوجي بأنّ الانتقال من “السبب الأول” إلى “الله” ليس إلّا قفزة إيمانية (a leap of faith)؛ إذ إنّه ليس في الاستدلال التجريدي حجّة على أنّ “السبب الأوّل” هو إله القرآن!

لا شكّ أنّنا نتفق مع (داوكنز) أنّ الدليل الكوسمولوجي لا يتضمن في ذاته القول إنّ “الله” –سبحانه- هو خالق الكون، لكننا ننكر أن يكون قولنا محض رغبة إيمانيّة، وإنما نحن نقول إنّ الدليل الكوسمولوجي هو مقدمة منطقية للإيمان بالله عزّ وجلّ. فنحن لانؤمن بـ(إله الفجوات) (God of the gaps)، ولا نتوسّل بالمجهول (argumentum ad ignorantiam)، وإنّما نستدلّ بالمعلوم من الحقائق والمعارف لإثبات وجود الله. إنّنا لا نقول: “الكون مخلوق، فالله خالقه!”، ضربة لازب، وإنّما كان إقصاء فرضية أن يكون الكون أزليًا مقدمة للبحث عن هذا الخالق، وبالنظر في مآلات القول بأن الكون مخلوق لغيره تتضح لنا كثير من الحقائق عن الذات الإلهية.

لا يقفز المؤلّه فوق فجوة الجهل ليعلن وجود الإله، وإنّما مذهب الملاحدة هو الذي بني على الفجوات حيث يُلزم المذهب المادي أهله أن يؤمنوا بأنّ المادة تفسّر كلّ شيء، وإن لم تفسّره اليوم، فلعلّها تفسّره غدًا، ولذلك علّقت أمورًا كثيرة جدًا في العلم والفلسفة إلى أجل قريب أو بعيد حتى يكشف العلم عنها. فالملحد مؤمن كلّ الإيمان بقاعدة غيبية تقول: “لا يمكن أن نسمح لما هو فوق طبيعي أن يوجد، فالحلّ المادي هو الملجأ دائمًا، حتى لو كان العلم اليوم لا يقدّم جوابًا مقنعًا، أو حتى إن كان لا يعد بجواب مقنع في المستقبل”. والإلحاد بذلك يصنع من الفراغ الذي يتركه الحل فوق الطبيعي المقصيّ مساحة لأمل في العثور على جواب مادي لأسئلة الإنسان الكبرى، وهذا هو عين ما نسمّيه: “إلحاد الفجوات”.

ما هي صفات من يسمّيه الفلاسفة الإلهيون “بالسبب الأول”؟

الدليل الكوسمولوجي دال على أنّ هناك من أخرج الكون من العدم إلى الوجود، وهو يفيد في أنّ فاعل ذلك هو من يُسمّى بالخالق، وتتّضح صفات هذا الخالق بصورة أكبر إذا أضفنا إليها صفاته البادية من تصميمه للكون. ولعلّ أهم هذه الصفات أنّه:

  • ذات وليس شيئًا مجرّدًا: خالق الكون من عدم، متعال على الزمان والمكان، وواجب الوجود، وهو بذلك واحد من اثنين: إمّا ذات (personal being) أو شيء مجرّد (abstract object) -كالأعداد مثلًا-. الاحتمال الثاني باطل يقينًا لأسباب عدّة، أهمها أنّ الأشياء المجرّدة لا تملك مشيئة، ولا إرادة، ولا قدرة على الخلق، ففعل الخلق لا بدّ له من ذات عالمة، واعية، مريدة للفعل، ترجّح جانب وجود الكون على عدمه.
  • متعال على الزمن: إذا كان الزمن هو أثرٌ لجريان حوادث المكان، فإنّه بذلك لم يكن هناك زمن قبل المكان، وبالتالي فإنّ هذا الخالق لا بدّ أن يكون متعاليًا على الزمن، فهو مزمّنه.
  • متعال على الماديّة: إذا كان هذا الخالق هو الذي أوجد المادة، وكان “قبلها”؛ فهو بذلك متعال عليها، بائن عن خلقه، وليس محلًا للحوادث، فقد كان ولم يكن قبله شيء، فلا يوصف لذلك بأوصاف المادة على حقيقة المادة التي نعرفها.
  • عظيم القدرة: خلقُ العالم من العدم، وإتقان صنع الأحياء والجمادات، وبثّ القوانين المتقنة في هذا العالم بما أذهل العلماء الذين جعلوا همهم فكّ مغلقاتها وكشف أسرارها، كاشف أنّ هذا الخالق تتجاوز قدرته في عظمتها عقول البشر.
  • عظيم العلم: تنظيم العالم على هذا الشكل البديع، وهيمنة النظام والتكامل على بنائه، حجّة للاعتقاد أنّ علم هذا الخالق أعظم من أن نتصوّر جلاله.
  • عظيم الرحمة: خلقُ الإنسان في هذه الأرض وتوفير ما يحتاجه فيها من طعام وشراب ومتعة للحسّ والروح، حجّة للاعتقاد أنّ هذا الخالق رحيم بخلقه، يجود عليهم بما لا يستحقون.
  • واحد: افتراض أكثر من إله باطلٌ من أوجه، من أهمها أنّ العقل يجوّز اختلافهما (إذا قلنا بأقل عدد الكثرة)، وهنا لا يكون إلا حال من ثلاث:
  1. يحصل مراد أحدهما، فتنتفي عن الآخر صفة الألوهية لعجزه.
  2. يحصل مرادهما، وهذا باطل لأنّ الشيء لا يمكن أن يكون ولا يكون في نفس الآن.
  3. لا يحصل مراد أيّ منهما، وهذا مبطل لألوهيتهما، لعجزهما.

فتبيّن بذلك أنّ القول بالتعدد محال عقلًا.

لماذا لا يكون هذا الخالق مَلكًا أو أي كائن روحي، وليس الله؟

إذا اتّفقنا أنّ هذا الخالق أحدٌ، كامل الصفات، فخلافنا عندها سيكون حول الاسم لا حقيقة الذات، فسواء سمّاه المرء ملكًا أو جنيًا أو غير ذلك، فهو بذلك لم يغيّر من ذات الخالق شيئًا غير الاسم، ونحن المسلمون نقطع أنّ الاسم هو “الله”؛ لدلالة الوحي عليه.

وبعبارة أخرى نقول: إذا كان المخالف يقول: لمِ لا نسمّي “السبب الأوّل”، اسم كذا أو كذا مما نعرف أو لا نعرف من الأسماء؟! فسنرّد: الدلائل الفلسفية والعلمية لا تهتم بالعناوين وإنّما هي تقترن فقط بحقائق الأشياء. وإذا صحّ أنّ الخالق هو الأوّل الذي لا ندّ له ولا قريع ولا شبيه، كان سؤالنا عندها للملاحدة: إنّ المطلوب منّا هو أن نعبد الخالق، فلِمَ لا نسمّي هذه الذات: “الله”، إذا كان الإله في المتفق عليه بيننا وبينكم هو الخالق الأزلي الذي يمنع العقل عدمه؟!

ما الدليل على أنّ هذا الإله هو من يسمّيه القرآن “الله”؟

لنا على القول إنّ الخالق الحقّ هو الله –سبحانه- أدلّة، منها:

أولًا: صفات الخالق السابق ذكرها تنطبق بدقّة على الذات العليّة “الله” كما جاء خبرها في القرآن. فالله –سبحانه- في القرآن:

ذات: تكررت في القرآن نسبة المشيئة والإرادة والقصد لله –سبحانه-، وأنّه يفعل في المكان والزمان، وهو الذي أرسل الرسل، وأنزل الشرائع، ونظّم حياة الناس، وحدّد آجالهم، وهو الذي يعطي ويمنع، ويعفو ويرحم. ولا يفعل ما سبق شيءٌ مجرّد ليست له صفة الذاتية، كالمعاني والأفكار.

متعال على الزمان: قال تعالى: {هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِر}،[1] فأوّليته دالة أنّه فوق الزمان؛ إذ لم يسبق وجوده زمن.

متعال على المادية: قال تعالى: { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْء}[2]، ومن دلالات ألّا مثيل له أنّه –سبحانه- ليس ماديًا.

عظيم القدرة: قال تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِير}،[3] فقدرة الله لا يعجزها شيء، ومنها الخلق من العدم، والإبداع على غير مثال سابق، وحسن التصوير والترتيب.

عظيم العلم: قال تعالى: {أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِير}،[4] فالله –سبحانه- قد رتّب الكون على صورة من يصنع ما يريد لغاية ما يريد، ولذلك يَظهر الكون متآلفا متناغمًا، وذاك هو العلم الذي لا يحدّه حاجز من زمن.

عظيم الرحمة: قال تعالى: {وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُون وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَّمْ تَكُونُواْ بَالِغِيهِ إِلاَّ بِشِقِّ الأَنفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُوفٌ رَّحِيم}.[5] فكمال الموجود وجماله وتسخيره لتنعّم الإنسان برهان الرحمة في الدنيا.

أحد: القرآن من أوّله إلى آخره دعوة إلى التوحيد، وهو الكتاب الذي قرّر أنّ دعوة الأنبياء جميعًا كانت إلى إفراد الخالق بتوحيد الألوهية المتضمّن توحيد الخالقية. قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُون}.[6]

ثانيا: في مقابل غياب ما يمكن أن يُحتج به على خطأ القرآن، لا ينسب القرآن إلى الخالق صفات تخالف ما يمكن أن يهتدي إليه العقل من خبره، كما أنّ القرآن لا يقدّم الإله على أنّه ذات متحيّزة في مكان ولا أنه فرد من أسرة أو جماعة كما هو حال آلهة (جبل الأوليمبوس) اليونانية، أو التاسوع المقدس للمصريين، أو ثالوث النصارى. هو ببساطة الإله الواحد الذي لا نظير له ولا شبيه ولا قريع، هو الذي أخبر القرآن نبيّ الإسلام لما سُئل أن يَنسبه: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَد اللَّهُ الصَّمَد لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَد وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَد}.[7]

ثالثا: كلّ الآلهة التي نعرفها في جميع الأديان التي وصلنا خبرها إمّا أنّها جماعة من آلهة،[8] وهذا الأغلب، أو هي آلهة لجماعة ضيّقة من الناس، ولا نعرف استثناءً لهذا الأمر إلّا ما جاء في خبر القرآن.

رابعا: الدلائل العقلية والتاريخية والعلمية والنفسية وغيرها… قائمة على أنّ القرآن كلام معجز،[9] وصادق، وثبوت أصله السماوي حجّة للقول إنّ خبره عن الذات الإلهية صادق.

الدليل الكوسمولوجي مقدمة معقولة للوصول إلى معرفة الذات الإلهية التي أشرقت حقيقتها في القرآن الكريم.
  1. [الحديد:3]
  2. [الشورى:11]
  3. [الأحقاف:33].
  4. [الملك: 14].
  5. [النحل:6-7].
  6. [الأنبياء:25].
  7. [سورة الإخلاص].
  8. لا اعتبار لما يقوله بعض أهل هذه الديانات من أن دينهم في جوهره توحيد؛ إذ إنّ التوحيد يثلمه أي قول بنسبة صفة من صفات الله إلى غيره من “الآلهة” أو البشر.
  9. من أفضل ما كُتب في هذا الباب، كتاب محمد عبد الله دراز، النبأ العظيم (الكويت: دار القلم، 1390هـ/1970م).

© جميع الحقوق محفوظة لمبادرة البحث العلمي لمقارنة الأديان