___{قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُم بِوَاحِدَةٍ أَن تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا}[سبأ:46]
يتّفق المؤلّهة مع عامة الملاحدة أنّ الجواب الإيماني الموفّق على اعتراض: “… فمن خلق الله؟” ممكن إذا تمّ إثبات أنّ الزمان مخلوق، وأنّ الله بذلك متعال عليه؛ فلا يصحّ أن يقال إن له ابتداءً، أو أنّ الزمان خاضع لضرورة وجود الله؛ فلا يُستدلّ به ضد وجود الأوّل الذي ليس قبله شيء.
والدليل الذي ننتصر به للقول إنّ الله –سبحانه- متعال على الزمان، هو المسمى بالدليل الكوسمولوجي، وله أكثر من صيغة، وهو في أشهر صيغتيه يسعى إلى واحد من أمرين: إثبات أنّ الزمن له ابتداء بما يلزم أنّ له مُبدئًا، أو إثبات أنّ الله أوّل لا عدم يسبقه، للزوم القول بالمحال إن جوّزنا خلاف ذلك.
سنتناول هنا شَكلَي الدليل الكوسمولوجي بما يكشف فساد الاعتراض الإلحادي.
(1)
دليل الحدوث
اشتهر دليل الحدوث في الكتابات الفلسفية في الغرب باسم (الدليل الكوسمولوجي الكلامي) (The Kalam Cosmological Argument)، وعبارة “الكلامي” نسبة إلى (علم الكلام) الإسلامي، والذي هو “علم يتضمن الحجاج عن العقائد الإيمانية بالأدلة العقلية”[1].[2] وتسميته بدليل الحدوث تراثيًا راجع إلى أنه متعلّق بنشأة الشيء بعد العدم، ودلالة ذلك على وجود من ليس بحادث.
لخّص كل من (بيتر فاردي) (Peter Vardy) و(جولي أرليس) (Julie Arliss) تاريخ الدليل الكلامي بقولهما إنّه “نشأ في مدرسة الكلام الإسلامية للفلسفة، لكن تمّ تحديثه مؤخرًا على يد الفيلسوف الأمريكي (ويليام لين كريغ).”[3] وكان (ويليام لين كريغ) أكثر منهما دقّة بتقريره أنّه “رغم أنّ جذوره تعود إلى ما قبل [العصر الإسلامي]، إلّا أنّ الدليل الكلامي كحجة على وجود الله قد نشأ في عقول لاهوتيي القرون الوسطى من العرب [يقصد المسلمين]، والذين صدّروه إلى الغرب حيث أصبح محلّ جدل حام.” [4]
أشهر الصيغ المتداولة في الغرب لهذا الدليل هي الصيغة التي وردت على لسان (أبي حامد الغزالي) في قوله: “وجوده تعالى وتقدس، برهانه أنّا نقول كل حادث فلحدوثه سبب، والعالم حادث فيلزم منه أنّ له سببًا، ونعني بالعالم كل موجود سوى الله تعالى.”[5]
ويُعرض هذا الاستدلال ترتيبيًا كالتالي:
- لكلّ ما ابتدَأ وجودُه سبب.
- الكون ابتدأ في الوجود.
- للكون سبب.
صاغ (ويليام لين كريغ) دليل (الغزالي) على الصورة التالية لبيان تضميناته بما ييسّر تحديد أوجه الخلاف والجدل مع الملاحدة:
1-يتطلّب كلّ شيء ظهر للوجود سببًا لنشأته.
2-الكون ابتدأ في الوجود:
___ (أ) توجد ظواهر زمنية في الكون.
___(ب) هذه الظواهر الزمنية مسبوقة بظواهر زمنية أخرى.
___(ت) لا يمكن لهذه الظواهر أن تتسلسل إلى الماضي دون نهاية.
___(ث) وجود سلسلة واقعية لامتناهية، يلزم منه عدد من المحالات.
___ (ج) إذن، لا بدّ أن تكون لسلسلة الظواهر الزمنية بداية.
3- إذن للعالم سبب لوجوده، وهو الخالق. [6]
اعترض الملاحدة على مقدمتي الاستدلال السابق، أي حتمية السببية، وعدم إمكان التسلسل في الماضي، ولذلك علينا أن نطرح هذه الاعتراضات للدراسة، ونبيّن مدى وجاهتها في سعيها لنقض (البرهان الكوسمولوجي الكلامي).
- فهل لكلّ أثرٍ سبب؟
- وهل يدلّ الدليل على حدوث الكون بعد عدم؟
-أ-
حتميّة السببية
يقوم الاستدلال بالحوادث لبيان وجوب التصديق بوجود الخالق على يقينية مبدأ السببية في تفسير العالم، فلا ينشأ شيء أو حدث إلا بسبب، وفي غياب السبب لا ينتقل الوجود أو العدم من صفة إلى أخرى، ولا من وجود إلى آخر. ويكاد يكون من العبث أن نحتاج إلى البرهنة على هذا الأمر؛ فهو المهيمن على حياتنا اليومية، ومعارفنا العلمية. ولا يمكن أن يُنسب من ينكره عمليًا بيننا إلى الاستقامة؛ فلا يوجد منّا من يجلس على طاولته، وينتظر أن يظهر الطعام بلا سبب، ولم نشهد فقيرًا يأمل أن تمتلئ جيوبه مالًا بلا سبب، حتّى الساحر لا يُعتقد أنه لا يبذل الأسباب، فهو إما يفعل ما يفعله بسبب خفة اليد أو قدرات خفية خارقة، وهي نفسها من الجنس العام للأسباب.
لم يُعرف التململ من هيمنة مبدأ السببية على الوجود علميًا بين بعض فلاسفة الإلحاد غير ما كان في العقود الأخيرة بعد انفتاح كوّة علميّة إلى عالم تحت الذرّة، وكان قد سبقه زمنًا اعتراض فلسفي ينسب السببية إلى الوهم التجريبي المحض وينكر واجبيّتها الميتافيزيقية.
ما هو الاعتراض الفلسفي؟ وما هي مستنداته؟ وهل يستقيم طرحه ابتداءً؟
وما أصل الاعتراض العلمي؟ وهل وُفِّق في عرض حقيقة عالم دون الذرّة؟ وهل نقاشنا حوله –على الصواب-علمي أم فلسفي؟
[1]
التشكيك في الحتمية السببية فلسفيا
شاع القول إنّ (دافيد هيوم) (David Hume) قد حاول في القرن الثامن عشر أن ينقض فلسفيًا صدق دعوى اقتضاء الأثرِ سببًا أو أنّ “كل ما له بداية لا بدّ أن يكون له سبب”، بتشكيكه في بداهة الحتميّة السببية، وذلك بردّها إلى ظاهر العامل الاقتراني، وإنكار الحتمية المنطقية الصرفة لترتّب الأثر على السبب،[7] ومن ذلك قوله: “إنّ معرفتنا بالأسباب لم تُحصّل البتة من خلال البداهة العقلية، وهي تأتي دائمًا من تجربتنا في اكتشاف أنّ أشياء مخصوصة ترتبط دائمًا بأخرى”.[8]
وتعليقنا هو ما يأتي:
هل أنكر (هيوم) مبدأ السببية؟: تغفل الكثير من الدراسات حقيقة اختلاف الفلاسفة من المتخصصين في الفكر الهيومي في موقف (هيوم) من السببية، خاصة انتصار فريق منهم إلى “التفسير الواقعي” لنظرة (هيوم) للسببية، وهي قراءة ترى أن (هيوم) لم ينكر مبدأ السببية، وإنّما أنكر معرفتنا في عالم الواقع بالأسباب الحقيقية لآثار العالم، فقد قال (هيوم) نفسه في رسالة أرسلها إلى (جون ستيوارت) (John Stewart) سنة 1754م، أي بعد تأليفه كتابه ” An Enquiry Concerning Human Understanding” (1748م) الذي أصّل في فصله الرابع لظاهرية العلاقة الاقترانية بين الأشياء: “ولكن اسمح لي أن أقول لك إنّني لم أقرّر البتة ذاك الادعاء السخيف أنّ شيئًا ما من الممكن أن ينشأ دون سبب. أنا لم أقرّر إلّا أنّ يقيننا في خطأ تلك الدعوى لم ينجم عن حدس ولا عن برهان، وإنّما من مصدر آخر.” [9]
وهذا الذي قرره هيوم في رسالته السابقة هو ظاهر ما كتبه في مؤلفه “ An Enquiry Concerning Human Understanding “، فقد كان همه التمييز بين “علاقات الأفكار” و”أمور الواقع”، فالأولى ثابتة بالبداهة العقلية (apriori) أما الثانية فلا تثبتها غير التجربة. ولذلك كتب الفيلسوف (ر. س. سبرول) (R. C. Sproul): “لم ينكر هيوم قانون السببية. هو لا يتكلّم عن آثار غير مسَبَّبة أو أسباب بلا آثار. هو يتحدث بدلًا من ذلك عن معرفة أو اكتشاف الحقائق في ما يتعلّق بالأسباب والآثار في العالم التجريبي. هو لا يزال يتحدّث عن “أسباب تُنتج”، وآثار “تنتج عن” أسباب معينة.”[10] مضيفًا أنّ “(هيوم) قد قرر حقيقة بدهيةً لما قال إنه “لا يوجد شيء من غير سبب لوجوده” “nothing exists without a cause of its existence”. لا يلغي تحليله للسببية قانون السببية ولا يعكّر عليه. إنّه يركّز على حدود المعرفة التجريبية ومقدرتنا على الوصول لمعرفة برهانية للعلاقات الضرورية”.[11]
لقد كان (هيوم) يناقش أغلوطة “بعد هذا، إذن بسبب هذا” “Post hoc ergo propter hoc “، فاقتران صياح الديك بإشراقة الفجر لا يعني أنّ إشراقة الفجر أثر لصياح الديك. فما نعرفه نحن من ظواهر العالم لا يتجاوز صور تتابعها، ولا يلزم من تتابع أمرين أن يكون أحدهما سببًا للثاني. ولكنّ هذا التشكّك (الهيومي) لا ينفي السببية وإنما يقصر قدرة الإدراك البشري في ملاحظة علائق الأشياء على الاقتران العرفي، لغياب الإلزام العقلي المخبر عن علاقة السببية بينها. وفساد دعوى (هيوم) هنا هو في إطلاق نفي معرفتنا بالأسباب لأنّ بعض الاقتران لا يرتبط ضرورة بالسببية!
سنلزم أنفسنا رغم ما سبق بالقول إنّ (هيوم) قد نفي حقيقة السببية، متابعة لدعوى الملاحدة اللاحقين الذين استعملوا نفس استدلالات (هيوم)، ولننظر إن كانت هذه الدعوى قادرة على الصمود، علمًا أنّها لا تجد قبولًا في الساحة الإلحادية المعاصرة، إلا قليلًا، والسبب الرئيس لذلك أنّ لقبولها تكلفة فلسفية باهظة جدًا، وهي أنّه لا يمكن الكشف عن قانون من “التجربة” و”الملاحظة”، وأنّ حال الاقتران بين “السبب” و”الأثر” لا يدلّ على شيء غير العادة، ولا يمكن أن يُبنى عليه شيء علميًا، في حين أنّ العلم الحديث قائم على مبدأ السببية في الكشف عن القوانين المطرّة من خلال التجربة والمشاهدة، فما يُحكم عليه اليوم بأنه “قانون”، هو ما أكّدته التجارب المتكررة.
برهان (هيوم): من الممكن تلخيص مذهب (هيوم) على الصورة التالية:
- كلّ الأفكار المتمايزة، منفصلة عن بعضها.
- فكرتا السبب والأثر متمايزتان.
- من السهل التفكير في خروج الشيء إلى الوجود دون التفكير في سببه.
- التمييز بين السبب والأثر ممكن، ولا يلزم منه تناقض ولا محال. [12]
وقد ردّد الفيلسوف الملحد (ج. ماكي) نفس الدعوى اعتراضًا على الدليل الكوسمولوجي، قائلًا: “كما أشار إلى ذلك (هيوم)، بإمكاننا قطعًا أن نتصوّر بدايةً لشيء ما غير مُسبّبة. وإذا كان الشيء الذي بإمكاننا تصوّره هو مع ذلك مستحيل بصورة ما، فلا بدّ عندها من إقامة الحجة لإثباته”.[13]
حجيّة التصوّر: عمدة ردّ العلاقة الحتمية بين السبب والأثر عند (هيوم) هي إمكان تصوّر أثر دون سبب، و”التصوّر” هنا هو مجرّد التخيّل الذهني المجرّد (imagination) وليس هو التصوّر العاقل (to conceive)[14] بمعنى إنشاء فكرة عقلية متناسقة،[15] وهي دعوى بلا حتمية، لأنّه بالإمكان “تصوّر” فساد حتميّة منطقية، “فتصوّر” الإمكان الذهني لا يلزم منه الإمكان الميتافيزيقي أو الواقعي. وقد أقرّ (جاكي) نفسه بذلك -رغم عنف خطابه- قائلًا إنّه يجد مشقّة في تصوّر إمكان خروج شيء من العدم بلا سبب، مهما توسّعنا في فهم الصدفة. [16]
وحجيّة التصوّر مشكلةٌ في أصلها لأنّ ما يتصوّره الواحد قد لا يتصوّره آخر، فمن هو الحجةّ في التصوّر؟! ولماذا يكون تصوّره حجّة؟! وقد يتصّور المرء شيئًا على غير حقيقته، فكيف يكون تصوّره حجّة؟!
بل لنا أن نقول لـ(هيوم) إنك تزعم أننا نرى تتابع الأشياء ولا نرى السببية وإنما نفترضها افتراضًا بسبب هذا التتابع، ونحن في المقابل ننكر عليك دعوى إمكان تصوّر حدوث شيء دون سبب لأنّ السببية لا تُبصَر -كما تقول-، فإذا كان غيابها عن البصر دليل غياب الدليل عليها، فكذلك غيابها (عن التصوّر المجرّد) ليس دليلًا على غيابها وجوديًا.
وبعبارة أخرى، يحق لنا أن نتساءل عما إذا ما كان بإمكاننا حقًا أن نتصوّر شيئًا يأتي إلى الوجود بلا سبب؛ إذ غاية ما يبلغه خيالنا أن نتصوّر شيئًا يحدث أمامنا بلا تصوّر سبب ظاهر أثناء تخيّله، لكنّ ذلك في نفسه لا يعني أننا تخيلنا أنه بلا سبب، فعدم تخيّل السبب لا يطابق تخيّل الحادث دون سبب. [17] ولو أنّ شيئًا ظهر أمامنا فجأة فلن نقول إنه بلا سبب، ولن يستحضر أي منّا (هيوم) ودعاويه، وإنما سنبذل جهدنا لتصور سببه، وعند العجز سنكتفي بالقول إننا الساعةَ لا نعرف سببه، دون أن ننفي إمكان العلم به لاحقًا.
العلاقة السببية بين المعرفة والواقع: يتمثّل خطأ (هيوم) المنهجي أساسًا في خلطه بين الجانبين الإبستيمولوجي والأنطولوجي عند تجربة الحكم على فكرتين متمايزتين ذهنيًا، فمعرفتنا بتمايز الشيئين (الجانب الإبستيمولوجي) ليست حجّة لنفي ترابطهما الحتمي واقعيًا (الجانب الأنطولوجي)، فإحساسنا بالتمايز ليس في ذاته دليلًا على عدم الارتباط بين الظواهر الكونية. [18]
ويمثّل الفيلسوف (بروس ريكنباك) (Bruce Reichenbach) على خطأ (هيوم) بمثال صحن متساوي السَماكة، مقعّر من جهة، ومحدّب من الجهة المقابلة. معلوم أنّه بإمكاننا ذهنيًا أن نتصوّر طبيعة التقعّر في الصحن إذا نظرنا إليه من جانب دون تصوّر تحدّبه من جهة أخرى، كما يمكننا أن نتصوّر تحدّبه من الجهة الأخرى دون تصوّر تقعّره من الجهة المقابلة، فهل يلزم من ذلك أنّه لا علاقة حتميّة بين تحدّب الصحن وتقعرّه؟ لا شكّ أنّ العلاقة بين هاتين الصفتين حتمية، إذ الصحن محدّب من جهة بسبب تقعّره من الجهة المقابلة، ومقعّر من جهة بسبب تحدّبه من الأخرى، وبذلك تسقط دعوى (هيوم) أنّ تصوّر انفصال أمرين حجّة لنفي حتميّة العلاقة بينهما.[19]
الانتقاض الذاتي: يرفض (هيوم) قانون السببية لأنّه من أمور الواقع (matters of fact)، وليس مرتبطًا بالأفكار المجردة كالرياضيات والهندسة، وبالتالي فهو دائمًا ممكن (contingent)، وليس ضروريًا، لكنّ اعتراض (هيوم) أيضًا ممكن وليس ضروريًا لأنه متعلّق بأمور الواقع لا ضروريات الأفكار،[20] وبالتالي لا يُحتج به في هذا السياق إلا أن يقوم عليه برهان!
السببية في نفي أصل السببية!: ليس بإمكان المرء أن يقيم البرهان على بطلان السببية إلّا بأن يصوغ برهانًا عقليًا أو تجريبيًا على بطلان السببية، وهذا البرهان نفسه لا يمكن إلّا أن يكون مصاغًا في قالب سببي بالربط بين مقدماته ونتائجه، ولما كان برهان نفي السببية قائمًا على أصل سببي، كانت هذه الدعوى هادمة لذاتها (self-defeating) لأنها تقرّ بالسببية في سعيها لإبطالها. وفي هذا يقول (ابن رشد): “والعقل ليس هو شيء أكثر من إدراكه الموجودات بأسبابها، وبه يفترق من سائر القوى المدركة، فمن رفع الأسباب فقد رفع العقل… [و] المعرفة بتلك المسببات لا تكون على التمام إلّا بمعرفة أسبابها، فرفع هذه الأشياء هو مبطل للعلم، ورفع له، فإنّه يلزم أن لا يكون هاهنا شيء معلوم أصلًا علمًا حقيقيًا، بل إن كان فمظنون، ولا يكون هاهنا برهان، ولا حدّ أصلًا… ومن يضع أنّه ولا علم واحد ضروري، يلزمه أن لا يكون قوله هذا ضروريًا.“[21]
الوهم الإبستيمي لنفي السببية: تقوم دعوى نفي السببية بين أفراد الكون على أصل (الذرية الإبستيمية) (epistemological atomism)، بأن يكون الوجود في وحداته الأصغر متفلّتًا وغير مترابط، وهو ما يفسد أيّ طمع في إثبات علل ذاتية للواقع.
والطبيعة الذرية المدعاة للوجود تخالف ما نعرفه عن الوجود؛ إذ لا تَظهر الأشياء مشتتة، مبعثرة في عالمنا، وإنما نحن ندركها بعين اليقين متدفقة، مسترسلة بما لا يوقع في الذهن وهم الانقطاع ولا يوحي بالعلائق العشوائية بينها، فنفي العلاقة العليّة بين صور العالم المتتابعة، والمنتظمة، لا يركن إلى حس ولا يعضده واقع، ولا يمكن أن يكون محل نظر إلّا إذا سلّم الراصد ابتداءً لفلسفة الطبيعة الذريّة لعلائق الوجود.
السببية، مبدأ ميتافيزيقي: ليست السببية مجرّد دعوى مستفادة من التجربة وإنما هي حقيقة متعالية على التجريب لأنها من صميم الوجود الحقيقي للأشياء؛ إذ إنّ من ماهية الشيء المحدود عدم استغنائه عن غيره لينتقل من العدم إلى الوجود، ومن حال إلى آخر، ونفي السببية عن الوجود حاجز للعقل البشري عن التفكير والتعامل مع الأفكار والواقع، حاله حال مبدأ الماهية ومبدأ التناقض، فبغيرهما لا مكان للمعنى والفهم والفعل العاقل في وجودنا.
الترجيح من غير مرجح: وجود الشيء أو تغيّره من حال إلى آخر –ما لم يكن أزليًا- ممكن نظريًا في جميع الأوقات، ولا سبيل من الناحية العقلية لتفضيل أحد الأزمنة على الآخر إلا بافتراض مرجّح، وهذا المرجّح إما من داخل الشيء أو من خارجه، فإن كان من داخله، لزم التناقض لأنّنا نفترض وجود قوة الخلق في الشيء قبل وجود الشيء نفسه، كالقول بقوة الأرض على إيجاد نفسها قبل وجودها من العدم، وهذا باطل في بداهة العقل، فصار لزامًا القول إنّ سبب الخلق خارج عن الشيء، غير مزامن له، لما سبق، وغير متأخر عنه لنفس السبب، ولم يبق إلا أن يوجد السبب قبل وجود الشيء ليرجّح وجوده على عدمه، وهو ما عرضه علماؤنا في حديثهم عن “بطلان الترجيح دون مرجّج”.
نفي السببية، نفي للوجود: ما الوجود المادي إلا أشياء العالم المادي (الجبال والأنهار والطيور والأزهار…)، وليس “الشيء” في هذا الوجود إلا ما يمثّله بصفاته وخواصه، والأشياء إنما تختلف نظرًا لاختلاف صفاتها وخواصها، وإذا نحن قلنا بنفي السببية في هذا العالم، فإننا بذلك ننفي عن أشياء العالم صفاتها وخواصها؛ إذ جعلنا كلّ أشياء الواقع واحدة في صفاتها، وإذا نحن نفينا هذه الخواص فإننا بذلك ننفي حقيقة الأشياء المادية للعالم إذ جعلناها بلا أثر، سواءً، وبالتالي بلا شيء يحدّد ماهيّتها وحدّها، وإذا نحن نفينا الماهية والحدّ فإننا نكون قد نسبنا الوجود إلى العدم، وهذا أمر واضح الفساد، مخالف للمعلوم عقلًا وللمدرك حسًا.[22]
السببية إذن جزء من ماهية الوجود المادي؛ إذ هي مرتبطة بماهية الشيء، أي ما يكون به الشيء شيئًا؛ فهي لازم من لوازم أن يكون للشيء وصف ذاتي، وليس يخلو الشيء من صفة ذاتية يكون بها نفسه.
التجربة صانعة أم كاشفة؟: اعتراض (هيوم) بأنّ التجربة هي التي أنتجت في عقولنا مفهوم السببية معارَض بقولنا إنّ التجربة قد كشفت حقيقة السببية التي هي مبدأ مستغن عن التجربة في وجوده، فالاطّراد لم يكسب العقل معرفة بالسببية وإنما كشف حقيقتها القَبْلِيَّة في الوعي، تماما كما يكشف تعاملنا مع أشياء الواقع قَبْلِيّة الحقائق الرياضية.
العالم الميكروسكوبي وطبائع الأشياء: كان أثر الأشياء في بعضها زمن (هيوم) يُدرَك من خلال الملاحظة العامة والتجربة، وما كان الفرق –مثلًا- بين البنزين الذي يشتعل نارًا والماء الذي يطفئ النار مدركًا بصورة دقيقة، إذ يشترك البنزين والماء في صفة السيولة دون أن يُظهر ظاهرهما سبب تضاد أثرهما، لكن مع تطوّر المعارف العلميّة واختراع المايكروسكوب انفتحت أمام أعين الناس أبوابٌ لملاحظة الفوارق الدقيقة بين الأشياء وأسباب تأثيرها في بعضها على المستوى الذرّي، كما عُرفت الأسباب المحكمة للمرض والعدوى وغير ذلك مما لم يكن يُدرك له سبب مفهوم غير الاقتران.
وأخيرًا، هل يعتقد الملاحدة حقيقة أنّ (هيوم) قد سدّد الضربة المميتة للسببية كما يدّعون؟ لا أظنّ أنّ الأمر كذلك؛ وذلك لثلاثة أسباب:
- يهمل الملاحدة أنفسهم دعوى انتقاض الحتمية السببية بمجرّد مفارقة عالم الكتب إلى عالم الواقع، ولا يحتجّ أيّ منهم بالعادة والاقتران عندما تكون له مَظلمة –مثلًا- أمام محكمة، وإنما يجزم بالأسباب بصورة قاطعة دون ريب!
- يتبنى عامة الملاحدة (المذهب العلموي) (scientism)، ولذلك هم يرون أنّ الطريق الوحيد للحقيقة هو العلم، والعلم لا يدرك الحقيقة إلا بإدراك الأسباب، وهو يترقى من معرفة الأسباب للكشف عن القوانين، فلا قوانين إلا بأسباب، ولذلك لا يُسَلَّم لهم مذهبهم حتى يقولوا بالأسباب!
- يستدل الكثير من الملاحدة عند مناقشة مسألة (حرية الإرادة) -في الاعتراض على العدل الإلهي- بحتمية القوانين الكونية لنفي الإرادة الحرّة للإنسان وتقرير جبرية الفكر والسلوك الإنسانيين، ولا سبيل للقول بالجبرية بغير القول بالسببية!
نفي السببية، نفي للعقل الذي هو حصيلةُ ترتيبٍ سَبَبِيٍّ للأفكار، ونفي للكون بنفي ماهية الأشياء وأعراضها. |
[2]
التشكيك في الحتمية السببية علميا
ظهر التحدّي العلمي لمبدأ السببية مع تطوّر دراسات الذرّة وما دونها، أو ما يعرف بـ(ميكانيكا الكم) (Quantum mechanics)؛ فقد دلّت الدراسات –كما يقول الملاحدة- أنّ (جسيمات افتراضية) (virtual particles) في هذا العالم تظهر وتختفي دون سبب ظاهر. وهو ما يعني أنّ السببية منتفية في هذا المجال الصغير، بما يسمح للقول إنّه من الممكن أن يكون الكون قد نشأ دون سبب في مجال كمومي أوّلي.
القائلون بالمذهب السابق هم أنصار مذهب (كوسمولوجيا الكم الصدفوي)، وهم على قولين، أولهما أنّ الكون قد سُبق بالفراغ الكمي، وثانيهما -وهم قلة قليلة- على أنّ الكون قد نشأ من العدم المحض. من أهم أنصار القول الأول رائد هذا المذهب الكوسمولوجي (إدوارد تايرن) (Edward Tyron)،[23] و(لورنس كراوس) (Lawrence Krauss)،[24] ومن أهم أنصار المذهب الثاني فيلسوف الفيزياء (كونتن سميث) (Quentin Smith) القائل: “التصور الأكثر معقولية هو أننا قد جئنا من لاشيء، بلاشيء، لأجل لاشيء”،[25] والكيميائي الملحد (بيتر أتكنز) (Peter Atkins) الذي لخّص هذا التصور العشوائي لنشأة الكون بقوله: “في البدء، كان هناك لاشيء. الفراغ المحض، وليس المكان الفارغ. لم يكن هناك مكان، ولا زمان، لأنّ هذا كان قبل الزمان. كان الكون بلا شكل وكان فارغًا.[26] بالصدفة كان هناك تذبذب، ومجموعة نقاط، وقد ظهرت من اللاشيء واكتسبت وجودها من النموذج الذي كوّنته. وقد حدّدت [بداية] الزمان…. من العدم المحض، وبدون أدنى تدخّل خارجي، ظهر إلى الوجود وجود بدائي”.[27]
وقد احتجّ القائلون بـ(المذهب الكمومي الصدفوي) بأنّ الطبيعة الصفريّة لمجموع الطاقة في الكون مبرّرٌ علمي للقول إنّ الكون ليس بحاجة إلى مبدئ، ومن هذه الدعوى نبدأ النظر قبل أن نستعرض قول الصدفويين الأكبر حول انهيار قانون السببية.
1-الكون ذو الطاقة الصفرية
ذهب بعض فلاسفة الإلحاد إلى أنّه يلزم من تساوي قوة القوى المتضادة في الكون أن يكون مجموع طاقة الكون صفرًا، وهو ما يعني أنّ الكون حصيلة لاشيء، وبالتالي فهو لا يحتاج إلى شيء ليوجَد. وقد حاول (فكتور ستنجر) (Victor Stenger) –عالم فيزياء الجسيمات والكوسمولوجيا، والذي يعد أحد أهم رموز الإلحاد في السنوات الأخيرة[28] – أن يصيغ هذه الدعوى علميًا، فقال: “بما أنّ مجموع طاقة الكون، صفرٌ، فلم تكن هناك حاجة إلى الطاقة لوجود الكون“.[29]
يشبه الاستدلال بتعادل القوى المتضادة في الكون، للقول بصفرية طاقته، للانتهاء بأنّ الكون قد وجد من لاشيء، بالقول إنّ رحلة إنسان حول العالم، بدأت من (القيروان)، وانتهت إليها بعد المرور بكلّ دول العالم، تساوى عدم التحرّك من مدينة (القيروان)، لأنّ الحركة بدأت من حيث انتهت!
وبعيدًا عن مناقشة تهافت هذا الاستدلال العجيب بتضاد القوى لنفي حقيقة وجود حقيقةِ شيئيةِ العالم، يبدو أنّ أساس الاستدلال نفسه عليه ملاحظات علمية، ومنها:
- لا يمكن أن يكون الكون قد نشأ من تساوٍ للقوى المتضادة، لأنّ من طبيعة الانفجار أن تكون قوة الجاذبية أدنى من قوّة الدفع.
- استمرار تمدد الكون دليل على أنّ الجاذبية في الكون أضعف من قوى التمدّد.
- ظهور الكون من العدم، واستمرار هذا الوجود دليل على أنّ المادة قد تغلّبت على (المادة المضادة) (antimatter).
- من المبالغة القول إنّ العلماء قد توصّلوا إلى قياس كلّ أوجه الطاقة الإيجابية والسلبية في الكون، فإنّ الكون شاسع ممتد الأطراف، ولم تبلغ مراصد الباحثين وأدوات تحليلهم إلا بعضه.
- معارفنا العلمية الحالية تشير إلى أنّ دعوى الطاقة الصفرية غير دقيقة، وفي ذلك يقول (عبد السلام محمد) -عالم الفيزياء الباكستاني الحاصل على نوبل (1979م)، والمتخصص في النظرية الكمومية-: “لا يبدو أنّ القياسات تدعم في الوقت الحاضر [دعوى أنّ] كتلة الكون تساوي صفرًا … وبدون ذلك علينا أن نتخلّص من كامل مفهوم أنّ الكون قد نشأ من (تذبذب كمومي) (quantum fluctuation)”.[30] وقد شهد (غاري ستيجمان) (Gary Steigman) منذ العقد السابع من القرن الماضي أن “الكون ليس متناظرًا (not symmetric)، وأنه يحتوي القليل، إن وجد، من المادة المضادة”.[31] ووجود المادة المضادة بأكمله محلّ جدل بين العلماء.
- التسليم بالتناظر التام بين المادة والمادة المضادة لا ينصر قول فلاسفة الإلحاد بصفرية الطاقة، لأنّ تصادم المادة والمادة المضادة وانفجارهما لا يؤول إلى إنتاج العدم المحض أو الطاقة الصفرية، وإنّما ينتجان فضلة من (أشعة غاما)، والتي هي الشكل الإيجابي للكتلة/الطاقة .[32]
- التسليم بالطاقة الصفرية للكون حجّة لوجود الله، وليس العكس؛ إذ إنّ وجود كون هائل، معقّد، على وجه مرتب ومنظّم، هو مضاد بصورة مطلقة لمفهوم العشوائية التي لا يمكن فكّ الإلحاد عنها، ولذلك انتهى (أنثوني زي) (Anthony Zee) -أحد العلماء الحجّة في مفهوم (التناظر)- إلى نقيض ما انتهى إليه (ستنجر)، فقد أكّد أنّ علم الفيزياء ما كان ليوجد لولا وجود التناظر في الكون. وعلّق على ذلك بقوله: “أحبّ أن أفكّر في المصمم النهائي ضمن مفهوم التناظر، إنّه إله التناظر Deus congruentiae.”[33] فالتناظر على حدّ قوله تعبير عن عظيم التصميم الإلهي، ولا يمكن ردّه إلى عوامل مادية عمياء.[34]
2-التذبذب الفراغي والقدرة الخلقية للاشيء
أبرزُ تحد في الكتابات الإلحادية لحتمية السبب لإنتاج الأثر، ظهر في توظيف ظواهر عالم (الكم) لنفي حاجة الكون إلى سبب. من الأسماء الكبيرة التي اتّجهت إلى هذا القول (هاوكنغ) (Hawking)، و(هارتل) (Hartle)، و(ألكسندر فلنكن) (Alexander Vilenkin). وهي دعوى تقرّر أنّ الكون قد ظهر إلى الوجود بتذبذب فراغي من العدم، مستعينة بما لاحظه عدد من العلماء من ظهور جسيمات افتراضية وانعدامها دون سبب على المستوى دون الذرّي.
ولعلّ أكثر من اشتهر مؤخرًا من هؤلاء الفيزيائيين (لورنس كراوس) في كتابه: “كون من لا شيء: لماذا هنالك شيء بدلا من لا شيء” (2012م)، وهو الكتاب الذي قال عنه الفيزيائي وعالم الرياضيات (إ. أس. كوهلي) (I. S. Kohli): “إنّ العديد من دعاويه غير مدعومة في كليّتها بنظرية قانون النسبية الحديثة ولا نظرية المجال الكمومي في الزمكان المنحني”.[35]
رغم جرأة عدد من أعلام (الإلحاد الجديد) على الاستدلال بنظرية نشأة الكون من اللاشيء الكمومي، إلّا أنّ هذه النظرية لاتزال إلى اليوم تعاني فحش مغالطاتها المكشوفة، والتي تظهر حال اليأس عند الدهريين الجدد، وإقبالهم على كلّ دعوى تنصر إلحادهم حتى لو كانت بادية الفساد كما سيأتي. ومن أوجه هذا الفساد:
- لاشيء كشيء
هل (الفراغ الكمّي) (quantum vacuum) لاشيءٌ عندَ من يقولون بأسبقيته لنشأة الكون؟
تعطي عبارة (فراغ) (vacuum) إيحاءً فاسدًا للذهن أنّ هذا الفراغ هو عدم محض، والحقيقة أنّ هذا الفراغ ليس إلّا بحرًا من المادة المضطربة، وهو مجال خصب للتفاعلات الفيزيائية التي تحقّق وجودها ضمن المكان والزمان. فهذا المجال هو وجود، وليس من (العدم الفلسفي) في شيء.
وقد اعترف (هانز باجلز) (Heinz Pagels) بالتناقض الداخلي للاشيء الكَمّي، في قوله: “العدم “قبل” خلق الكون هو الفراغ الأتم الذي بإمكاننا تصوّره- لا وجود لمكان، ولا زمان، ولا مادة. إنه عالم دون موضع، ومن غير مدة ولا أزل، ولا عدد-. إنّه ما يسمّيه علماء الرياضيات “بالمجموعة الفارغة”. ومع ذلك فهذا الفراغ غير المتصوّر يحوّل نفسه إلى وجود تام-نتيجةٌ حتمية للقوانين الفيزيائية. أين كتبت هذه القوانين في ذاك الفراغ؟ ما الذي “قال” للفراغ إنه حاملٌ بكونٍ ممكن؟ يبدو أنّه حتى هذا الفراغ خاضع للقانون”.[36]
إنّه “فراغ” ليس بفارغ وإنما هو وجود مؤلف من عناصر فيزيائية، ففيه جلّ ما نعرفه عن الوجود إلّا المادة، ففيه الطاقة والقوانين، ويتجاوز ذلك بامتلاكه القدرة والإرادة!
(الفراغ) عند الفيزيائيين هو غير العدم المحض عند الفلاسفة |
- شيء كلاشيء
عندما يُقال إنّ لاشيء هو الشيء الذي أخرج كلّ شيء إلى الوجود، فذاك يعني أنّ اللاشيء أعظم في حقيقته من السحر، إذ السحر لا يستغني عن ساحر، أمّا هذا اللاشيء، فلا يحتاج شيئًا. وهاهنا هرب الملاحدة من الغيب الذي لا تدركه الحواس، إلى ما هو أغرب من السحر، وهو: اللاشيء المبدِع!
ليس اللاشيء في حقيقته لاشيئًا، وإنّما هو عالم من الطاقة الحيّة، وما كانت عبارة اللاشيء إلّا وسيلة للهروب من الشيء السابق للكون، لأنّ المؤمنين بالله سيسألون عندها عن أصل هذا الشيء، أي سببه!
وقد وُوجه (كراوس) بسيل من الاعتراضات العلمية والفلسفية على زعمه أنّ التذبذب الفراغي الذي أبدع الكون هو “لاشيء” كما هو بادٍ في عنوان كتابه، مما منعه من أن يهرب من حقيقة أنه “من لاشيء، لا يخرج شيء”. وكما هو متوقّع من (كراوس) صاحب الأسلوب الصبياني الساخر في مناظراته، اتّجه إلى الإقذاع في الحطّ من الفلسفة والفلاسفة، والتأكيد على أنّ التعريفات الفلسفية لا تعنيه؛[37] إذ (اللاشيء) في العلم هو (شيء)، وليس هو العدم المحض. قال: “بـ”لاشيء”، لا أقصد لاشيء… ما عاد لاشيء لاشيئًا في الفيزياء. … لاشيء هو في الحقيقة سائل من الجسيمات الافتراضية، يغلي ويحتدم”.[38] لكنّه بذلك أفسد دعوته الإلحادية القائمة على استغناء الكون عن شيء يتسبب في وجوده بعد إذ كان عدمًا!
أمّا (ستفين هاوكنغ)، والذي كان يشكّك في وجود الله من طرف خفي لفترة طويلة من الزمن، وما كشف إلحاده صراحة إلّا سنة 2014م، فقد قال في كتابه (التصميم العظيم) (2010م)[39] إنّ الكون من الممكن أن يكون قد نشأ من العدم. ولكن كيف ذلك؟
ردّ (هاوكنغ) الأمر إلى الخلق العفوي، وخصّ الجاذبية بسلطان خارق، إذ قال: “لأنه يوجد قانون كالجاذبية، فبإمكان الكون أن يخلق –وسيخلق- نفسه من عدم”.[40]
ما معنى أن يخلق قانون الجاذبية الكون من عدم؟! سؤال أدهش المخالفين لـ(هاوكنغ) الذي من الممكن أن يعدّ أحد أكبر العقول العلمية في بريطانيا اليوم. ولهؤلاء المندهشين أن يندهشوا، لأنّ هذه الدعوى تخالف البداهة؛ إذ هي تقوم على افتراضات واضحة الفساد:
- تفترض أن الجاذبية لاشيء!
- تفترض وجود القانون الكوني في غياب الكون نفسه، بمادته وطاقته وزمانه.
- تفترض أن القوانين المادية، كالجاذبية، أشياء قادرة على الخلق، في حين أنّها على الحقيقة مجرّد وصف لسُنّة عمل المادة، ولا يمكن للوصف أن يخلق بذاته. وكما يقول عالم الرياضيات (جون لنوكس) (John Lennox) في تعقيبه على (هاوكنغ): “لا يمكن البتة للقوانين الفيزيائية أن تقدّم تفسيرًا كاملًا للكون. إنّ القوانين بذاتها لا تخلق شيئًا؛ إذ هي ليست سوى وصف لما يقع تحت ظروف معيّنة. يبدو أنّ ما فعله هاوكنغ هو الخلط بين القانون والوسيلة.”[41]
- لم يسأل (هاوكنغ) نفسه: “ومن أين جاءت الجاذبية؟!”؛ إذ الجاذبية ممكن من الممكنات، وليست من ضرورات الوجود! ومن المثير هنا أنّ (نيوتن) (Newton) مكتشف الجاذبية نفسها، وأهم شخصية علميّة واجهت التفسيرات الدينية التي تنسب الظواهر الطبيعية إلى التدخّل المباشر للإله أو ملائكته، قد قال في كتابه الخطير (Principia Mathematica) إنّه قد ألّفه ليدفع الأذكياء إلى الإيمان بالله.
- تفترض أنّ قوانين الكون أمر بسيط، سهل، على خلاف ما أقرّ به الفيزيائي اللاأدري[42] الكبير (بول ديفيس) (Paul Davies) من أنّ قوانين الفيزياء “تبدو نفسها نتيجة لتصميم غاية في الإبداع”.[43]
- محض وجود القوانين الفيزيائية هو أمر غير متوقّع في كون مادي أعمى، ولذلك كتب (ريتشارد فينمان) (Richard Feynman) –الحائز على جائزة نوبل في الفيزياء-: “محض وجود قوانين من الممكن فحصها هو أمر من جنس المعجزات؛ فإمكان وجود قانون، مثل قانون التربيع العكسي للجاذبية، هو ضرب من المعجزات. هذا أمر غير مفهوم البتة”.[44]
- دعوى أنّ الكون قد بدأ من العدم المحض عاجزة عن فكّ اللغز الأكبر وهو: من أين جاءت المعلومات (information) إلى هذا الوجود الذي لا يمكن أن يقوم بخواصه الكثيرة والمتشعبة دونها؛ إذ إنّ العدم المحض للمادة يطابق العدم المحض للمعلومات؟!
- حتى لو افترضنا –جدلًا-أنّ الكون بلا بداية، يبقى السؤال قائمًا: لماذا توجد الجاذبية من الأزل؟ ولِمَ تحمل هذه الخصائص الرياضية دون غيرها؟
كثيرًا ما يستذكر العقلاء كلمة (أينشتاين): “عالِم الطبيعة، فيلسوف بائس”،[45] ولعلّ الأمر يبلغ أسوأ من ذلك عندما تتحكّم في العالم حماسته العقدية ليجعل الكون المعقول غير معقول!
- السببية في عالم الكم
تقوم دعوى نشأة الكون من الفراغ المتذبذب على أصلِ النشأة (اللاحتمية) (non-deterministic) للجسيمات الافتراضية في عالم الكمّ، فهي جسيمات تظهر كتذبذبات عفوية للطاقة الموجودة في الفراغ تحت الذري، وهو ما استنتج منه عدد من علماء الكم أنّ هذه الجسيمات تظهر بلا سبب،[46] ولكنّ هذه الدعوى غير أمينة في نقل حقيقة فهم علماء الفيزياء لهذه الظاهرة.
- خدعوك فقالوا…!: يعمد أنصار التفسير الكمومي في الغرب إلى إهمال ذكر أنّ وجود الجسيمات الافتراضية محلّ جدل علميًا،[47] والأخطر من ذلك إخفاؤهم أنّ لظاهرة نشأة الجسيمات وانعدامها غير المفهوم عشرات التفسيرات، وما التفسير اللاحتمي، والمعروف بـ(تفسير كوبنهاغن) (Copenhagen interpretation)،[48] إلا واحد منها، وكثير من التفسيرات الأخرى -كتفسير (دافيد بوم) (David Bohm)- هي تفسيرات (حتمية) (deterministic)، أي إنّها ترى لنشأة هذه الجزئيات الافتراضية أسبابًا ضمن آليات قانونية مستقرة تعود إلى أسباب أوّلية، وهو ما كان عليه (أينشتاين) الذي رفض بشدة (تفسير كوبنهاغن)، علمًا أنّ جلّ التفسيرات المتاحة (للشكلية الرياضية) (mathematical formalism) لميكانيكا الكم هي حتميّة بصورة تامة. [49]والخلاف بين (تفسير كوبنهاغن) وتفسير (بوم) -أهم منافس لـ(تفسير كوبنهاغن)- ليس في تحقيق المعرفة بعالم الكم، وإنما –كما يقول الفيزيائي المشهور (جون بولكنغهورن) (John Polkinghorne) –وهو على مذهب الكوبنهاغيين-في كتابه: “نظرية الكم: مقدمة مختصرة جدًا”- : حول أمور خارجية متعلقة بالموقف الشخصي للعالِـم من شكل النظرية (كعدد افتراضاتها، وقدرتها على استيعاب عدد أكبر من الظواهر)،[50] بل إنّ هناك تفسيرات للظاهرة الكمومية من المستحيل نقض أي منها على أساس كمومي بحت، وبإمكان كل منها أن تفسّر النتائج التجريبية الملاحظة،[51] وهو ما جعل الفيزيائي(جيمس كاشنج) (James Cushing) يصرّح أنّ “اعتبارات الدقة التجريبية والاتساق المنطقي وحدها لا تلزمنا بقبول النظرة اللاحتمية”،[52] ولذلك لم يغتر الفيزيائي (روجر بنروز) بموافقة (تفسير كوبنهاغن) للتجارب والحسابات الرياضية، بل صرّح أنّ هذا التفسير مع ذلك “لا معنى له البتّة” “makes absolutely no sense”![53]
كما أثبت استقراء اختيارات العلماء في السنوات الأخيرة أنّ (تفسير كوبنهاغن) في نزول، فما عاد هو التفسير المهيمن كما كان حتى الثمانينات من القرن الماضي، حتى إنّ إحدى الإحصائيات الأخيرة أظهرت أنّ 44% من المستفتى آراؤهم لا يفضلون أيّ تفسير مطروح، في حين اختار 17% الاهتمام العملي البحت على الجانب النظري، وقال نصفهم إنهم قد غيروا مذهبهم مرة واحدة أو أكثر، بل وتفوق تفسير (بوم) (17%) على (تفسير كوبنهاغن) (11%)،[54] وفي إحصائية أخرى فضلت الأغلبية (63%) تفسير (بوم)، ولم يختر (تفسير كوبنهاغن) غير 4%[55]![56]
علمًا أنّ عددًا من أكابر الفيزيائيين المعارضين لـ(تفسير كوبنهاغن) كانوا في يوم من الأيام من أنصاره قبل أن تنكشف لهم رخاوة البناء التفسيري للنظرية، ومن هؤلاء (ألفرد لاندي) (Alfred Landé) الذي ألّف كتابين مدرسيين في ميكانيكا الكم بروح كوبنهاغيّة صرفة، ثم صار من أهم معارضيها، و(لويس دي برولي) (Louis de Broglie) و(ماريو بونخي) (Mario Bunge) و(فردريك بوب) (Friedrich Bopp).[57]
وتقول أستاذة تاريخ العلوم بـ(الجامعة العبرية) (مارا بلّر) (Mara Beller) في حديثها عن تشكيك أنصار (مدرسة كوبنهاغن) في مبدأ السببية: “ربما توقع الواحد منّا أنّ أنصار (تفسير كوبنهاغن) يملكون عددًا من الحجج القوية جدًا، وإن لم تكن قاطعة للنزاع فهي على الأقلّ وجيهة جدًا، ولكنّ القراءة النقدية كاشفة أنّ كلّ دعاوى الجزم الواسعة -أو لِنقُل بعيدة الاحتمال- قائمة علىحجج دائرية مضطربة، وتقريرات حدسية جذابة ولكنها خاطئة… ليست اللاسببية في كتابات (بور) و(هايزنبرغ) و(بولي) و(بورن) عبارة محددة بدقة قاطعة، وذلك على وجه التحديد لأنّ اللاسببية تُستعمل كأداة شرعنةٍ، وكسيف لمحاصرة الخصوم، ولذلك يتغيّر معناها من نص إلى آخر، ومن سياق إلى آخر”.[58]
كلّ ما سبق دال أنّ (تفسير كوبنهاغن) هو أبعد ما يكون عن أن يمثّل أرضًا صلبة للتفسير غير السببي لنشأة العالم؛ فنجاحه العملي لا تعلق له بصحة تفسيره للعالم الكمومي، ولذلك قال الفيزيائي الملحد (فكتور ستنجر) –بعد اعترافه بالخلاف العلمي بين علماء الكم- إنه علينا أن نبقى “متفتحين على إمكانية أن تظهر يومًا ما أسبابُ هذه الظاهرة.” [59]
انتفاء الحتمية والسببية في عالم تحت الذرة هو مجرّد دعوى لفريق من العلماء وليس هو بقول نهائي لـ(عِلم الكَم)، ولا هو محلّ إجماع، وإنما هو المذهب الأشهر في القرن الماضي، وهو اليوم يفقد شعبيته بصورة واضحة بين المتخصصين. |
- المصادرة على المطلوب: أغلوطة “افتراض المقدمة” أو كما تعرف باللاتينية (petitio principii) وتسمى اليوم بالإنجليزية: (begging the question) أصلٌ تقوم عليه كثير من استدلالات الملاحدة لعقيدتهم، وهي هنا ظاهرة لائحة؛ إذ تدلّ جميع الشواهد وتقريرات الموضوعيين من علماء الكم أنّ اللاسببية مبدأ فلسفي/ميتافيزيقي مقحم على حقائق دراسات عالم تحت الذرة؛ إذ لا يقول أحد باللاسببية في عالم تحت الذرة لداع موضوعي حاسم يستدعي مفارقة أصل القول بالسببية؛ فقد جاء مثلًا في )دليل أوكسفورد للسببية(، في مقال: “السببية في ميكانيكا الكم”: “ليس بإمكان الملاحظة وحدها أن تلغي بصورة نهائية إمكانية فهم ميكانيكا الكم على الطريقة (البومية) [=نسبة إلى )دافيد بوم(] كنظرية صحيحة لعالم حتمي [العلاقات].”[60] فالقول باللاسببية مسقَط على الواقع وليس منعكسًا عنه.
ومما يؤكد ما سبق حالُ الشك والاضطراب المهيمن على الدراسات الكمومية عند تأسيس القواعد النظرية، وهو ما ألزم فيلسوف العلوم (الفيزياء) )ريتشارد هيلي) (Richard Healey) في مؤلّفه “فلسفة ميكانيكا الكم” أن يقول إنه لا توجد نظرية واحدة تفسّر بصورة تامة ميكانيكا الكم، “وإنما نحن في مواجهة عدد هائل من المحاولات لفهم ميكانيكا الكم. في الحقيقة، يبدو في بعض الأحيان وكأنّ هناك محاولات متنوعة بنفس عدد الذين قدموا محاولات جدية.”[61] أي إنّ كلّ محاولة جديدة للفهم تقدّم نظرية جديدة لفكّ لغز عالم الكم! ومن أوضح ما يعبّر عن حجم الشك والحيرة بين العلماء، قول الفيزيائي (جون غربن) (John Gribbin) في موسوعته العلمية “ Q is for Quantum: An Encyclopedia of Particle Physics” تحت مادة (التفسيرات الكمومية): “…بإمكانك أن تفضّل تفسيرًا في أوّل أيّام الأسبوع وآخرَ في آخر الأسبوع، ولكنّ الأمر الذي يجب ألّا تفعله هو أن تؤمن بأنّ أيًّا من التفسيرات الكمومية تمثّل الحقيقة“!![62]
وجدير بالإضافة هنا الإشارة إلى تأثير القناعات الفلسفية على الخيارات العلمية في فهم عالم الكم بين العلماء،[63] وهو ظاهر مثلًا في إقرار أكثر من نصف المشاركين في إحصائية بين العلماء عن الموقف من النظريات الكمومية (58%) أنّ اختيارهم العلمي نابع من موقفهم الفلسفي الشخصي،[64] بل إنّ (ماكس بورن) (Max Born) –الحائز على نوبل في الفيزياء- نفسه قد أقرّ صراحة أنّ إنكاره للحتميّة هو اختيار فلسفي وليس اختيارًا فيزيائيًا.[65]
خلاصة الأمر إذن هي أنّ التفسير اللاسببي ليس نابعًا من دلالة اللاسببية في الكون عليه، وإنما نابع من تسليم طائفة من الفيزيائيين بإمكان اللاسببية في الطبيعة، ولما سلّموا لهذا الافتراض سمحوا لأنفسهم أن يقرؤوا عالم الكم قراءة لاسببية. فيكون خلافنا مع من يستدلون بالظاهرة الكمومية خلافًا فلسفيًا/ميتافيزيقيًا، وليس خلافًا علميًا، ولذلك فاستدلالهم بلاسببية عالم ما تحت الذرة لإثبات اللاسببية في الكون مصادرة على المطلوب؛ فإنّ الملاحدة قد افترضوا اللاسببية في الكون –تبعًا لتأثّر أئمة مدرسة كوبنهاغن بفلسفة الوضعية المنطقيّة التي تقوم على الأخذ بالظواهر دون النبش في ما وراءها- للتدليل على وجود اللاسببية. وبعبارة تكاد تطابق ما نقول، قال (دافيد بوم): “استنتاج أنّه لا توجد درجة أعمق للحركة المحتّمة سببيًا، ليس إلا ضربًا من التفكير الدائري؛ إذ لا يلزم ذلك إلا إذا افترضنا سلفًا عدم وجود تلك الدرجة.“[66]
ولا شكّ أنّ موقف القائلين بالسببية هو الأقوى لأنّهم يعتقدون أنّ السببية مبدأ ميتافيزيقي، وأنها من جوهر أشياء الكون، وهم يُجرون هذا الأصل الذي يقوم عليه وجود ما فوق الذرة على عالم ما دون الذرة دون أن يقوم عليهم برهان فلسفي أو علمي جاد. كما أنّهم يقررون مع الفيزيائي البارز (مهدي غولشني) -أحد القضاة المحكّمين في جائزة (تمبلتون) المعروفة، والمتخصص في فيزياء الكم- أنّه لا يجوز للعلماء إلا أن يقولوا: “ليس عندنا يقين في الطبيعة لأنّه عندما نجري تجربة، فنحن نتدخّل في الأمر، وبالتالي فإنّ الأمر ليس إلا جهلًا معرفيًا وليس جهلًا وجوديًا.” [67] والملاحدة هنا يحاولون استغلال دقة عالم الذرة وخفائه لافتراض غياب السببية،[68] غير أنّ الخفاء ليس حجة لأحد من المتنازعين (أنصار السببية ومخالفيهم)، ويبقى أن يُجرى على الأصل المتيقّن حتى ينتقض ذلك (!) بدليل يقيني.
نفي السببية في عالم تحت الذرة ليس عليه برهان علمي، وإنما هو افتراض قائم على (حجّة الجهل)، وهو يحتاج إلى افتراض إمكانه سلفًا، وليس ذلك بممكن لأنّ السببية مبدأ ميتافيزيقي وليست دعوى تجريبية. |
- هل بإمكاننا أن نعلم؟: عالم ما تحت الذرة عصيّ على الملاحظة والفهم إلى درجة عالية، بسبب ضعف مقدراتنا الذهنية وغرابة هذا العالم، حيث نعجز عن ملاحظة واقعه بالصورة المألوفة، كما أن تفاعلات عناصره غير مألوفة؛[69] ولذلك ذهب عدد من المفكرين إلى أنّه علينا أن نتعامل مع قوانينه والجسيمات الافتراضية لميكانيكا الكم بلغة غير واقعية، أي أن نأخذ تقريرات ميكانيكا الكم كتقريرات تعكس معرفتنا (أو لغتنا) الواقعية، لا العلاقات الموضوعية في عالم تحت الذرة. وهو ما يعني أنّ العالم الكمومي ليس لاحتميًا على الحقيقة، وإنما حدود معرفتنا القاصرة عن معرفة الأسباب الخفية هي التي توحي لنا بهذه اللاحتمية التي يتسلّل من خلالها الملاحدة للقول إنّ الكون قد ينشأ عن لاشيء، [70]ولذلك كتب الفيلسوف التوماوي (إدوارد فزر) (Edward Feser) في وجوب التواضع المعرفي عند تناول الظواهر الكمومية، قائلًا: “لا يلزم من فشل النظرية الكمومية في تحديد سبب لظاهرة ما ألا يوجد لها سبب؛ إذ إنّ النظرية لا تلتقط كلّ صفات الظاهرة التي تصفها في المقام الأوّل. غياب شيء ما في عرض الطبيعة لنفسها ليس كعرض عدمه في الطبيعة. إنّ غيابه في الظهور لا يرجّح حتى عدمه في الطبيعة إذا سبق لنا العلم بصورة مستقلة أنّ العرض سيغفله حتى لو كان موجودًا هناك“.[71] فطبيعة معرفتنا بخفاء عالم ما دون الذرة تلزمنا ألّا نبني قوانين على ما قد يخفى منه؛ ولذلك يحسن بالعقل البشري أن يقف عند حدود إدراكه، وأن يجعل ما يعرفه، وهو قانون السببية، أصلًا لفهمه للعالم، وألّا ينكر هذا الأصل دون بيّنة واضحة (!) يدركها العقل أو تجسّها الحواس. إنّ على عالم الفيزياء أن يكفّ يده عن محاولة هدم الثوابت العقلية ومألوفاتنا الحسيّة والتجريبية بدعوى أنّ عالم الذرّة وما دونها يقرّر غير المألوف ولا المتصوّر؛ إذ إنّ عالم الفيزياء هذا ذاته عاجز عن القطع بحقيقة أبسط مظاهر عالم دون الذرة، وهو الإلكترون؛ إذ إنّ العلماء إلى اليوم في حيرة من حقيقة حال هذا الشيء، هل هو جسيم أم موجة؟، وهو أمر أبسط بكثير من القول في الأمور المركّبة الكبرى أو الخفيّة!
ويذهب الفيلسوف المعمّر (مورتيمر أدلر) (Mortimer Adler) إلى القول إنّ العلم التجريبي عاجز بطبيعته عن حلّ لغز حقيقة السببية في (عالم الكم)، وإنّ الفلسفة وإن لم تكن تملك الحل القاطع –كما يقول-إلا أنها “قادرة على تقديم سبب جيّد للقول إنّ حقيقة عالم ما تحت الذرة أنّه حتمي بصورة جوهرية. والسبب هو أنّ العلماء المنظّرين للعالم الكمومي يعترفون بصورة مكررة أنّ حدسهم وقياساتهم المشوشة هي سبب اللاحتمية التي ينسبونها إلى أشياء وأحداث ما تحت الذرة، وهو ما يعني أن اللاحتمية لا يمكن أن تكون جوهرية لواقع ما تحت الذرة”، موافقًا (أينشتاين) في أنّ علم الكم غير كامل في وصفه لعالم ما تحت الذرة، وإن كان لم يتابعه حول إمكان العلم بالأمر لاحقًا.[72]
ولعلّ أبرز ظاهرة تكشف خفاء (عالم الكم) هي أنّ الكثير من الفيزيائيين اليوم يدعون إلى هجر النظر في التفسيرات والاهتمام فقط بالأمور الحسابية (وهي قد لا تعكس اختلاف التفسيرات)، رافعين شعارًا ذاع حديثًا، وهو: “اخرس وعُدّ” ” Shut up and calculate”؛ إذ لا يجني الباحث عن تفسير أنطولوجي لعالم الذرة وما دونها غير الظنّ والوهم!
- فماذا لو قبلنا التفسير اللاحتمي؟ لا يلزم من قبول التفسير الكوبنهاغي لعالم تحت الذرة القول بنشوء الشيء من لاشيء؛ إذ إنّ حدوث الأثر لا يكون إلا بتوفر مقدماته، فرغم أنّ توفّر هذه الشروط ليس سببًا حاسمًا لوجود الأثر إلّا أنّ وجودها شرط لازم لإمكان حدوث الأثر، فنحن نميّز –كما يقول المناطقة- بين “الشرط الضروري” “necessary condition” و”الشرط الكافي” “sufficient condition”، فالشرط الضروري لا يستغني عنه الشيء ليُحتمل وجوده، أمّا الشرط الكافي فيترتب عنه الأثر ضرورة، ومن ذلك أنّ حضور الطالب الامتحان شرط ضروري لنجاحه، وإن كان لا يلزم من ذلك أن ينجح، في حين أنّ تقديمه أجوبة صائبة شرط كاف لنجاحه، أي: إنّه يترتّب عن ذلك نجاحه يقينًا.
وبعبارة متصلة بما نحن بصدده نقول: خروج الجسيم إلى الوجود تمّ بسبب توفّر شروط ضرورية هي عالم الكم وقوانين الكم، وفي غياب هذا العالم وقوانينه لا يمكن للجسيم أن يظهر، لكنّ توفّر هذه الشروط وحدها لا يلزم منه حدوث الأثر (ظهور الجسيم)، فتوفّر الشروط السببية حتم لظهور الجسيم وإن كان توفّرها لا يحتم ظهوره. وبفهمنا للاحتمية عالم الكم على هذه الصورة يمكننا أن نقرر أنّ عالم الكم لا يقدّم نموذجًا يقاس عليه للقول بنشأة الكون من العدم المحض، وإنما لا بدّ من توفّر شروط سببية، وفي هذا يقول الفيلسوف (كيث وارد) (Keith Ward): “في فرضية التذبذب الكمومي، لا يمكن للكون أن يظهر للوجود إلا أن توجد مجموعة متوازنة تمامًا من القوى الأساسية، واحتمال محدد دقيق لتذبذبات معينة تقع ضمن هذه المجموعة، وزمكان من الممكن أن تقع فيه التذبذبات. إنه (لاشيء) بالغُ التعقيد والضبط!”. [73]
لم تمرّ خديعة العدم الخالِقِ التي ادّعاها (كراوس) دون توبيخ، ومن ذلك قول عالم الكوسمولوجيا (جورج ف. ر. إليس) (George F. R. Ellis) -الذي يعدّ من أعلام فنّه في العالم، وهو أحد الذين شاركوا (ستيفن هوكنز) أحد كتبه[74]– إنّ (كراوس):
- لم يفسّر كيف وجدت الأشياء التي تكّون منها عالم ما قبل كوننا.
- لم يفسّر لِم وُجدت ابتداءً.
- لم يفسّر لِم تحمل الشكل الذي أخذته لاحقًا.
- لم يقدّم أي برهان تجريبي أو من الممكن ملاحظته لاختبار دعاويه حول آلية نشأة الكون.
- لم يبيّن كيف من الممكن اختبار ما وُجد قبل وجود الكون.
- ما قدمه ليس من العلم في شيء، وإنّما هو دعوى فلسفية يعتنقها بحرارة إلى درجة أنه ليس بحاجة إلى أن يقدّم عليها أي برهان محدد لإثباتها.
- زعم أنّ المعادلات الرياضية التي اقترحها كافية للإجابة على الإشكال الفلسفي الذي ظلّ قائمًا لآلاف السنين.
وانتهى إلى تقرير أنّ الزعم أنّه بالإمكان أن نفهم الواقع بصورة كاملة من خلال الفيزياء ومعادلاتها ليس إلا وهمًا.[75]
تلزم الحقائق السابقة الملحد أن يثبت أزلية مكان ما قبل وجود الكون، ليتقهقر السؤال عن أصل الكون مرتبة واحدة إلى الخلف دون أن يقدّم له الملحد جوابًا. وهو ما جعل (بول ديفيس) –المنتصر للخلق الصدفوي من المجال الكمومي- يعترف أنّ أصل الزمكان قبل ظهور المكان والزمان في عالمنا هو أمر ملغز![76]
- خلق من عدم أم مجرّد تحوّل حال؟: إنّ الجسيم الذي يزعم الملاحدة أنه نشأ من لاشيء لا يمثّل “خلقًا من عدم”، إنما هو في الحقيقة انتقال من حال فيزيائي إلى آخر؛ فهو تحوّلٌ للشيء من حال الطاقة إلى حال المادة، فهذا الجسيم إنما يستمد وجوده من الطاقة ولولاها لم يكن؛ فهو لا يخرج إلى الوجود الفيزيائي من العدم المحض وإنّما يأخذ من الطاقة مادته ليكون نفسه، ثم يعود بعد فترة قصيرة جدًا إلى حال الطاقة.[77]
نحن هنا إذن بإزاء تحوّل في طبيعة المادة، من وإلى الطاقة، ولسنا بصدد نشوء المكان والزمان والمادة أو الطاقة، وهذا ما يجعل مثال هذا الجسيم غير صالح لأن يقاس عليه القول بخروج الكون من العدم دون سبب. وقد اضطر الفيلسوف الملحد (كونتن سميث) إلى الإقرار أنّ هذه الأمور تكشف أنّ حال هذا الجسيم “هو في أفضل اعتبار يظهر أنّ قوانين لاسببية تحكم تغيّر حال الجسيم، كتغيّر موقع جسيم ما من نقطة إلى أخرى.” نافيًا أن يكون لها أدنى تعلّق بسببية البدايات المطلقة لوجود الجسيمات.[78]
ثمّ إنّ افتراض نشأة الكون من لا شيء دون سبب، هو أمر متهافت غير مفهوم؛ إذ يلزم منه أنّ النشأة الأولى قد اختارت كوننا بمواصفاته دون أي شيء آخر، رغم غياب السبب للإيجاد والاختيار؟ وهنا لنا أن نسأل: ما مبرر التخصيص الحتمي لمادة الكون دون غيرها إذا كان الأمر برمته غير مبرر ولا مسبب؟! ولماذا يفترض الملحد في الخلق من عدمِ القصد والتخصيص؟! ولماذا ظهر كلّ من المكان، والزمان، والمادة، والطاقة؟!
البرهان الوحيد المدّعى لظهور الشيء من العدم، هو في حقيقته مجرّد تحوّل شيء موجودٍ من صفة إلى أخرى وليس انبثاقًا من اللاشيء! |
- قياس فاسد علميا: افتراض الكوبنهاغيين نشأة الكون بفعل قانون الكم الذي تنشأ بسببه الجسيمات الافتراضية، بعيد، لأنّ هذه الفرضية تزعم أنّ هذه النشأة قد حدثت قبل (جدار بلانك)، أي عندما كان حجم الكون ضئيلًا جدًا حتى إنّ قوانين الكم نفسها تتعطّل فيه. كما أنّ قصر عمر الجسيمات الافتراضية إذا ربط بحجم الكون في بدايته يلزم منه أن يكون عمر كوننا من بدايته إلى نهايته في حدود (10-103) ثانية،[79] وهو أمر ضئيل جدًا إلى درجة أنه ليس بإمكاننا حسيًا أن نشعر بوجود هذا الكون عند ظهوره، ومعلوم أنّ كوننا أعظم من ذلك عمرًا ببعيد.
- هل علينا أن نتخلّى عن مبدأ السببية؟: يطرح الفيلسوف (رم ب. إدواردز) (Rem B. Edwards) اعتراضًا على المحتجين بالنشأة العفوية للجزئيات الافتراضية في عالم ما دون الذرة بقوله: “إذا كانت معرفة السببية الكونية ضمن العالم والمستقاة من داخل العالم لا يمكن تطبيقها على نشأة العالم، فإنّ معرفة الآثار الكمومية المستقاة من العالم لا يمكن تطبيقها أيضًا”؛[80] فرفض قانون السببية المكتسب من هذا العالم، عند من لا يرون بديهيته، يجب ألّا يُقصى من النظر عند البحث عن نشأة الكون بدعوى أنّ هذا القانون خاص بعمل الكون لا نشأته، ليفضَّل عليه قانون اللاسببية الكمومية (المزعوم)، لأنّ قانون الكمومية هو أيضًا خاص بعمل ما دون الذرة ضمن حياة العالم، وليس نشأة العالم. فإذا كانت السببية مرفوضة بسبب أصلها العالمي، فكذلك اللاسببية يجب أن ترفض لأنها عالمية الأصل أيضًا –على دعوى أنصارها!.
- الحاجة إلى حجّة: لا توجد حجّة علميّة واحدة تربط مباشرة بين نشأة الكون وظاهرة التذبذب الفراغي؛ إذ ليس بين الأمرين ما يدلّ على أنّ آلية نشأة الكون من العدم هي كآلية نشأة الجسيمات الافتراضية في عالم الكم. وقد كتب (فكتور ستنجر) -أحد أهم المنتصرين لدعوى نشأة الكون من التذبذب الفراغي اللاحتمي- قائلًا: “ليس كلّ شيء محتاجًا إلى سبب. من الممكن أن يقع الشيء بصورة عفوية كما هو حال الكثير من المجموعات الخطية في الكون والتي لها عدد كمومي في الفراغ.” وأضاف مع ذلك مقرًا أنّه “لا تزال الكثير من الأمور في مرحلة التخمين، ولا بد أن أعترف أنه لا توجد إلى الآن اختبارات تجريبية أو قائمة على الملاحظة من الممكن اعتمادها لاختبار فكرة الأصل الصدفوي.” [81]
والنظر في طبيعة نشأة هذه الجسيمات الافتراضية والتي يدلّ عليها الأثر ولا تظهر بنفسها للملاحظة، عند من يرون وجودها أصلًا، يكشف أنّها تظهر وتختفي في زمن ضئيل جدًا، هو أجزاء من الثانية، وهو ما يجعلها أبعد شيء عن هذا العالم الذي وجد بكامل كيانه، مجتمعًا في نقطة واحدة تمددت بعد ذلك لتكوّن هذا العالم العتيق والفسيح.
ما الذي نحن بإزائه إذن؟! إنه الإيمان الأعمى القائم على الرغبة النفسيّة في الهروب من فكرة مخالفة، والسعي إلى فكرة تحقّق الرضى الذاتي دون برهان موضوعي! وهذا هو عين ما ينكره الملاحدة على المؤمنين بالله!
-ب-
وجوب القول بالتسلسل
يتمثّل الاعتراض الإلحادي التقليدي على (دليل الحدوث) في القول إنّه يلزم من التسليم بأنّ الكون –كمجموع أو كأفراد- بحاجة إلى سبب، أن يكون لسبب وجود الكون سببٌ لوجوده. وهو ما يعني أنّ سلسلة الأسباب ستمتد إلى الماضي، إلى ما لا نهاية، وهو ما يفسد حجة المؤلّهة الذين يرون أنّ الخالق هو “السبب الأوّل”، ولا سبب قبله.
الردّ على هذا الاعتراض يَظهر في بيان امتناع التسلسل في الماضي، وبيان أنّ الوجود لا يتحمّل اللانهائية واقعًا. وهو ما سنثبته من وجهين:
- بطلان وجود اللاتناهي واقعيًا.
- عدم إمكان تحصيل اللاتناهي واقعيًا من خلال جمع أفراد الأشياء.
أولا: فساد اللاتناهي الواقعي
لا سبيل لإثبات الزعم الإلحادي القائل بأزليّة الكون إلا بعد التسليم بإمكان (اللاتناهي) (infinity) الفعلي في الواقع. ولا سبيل لإثبات إمكان (اللاتناهي الفعلي)، لترتّب المحالات (absurdities) على القول به، مما يحتّم القول بفساد دعوى دخول اللاتناهي إلى الوجود الكائن، أي إنّه لا يمكن لـ(لاتناهي) أن يوجد في عالم الحقيقة، وسبب هذا الامتناع أنّه تترتب على وجوده أمور يقطع العقل أنها فاسدة. ومن هذه المحالات:
- تفاضل اللامتناهيات، وهو أمر محال (absurd)؛ إذ كيف تتفاضل المتساويات، فيكون أحدها أكبر من الآخر أو أصغر منه؟!
- حاجة اللامتناهي إلى زيادة، وهذا فاسد ضرورة لأنّ اللامتناهي لامتناهٍ، فلا معنى للزيادة عليه!
- الزيادة الواقعية للامتناهي، وهو أمر مخالف لطبيعة اللاتناهي.
- تساوي غير المتماثلات، أي مساواة الشيء لما هو أكبر منه أو أصغر، وهذا مخالف للبداهة!
ويأتيك التفصيل:
[1] تفاضل اللامتناهياتقال (أبو حامد الغزالي): “قِدَم العالم محال، لأنه يؤدي إلى إثبات دورات للفلك لا نهاية لأعدادها ولا حصر لآحادها، مع أن لها سدسًا وربعًا ونصفًا، فإنّ فلك الشمس يدور في سنة، وفلك زحل في ثلاثين سنة، فتكون أدوار زحل ثلث عشر أدوار الشمس، وأدوار المشتري نصف سدس أدوار الشمس، فإنه يدور في اثنتي عشرة سنة؛ ثم كما أنه لا نهاية لأعداد دورات زحل، لا نهاية لأعداد دورات الشمس، مع أنه ثلث عشره، بل لا نهاية لأدوار فلك الكواكب الذي يدور في ستة وثلاثين ألف سنة مرة واحدة… فلو قال قائل: هذا مما يعلم استحالته ضرورة فبماذا تنفصلون عن قوله؟!”[82]
يقصد الغزالي من قوله إنّه إذا افترضنا –جدلًا- أنّ هذه الأجرام السماوية تدور في مداراتها منذ الأزل، مع علمنا أنّ دورة الفلك (أ) تساوي نصف سدس دورة الفلك (ب)، فإنّ هذا يلزم منه أمران متناقضان:
الأول: لما كان (أ) و(ب) موجودين منذ الأزل، لزم أن يكون عدد مرات دورانهما في فلكهما لا متناه لكلّ واحد منهما؛ إذ إنّ دوران الشيء في فلكه منذ زمن لامتناهٍ، لامتناهٍ عددًا.
الثاني: لما كان (ب) يحتاج 12 دورة في فلكه حتى يُتم (أ) دورة واحدة حول فلكه، لزم أن يكون عدد دورات (أ) في فلكه أكبر من عدد دورات (ب) في فلكه 12 مرة؛ إذ إنّ الفارق بين الشيئين لا بدّ أن يتضاعف بقدر تضاعف عدد هذين الشيئين.
= لا يمكن الجمع بين القولين الأوّل (تساوي الدورتين عددًا) والثاني (تفاضل الدورتين عددًا)، لاستحالة ذلك.
[2] حاجة اللامتناهي للزيادةقال (الغزالي): “أعداد هذه الدورات شفع أو وتر؟ أو شفع ووتر جميعًا؟ أو لا شفع ولا وتر؟ فإن قلتم: شفع ووتر جميعًا، أو لا شفع ولا وتر، فيعلم بطلانه ضرورةً، وإن قلتم: شفع، فالشفع يصير وترًا بواحد، فكيف أعوزه ما لانهاية له واحد؟، وإن قلتم: وتر، فالوتر يصير بواحد شفعًا، فكيف أعوز ذلك الواحد الذي به يصير شفعًا؟! فيلزمكم القول بأنه ليس بشفع ولا وتر.
فإن قيل: إنما يوصف بالشفع والوتر، المتناهي، وما لا نهاية له فلا.
قلنا: فجملة مركبة من آحاد، لها سدس وعشر كما سبق، ثم لا توصف بشفع ولا وتر، يعلم بطلانه ضرورة من غير نظر، فبماذا تنفصلون عن هذا؟!”[83]
يقصد (الغزالي) من إلزاماته السابقة أنّ دورات الأجرام السماوية في أفلاكها لها حال من أربع:
الأولى: زوجية وفردية معًا. وهذا محال بداهة لأنّ العدد لا يكون زوجيًا وفرديًا في نفس الآن.
الثانية: لا زوجية ولا فردية. وهذا محال بداهة لأنّ العدد لا يخرج عن الزوجي والفردي. ولا يمكن تجويز هذا الاحتمال بالقول إنّ ما لا يتناهي من الممكن أن يكون لا زوجيًا ولا فرديًا؛ إذ إنّ كل ما هو مجموع آحاد لا بد أن تكون محصّلته فردية أو زوجية، وكذلك هو حال ما كان له نصف وربع وسدس…
الثالثة: زوجي.
الرابعة: فردي.
لا احتمال لنا إذن سوى الزوجي أو الفردي، لكن يقع هنا إشكال، وهو: إذا كان الزمان لامتناه، فكيف يحتاج العدد الزوجي من الدورات إلى واحد ليصير فرديًا؟! وكيف يحتاج العدد الفردي من الدورات ليصير زوجيًا؟! إنّ الحاجة إلى زيادة تقتضي أنّ العدد متناه، في حين أنّ دورات هذه الأفلاك لامتناهية لأنّها بدأت من الأزل!
[3] حصول زيادة اللامتناهي واقعيا
اللامتناهي، هو ما لا نهاية له، وهي صفة يلزم منها ألّا إمكان للزيادة عليه، ونحن نعلم في المقابل أنّ الزمن تحصل له زيادات كلّ لحظة تدخل إلى الوجود، وهذا تناقض. قال (ابن حزم): “ما لا نهاية له فلا سبيل إلى الزيادة فيه، إذ معنى الزيادة إنما هو أن تضيف إلى ذي النهاية شيئًا من جنسه يزيد ذلك في عدده أو في مساحته. فإن كان الزمان لا أوّل له يكون به متناهيًا في عدده الآن، فإذن كل ما زاد فيه ويزيد مما يأتي من الأزمنة منه فإنه لا يزيد ذلك في عدد الزمان شيئًا.” [84]
وبإمكاننا أن نمثّل لهذا الأمر في واقع الأشياء برجل يملك جنيهات بعدد أيام الزمان اللامتناهي في الماضي، ثمّ أراد شخص أن يهديه مبلغًا من المال، فهل يزيد ذلك في رصيده شيئًا؟ إن قلت: “نعم!”، فقد جعلت اللامتناهي يزيد في عدد أفراده، وذاك محال! وإن قلت: “لا!”، فقد جعلت الزيادة كعدمها، وهو أيضًا محال!
[4] تساوي غير المتماثلاتاحتجّ الغزالي كغيره من المتكلّمين “بدليل التطبيق”، وهو ببساطة أن نرسم خطًا زمنيًا يمتد من النقطة (أ) الزمنية إلى الأزل. ونرسم نفس الخط الزمني كالأول غير أننا نضيف خطًا زمنيًا محدودًا إلى الطرف المتناهي منه؛ ليكون لنا في النهاية خط زمني أوّل وخط زمني ثان أطول منه. إذا “طبّقنا” الخط الأول على الثاني، وجدنا أنّ الخط الثاني أطول من الأوّل.
نجد أنفسنا هنا أمام محالَين:
الأول: السلسلة الأولى التي تبدأ من الأزل أقصر من الثانية، والناقص لا يكون أزليًا.
الثاني: السلسلة الثانية التي تبتدئ من الأزل أكبر من السلسلة الأولى بمدة محدودة، وما زاد على المحدود بمحدود، فهو محدود، أي لا يكون أزليًا.
النتيجة: لا يمكن لمجموع الأحداث التي تكوّن الخطّ الزمني أن تكون أزليّة لأنها تقود إلى محال عقلي عند تطبيق السلسلة الأطول على السلسلة الأقصر الداخلتين في الماضي.
مثال:
الأزل——————–*2020م
الأزل——————–*2020م——2036م
القول بأنّ المدة الممتدة من الأزل إلى سنة 2020م أقصر من المدة الممتدة إلى سنة 2036م يلزم منه محال عقلي:
- ما ابتدأ من الأزل لا بدّ أن يكون أزليًا؛ لكنّ السلسلة الممتدة إلى 2020م أقصر من الثانية وبالتالي فهي محدودة؛ إذ إنّ السلسلة الأقصر لا يمكن أن تكون أزليّة؛ فلا يكون الأزلي أقصر من غيره.
- السلسلة الممتدة من الأزل إلى 2036م أطول من السلسلة الأولى بخمس عشرة سنة، ومدة الخمس عشرة سنة هي مدّة محدودة، وما كان أطول من المحدود بمحدود، فهو محدود.
النتيجة: لا يمكن للزمان أن يكون أزليًا لأنه يلزم من ذلك محال عند مقارنة زمنين ابتدآ من الأزل وينتهيان عند حدثين متباعدين تاريخًا.
الواقع المادي لا يتحمّل وجود المتناقضات في أشيائه، ووجود المتناقضات في العالم النظري دليل عدم إمكانها في الواقع الفعلي. |
اعتراض1: إمكان التسلسل في المستقبل
يسوق الملاحدة اعتراضًا كلاسيكيًا على عدم إمكان أن يكون الماضي أزليًا، أي غير متناه في الماضي، بالقول إنّ إمكان لاتناهي الماضي متصوّر عقلًا لأنّنا نسلّم أنّ المستقبل غير متناه، ولا وجه للتفرقة بين لاتناهي الزمان في الماضي ولاتناهيه في المستقبل!
والصواب هو أنّ التفرقة بينهما ضرورية، والمغالطة في هذا الاعتراض واضحة؛ إذ إنه يجب أن نفرّق بين (اللاتناهي الفعلي) (actual infinity) و(اللاتناهي الممكن) (potential infinity)، أما الأوّل فغير ممكن لأنّ ما يدخل حيّز الوجود من أعيان الواقع لا بدّ أن ينحصر عدده؛ إذ هو مجموعة من الأشياء المحدودة عددًا، ومحال أن يكون الشيء في لحظة معينة لامتناه، وإنما هو يقينًا قابل للعدّ، على خلاف (اللاتناهي الممكن)، والذي نتخذ له كمثال اللاتناهي في المستقبل، فهو في حقيقته لاتناهٍ افتراضي لأنه يستمر في الزيادة مع الزمن، ولذلك لا يدخل تحت العدّ، غير أننا لو توقفنا في أيّ زمن من أزمان المستقبل، فسيكون ما مضى من الزمن، أي ما دخل حيّز الوجود، محدودًا، فلاتناهي المستقبل مردّه عدم دخول أفراده حيّز الوجود في طرفه المتزايد؛ ولذلك فالماضي محدود مهما تطاول قدرًا، لدخوله حيّز الوجود، أما المستقبل فلامتناه لعدم دخول أفراده حيّز الوجود.
إنّ أصل النظر في قضية إمكانية اللاتناهي في الماضي يعود إلى إمكانية وجود اللاتناهي وجودًا حقيقيًا محققًا في عالمنا. والحق هو أنّ اللاتناهي لا وجود له في الواقع وإنما هو مجرّد افتراض ذهني يُحتاج إليه في باب الرياضيات النظرية، ولذلك قال (دافيد هلبرت) (David Hilbert) -أحد أبرز علماء الرياضيات في العالم في القرنين الأخيرين: “لا وجود البتة للانهائي في الحقيقة. إنّه لا يوجد في الطبيعة ولا يقدّم أساسًا شرعيًا للتفكير العقلي. … الدور الذي بقي له أن يلعبه هو فقط في أن يكون فكرة.” [85] وهي حقيقة بدهيّة ألزمت الفيلسوف (دافيد هيوم) أن يصرّح قائلًا: “يبدو العدد اللامتناهي من الأجزاء الحقيقية من الزمن، المتتابعة، والمستنزفة، على أنه تناقضٌ جليّ لا يمكن أن يقبله أيّ امرئ غير فاسد المدارك.” [86]
للانهائية إذن مجالها الأثير في الدراسات النظرية للرياضيات، لكنّها لا تملك مكانًا في عالم الطبيعة، وبالتالي فهي عاجزة كلّ العجز أن تمد يدها لإنقاذ الدعوى الإلحادية التي لا يمكن أن تقوم لأولى خطواتها في عالم لا يعترف للزمن الواقعي باللانهائية.
اعتراض2: كانتور و”نظرية المجموعة”
قبل الأعمال الثورية في عالم الرياضيات لـ(برنارد بولزانو) (Bernard Bolzano) (1781-1848م)، و(ريتشارد ددكند) (Richard Dedekind) (1831-1916م)، والألماني (جورج كانتور) (Georg Cantor) (1845-1918م) -وهو أهممهم وأبلغهم تأثيرًا-، كان الإجماع منعقدًا بين علماء الرياضيات على مرّ التاريخ أن (اللاتناهي الممكن) هو الوحيد المقبول، أمّا (اللاتناهي الفعلي) فلا مجال لقبوله؛ فالخط يقبل القسمة على عدد لانهائي، كأن يقسم على اثنين، ثم يقسم نصفه على اثنين، وهكذا إلى ما لا نهاية، لكن لا مجال في عالم الواقع لتصوّر خط لانهائي طولًا؛ إذ يمكن تصوّر استطالة الخط إلى ما لا نهاية، لكن لا يمكن تصوّر وجوده في لحظة ما من الزمن على شكل لانهائي.[87]
ويحاول بعض فلاسفة الإلحاد الهروب من استحالة اللاتناهي في عالم الواقع بدعوى أنّ عالم الرياضيات (جورج كانتور) قد أثبت بما يعرف بـ(المجموعات اللانهائية) (infinite sets) إمكان اللاتناهي الفعلي؛ إذ أدخل مفهوم المجموعة النهائية التامة (غير التراكمية) إلى عالم الرياضيات. وهي دعوى منتقضة من ثلاثة أوجه:
الوجه الأول: واجهت نظرية (كانتور) معارضة حادة من علماء الرياضيات كـ(هنري بوانكاريه) ( Henri Poincaré)، ولاتزال مدارس رياضية كثيرة ترفضها.[88] وقد أدّى كشف )برتراند راسل( و)زرملو) (Zermelo) العديد من المفارقات في نظرية (كانتور) إلى تململ علماء الرياضيات منها حتى تخلى عنها عدد من أنصارها، ومنهم (ددكند) (Dedekind) و(فرج) (Frege).[89] كما اكتشف (كانتور) نفسه مفارقتين في نظريته.[90]
الوجه الثاني: لا يمسّ ما قرّره (كانتور) الواقع في شيء وإنما هو متعلّق بالتجريد الرياضي، ويبقى أنّ اللاتناهي محال في واقع المادة لاستلزامه محالات وتناقضات كما سبق؛ ولذلك قالت الفيلسوفة (باميلا م. هبي) (Pamela M. Huby): “لم يجعل (كانتور) اللاتناهي الفعلي مقبولًا بمعنى أنه[=(كانتور)] مكّننا من فهم كيف من الممكن أن يكون هناك لاتناهٍ فعلي لأرقامٍ واقعية. ما فعله بالأحرى هو أنه قدّم أساليب بإمكاننا من خلالها أن نتعامل بصورة مرضية وغير مشوشة مع بعض أنواع اللاتناهي (الممكن)”.[91]
كما شهد أحد المؤسسين الأوائل لـ(نظرية المجموعة) (set theory) العصرية، عالم الرياضيات (برنارد بولزانو) -صاحب كتاب “مفارقات اللاتناهي” “Paradoxien des Unendlichen” الذي نال إعجابًا كبيرًا من (كانتور)، والذي وضع الأسس العصرية لإدخال اللاتناهي الفعلي في عالم الرياضيات- أنّ المجموعات اللانهائية لا توجد إلا “في عالم الأشياء التي لا تَدَّعي الواقعية، بل ولا حتى تدّعي الإمكان“.[92] وعبّر (أبراهام روبنسون) (Abraham Robinson) لاحقًا عن هذا المعنى بقوله إنّ “لانهائيات (كانتور) مجرّدة ومنقطعة الصلة بالعالم الفيزيائي”.[93]
بل أقرّ (جورج كانتور) نفسه بصواب الاعتراض على لاتناهي الزمان في الماضي؛ فقد كتب رسالة سنة 1887م، قال فيها: “عندما يُقال إنّه ليس بالإمكان تقديم حجة رياضية لبداية العالم، يكون التركيز على كلمة “رياضية”، ورأيي في هذا يتّفق مع رأي القديس (توما [الأكويني]). ومن جهة أخرى، بالإمكان بصورة بارعة بذل حجة تجمع الرياضيات والفلسفة فقط على أساس الحجة الصحيحة للاتناهي (transfinite)، وهنا أفارق القديس (توما) الذي دافع عن النظرة التي تقول: [القول إنّ] العالم لم يوجد أزلًا [هو أمر] مُقررٌ بالإيمان فقط، ولا يمكن إثباته برهانيًا”.”[94]
الوجه الثالث: تُعَرَّف المجموعة اللانهائية بأنّها المجموعة التي يساوي كلّها جزءًا منها أو التي يساوي بعضها كلّها، وهذا التوصيف كاف ليبطل كلّ صلة للمجموعة النهائية بالواقع؛ إذ إنّ الواقع لا يقبل مساواة الجزء للكلّ. ولتبيين ذلك بإمكاننا أن نضرب مثلًا:
لنتصوّر –جدلًا- وجود مكتبة فيها كتب بيضاء لانهائية العدد، وكتب سوداء لانهائية العدد، وكتب خضراء لانهائية العدد، وكتب صفراء لانهائية العدد. وقصدنا بأنّها لانهائية هو أنّها لامتناهية في نفس اللحظة لا أنها تتزايد إلى اللانهاية. فهل بإمكاننا أن نتعامل واقعيًا مع مجموع كتب هذه المكتبة دون الوقوع في محالات؟ أدنى نظر يخبرنا بامتناع ذلك:
- عدد الكتب البيضاء في هذه المكتبة لانهائي، وهو يساوي مجموع الكتب السوداء والخضراء والصفراء؛ إذ مجموعها لانهائي. وذاك محال؛ إذ الأشياء المضاعفة أكبر مما لم يتضاعف.
- عدد الكتب البيضاء يساوي مجموع الكتب البيضاء مع بقية الكتب في المكتبة. وذاك محال؛ إذ إنّ ما يُزاد عليه يتضخم.
- لو حذفنا الكتب البيضاء كلّها، فلن ينقص من المكتبة كتاب واحد؛ إذ سيبقى العدد لامتناهيًا، وذاك محال؛ إذ الحذف يقتضي النقص.
- لو رقمنا كلّ كتب المكتبة، بأن نضع على الأغلفة أعدادًا تصاعدية بدءًا من الكتاب الأوّل الذي نضع عليه رقم (1)، والكتاب الثاني رقم (2)، والكتاب الثالث رقم (3)…، فسنكون قد استنفدنا كلّ الأعداد (من 1 إلى اللاتناهي). وهنا سنواجه مشكلة إذا أردنا أن نضع كتابًا جديدًا؛ إذ إنّنا لن نجد له رقمًا نضعه عليه بعد أن استهلكنا كلّ الأرقام عند ترتيب المكتبة. وذاك محال؛ إذ إنّ الزيادة في الواقع تقتضي أنّ للمزيد مكانًا في الترتيب.[95]
مختصر الكلام في نظرية (كانتور) و(اللاتناهي الفعلي) هو أنّ هذا اللاتناهي قد يكون مجديًا في عالم الرياضيات، لكنّه غير قابل للتطبيق واقعيًا لاستلزامه محالات ومخالفات للبدهيات.
اعتراض3: العد إلى الخلف
ذهب بعض فلاسفة الإلحاد، مثل (فكتور ستنجر)، إلى أنّ تطبيق وجود الأعداد السلبية (-1، -2، -3…) على الواقع ممكن منطقيًا، ولذلك فإننا إن تعاملنا مع الأحداث الماضية في الزمن السالف على أنها أعداد سلبية، فيمكننا عندها أن نقبل أن يكون الكون لامتناهيًا في الماضي بأن نبدأ باللحظة السالفة على أنها (إلا واحد)، والتي قبلها (إلا اثنين)، وهكذا إلى ما لا نهاية.
لا يملك الاعتراض السابق أن يحلّ المشكلة لأنّه حوّل الإشكال من العدّ من الأزل إلى العد إلى الأزل، وكلاهما متعذّر، فقد خرجنا من بداية غير مدركة إلى نهاية غير مدركة، وفي كلتا الحالتين يتعذّر العدّ!
ثم إنّ الزمن هو زيادةٌ للحظات، وتراكم لها، ولا يعرف الحذف والتقهقر. فمن اليوم إلى الهجرة مثلًا (1437 سنة هجرية) وليس (ناقص 1437 سنة). ولا تعرف الطبيعة عددًا مثل: (ناقص خمس تفاحات)، ولا (ناقص خمسة كيلوغرامات)! ليس للعدد السلبي وجود إلا في التقدير الرياضي.
اعتراض4: فماذا عن لانهائية الإله؟
هاجم (جوليان ولف) (Julian Wolfe) دعوى استحالة الزمن اللانهائي في الماضي، قائلًا إنّ “السبب الأوّل” للكون -والذي يسمّيه المؤلّهة “الله”- كائن من الأزل، وبالتالي فقد مرّ عليه زمن لامتناه، وهذا اللاتناهي يثبت إمكان وجود (اللاتناهي الفعلي) في الزمن الماضي، وهو ما يبطل القول إنّ زمن وجود العالم لامتناه لعدم إمكان اللاتناهي في الطبيعة. [96]
يقوم اعتراض (ولف) ومن قال بقوله على افتراض أنّ إله المسلمين (وعامة المؤلّهة) داخل في الزمان، فقد كان يجري عليه الزمان قبل الخلق وبعده، وهذا جهل أو مغالطة؛ إذ إنّ المعتقد الإسلامي هو أنّ الله –سبحانه- متعال على الزمان، وأنّ الزمان قد بدأ مع الخلق لأنه لا ينفك عن الخلق. وإذا كان الزمان قد بدأ مع الخلق، وكان الله ولا زمان يجري، فقد سقط الزعم أنّ الله –سبحانه- كائن من الزمن الماضي اللامتناهي، وسقط بذلك أنّ الله كائن منذ زمن لامتناه!
أزليّة الله -سبحانه- ليست في الزمان، وإنما هي لازمنية (timelessness)، فهو -سبحانه- متعال على الزمان (supra-temporal)، وهو -سبحانه-ليس في زمان لامتناه (Infinite time). هو أوّل بلا ابتداء، وليس أوّلًا بابتداءٍ زمنيّ. |
بإمكاننا الآن أن نقرّر أنّ:
- اللاتناهي الواقعي لا يمكن أن يوجد في العالم.
- الكون الأزلي هو الكون الذي جرى عليه زمن لامتناه.
- الكون ليس بأزلي.
- الكون مخلوق.
- الكون في حاجة إلى خالق متعال على الزمان.
ثانيا: لانهائية ما هو حصيلة تراكم أفراد
الزمان كما عرّفه (ابن تيمية)، هو: “مقدار الحركة”،[97] وعرّفه (الغزالي) بأنّه: “مقدار الحركة موسوم من جهة التقدّم والتأخّر”،[98] وبعبارة أخرى هو سلسلة تتابع الأحداث. فهو ليس كيانًا موضوعيًا، وإنما هو مظهر تتابع الأحداث في الكون، ولذلك فعلى الملاحدة إن أرادوا إثبات أزلية الزمان أن يثبتوا أنّ سلسلة أحداث الماضي المتعاقبة غير متناهية.
ليس الزمان شيئًا قائمًا بذاته وإنما هو أثر لحركة الكون. |
والعقل يقرر أنه لا يخلو حال هذه السلسلة من واحد من أمرين:
- هذه السلسلة لا نهاية لها من جهة الماضي، فوراء كلّ حدث حدثٌ، بلا نهاية.
- لهذه السلسلة نهاية من الماضي تبدأ منها.
أشار (أبو حامد الغزالي) أنه إذا انتهت السلسلة من جهة الماضي فيلزم من ذلك أن من أنشأها متعال على الزمان، وأنّ نشأة السلسلة بخروج أوّل أحداثها من العدم إلى الوجود يحتاج إلى مرجّح، أي من يرجّح جانب الوجود فيها على العدم.
وبالإمكان تلخيص حجّة الإمام (الغزالي) كالتالي:
- توجد ظواهر زمنية في الكون.
- سبب هذه الظواهرِ ظواهر زمنية أخرى.
- لا يمكن لهذه الظواهر الزمنية أن تكون بلا نهاية في الماضي.
- لا بد لهذه الظواهر أن تنتهي عند فعل الأزلي (أي المتعالي على الحدوث). [99]
المقدمة الثالثة هي التي يدور حولها الجدل بين المؤمنين بالله والملاحدة، ولاختبارها علينا أن نتساءل: هل من الممكن أن تكون سلسلة الأحداث غير متناهية في الماضي؟
القول إنه بالإمكان تكوين سلسلة من كلّ أحداث الماضي إلى الآن من خلال إضافة الأحداث المتعاقبة إلى بعضها، هو أشبه بالقول إنّه بإمكاننا أن ننجح في العدّ من اللامتناهي السلبي إلى الآن مرورًا بـ(-2)، (-1) ثم (0). [100] وهذا محال في البداهة؛ إذ إننا إن لم نبدأ من لحظة واحدة ثابتة في الواقع فلن نصل إلى “الآن”، وهو ما يعبّر عنه بـ”استحالة عبور اللامتناهي” “The impossibility of traversing the infinite”، فإنّ كلّ من يَعُدُّ إلى اللانهاية سيجد نفسه في كلّ لحظة بعيدًا عن اللانهاية نفس المسافة التي كانت تفصله عن الانتهاء منذ البدء، مهما أخذه العدّ من وقت، ومهما كان سريعًا في الحساب، لأنّ ما يفصله عن اللانهاية هو عدد لانهائي، وإذا كان الزمن لانهائي الأحداث، فإنه لا يمكن بلوغ الحدث الآني انطلاقًا من الأزل لأنه مهما تكاثرت الأحداث فهي بعيدة عنّا مسافة لامتناهية من الأحداث.
إنّ عدًا لا يبدأ من نقطة زمنية محددة لا يمكن أن يبلغ زمن “الآن”. وسؤالنا البدهي لمن يزعم خلاف ما تقرّر هنا هو: فما الذي فضّل اليوم على البارحة أو السنة الماضية لنبلغ نقطة “الآن”؟!
بإمكاننا صياغة الدليل العقلي على تناهي الزمان في الماضي على الصورة التالية:
- سلسلة الأحداث الزمنية هي مجموعة تكونت بالإضافات المتتابعة.
- المجموعة المكونة من إضافات متتابعة لا يمكن أن تكون لانهائية واقعيًا.
- إذن، لا يمكن لسلسلة الأحداث الزمنية أن تكون لانهائية واقعيًا. [101]
وهو ما عبّر عنه (أبو المعالي الجويني) في مؤلّفه “العقيدة النظامية” بقوله: “ما يتسلسل لا يتحصّل“،[102] وهو تعبير مختصر ومحكم لما نحن بصدده. وقد مثّل لهذا الأمر بقول الرجل لمخاطبه: “لا أعطيك درهمًا إلّا وأعطيك قبله دينارًا، ولا أعطيك دينارًا إلّا وأعطيك قبله درهمًا، فلا يُتصوّر أن يعطى على حكم شرطه دينارًا ولا درهمًا”.[103]
إذا استقرّ في الذهن العلم بحقيقة عدم إمكان إقامة سلسلة من الأحداث تمتد إلى الأزل، لزم المسير إلى أنّ الزمن له بداية، وما كانت له بداية احتاج إلى مُبدئ.
ما يتسلسل لا يتحصّل. |
ثم إنّ الزمان كما مرّ هو أثر عن تتالي مجموع أحداث، ولا سبيل لدخول هذه الأحداث عالم الوجود إن لم يكن هناك حدث أوّل، ليعقبه ثان وثالث، إلى اليوم. وفي ذلك يقول الإمام (ابن حزم): “لا سبيل إلى وجود ثانٍ إلا بعد
أول، ولا إلى وجود ثالث إلا بعد ثان، وهكذا أبدًا. ولو لم يكن لأجزاء العالم أوّل لم يكن ثان. ولو لم يكن ثان لم يكن ثالث. ولو كان الأمر هكذا لم يكن عدد ولا معدود.
وفي وجودنا جميعَ الأشياء التي في العالم معدودةً إيجابٌ أنها ثالث بعد ثان، وثانٍ بعد أوّل. وفي صحّة هذا وجوبُ أول ضرورة. وقد نبّه الله تعالى على هذا الدليل… في قوله تعالى: {وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا}[104].
وأيضًا فالآخر والأول من باب المضاف، فالآخر آخر للأوّل، والأوّل أول للآخر. ولو لم يكن أوّل لم يكن آخر.
ويومنا هذا بما فيه آخر لكل موجود قبله، إذ ما لم يأت بعد فليس شيئًا، ولا وقع عليه بعْدُ شيء من الأوصاف فله أوّلٌ ضرورة.”[105]
ولعلنا نشبّه ذاك برجل اسمه (عمرو) دفع دينًا عليه لـ(زيد) بواسطة “شيك بنكي”، لكنّه اكتشف ألّا رصيد له في البنك، فاضطر (عمرو) أن يأخذ من (حذيفة) “شيكًا” ليغطي به عجزه، لكنّه اكتشف أنّ “شيك” (حذيفة) لا رصيد له، فاضطر (حذيفة) أن يأخذ “شيكًا” من (وليد) ليغطي به عجزه، غير أنه اكتشف بعد ذلك أنّ “شيك” (وليد) بلا رصيد.. وهكذا بلا نهاية، وهو ما يترتّب عليه ألا يأخذ (زيد) شيئًا من مدينِه لأنّ سلسلة “الشيكات” ليس لها أوّلٌ له رصيد.
أو هو أشبه بالجندي الذي يُطلب منه أن يطلق رصاصة على خصمه، لكنه يقول : “لن أفعل حتى استأذن من قائدي )علي(!” ولما يستأذن الجندي قائده )علي(، يخبره )علي( أنه يحتاج أن يستأذن قائده (عمر). ولما يستأذن (علي) من (عمر)، يخبره (عمر) أنه يحتاج أن يستأذن من (عكرمة)… وهكذا إلى ما لا نهاية. ويلزم من ذلك ألا يطلق الجندي رصاصته لتعلّق الإذن بعدد لامتناه من الأذونات ليس له أوّل.
وبالإمكان تلخيص هذا البرهان على الشكل التالي:
- اللحظة الحالية (ح) دخلت حيّز الوجود.
- إذا كانت (ح) قد دخلت حيّز الوجود، فإنّ ذلك يعني أنّ جميع الأحداث التي أدّت في نهايتها إلى دخول (ح) حيّز الوجود هي أيضا قد دخلت حيّز الوجود.
- إذا كانت سلسلة الأحداث كلّها قد دخلت حيّز الوجود، فإنّ عدد هذه الأحداث محدود.
- إذا كان عدد الأحداث محدودًا، فإنّ له ضرورة بداية (حدث أوّل).
- حتى يكون الكون بلا بداية لا بدّ أن تكون سلسلة الأحداث غير محدودة، وبلا حدث أوّل.
- ماضي الكون له بداية.
- الكون في حاجة إلى مُبدئ.
إذا لم يكن للزمان أوّل، فلا يمكن أن يكون له وجود. |
لم يستطع الملاحدة نقض هذا البرهان على تناهي الزمان، ولذلك قال الفيلسوف الملحد (ويليام رو) (William Rowe): “إنّه من الصعب أن نظهر بدقة الخطأ في هذا الاستدلال”![106]
اعتراض: اللاتناهي الرياضي
قد يُعترض علينا هنا بوجود “اللاتناهي” في عالم الرياضيات ( )، والذي هو حصيلة زيادة 1+1+1+1… وبالتالي إمكان تحصيل “اللامتناهي” بزيادة أفراد المجموعة اللامتناهية. وهذا اعتراض فاسد لأنّ هذا اللاتناهي ذهني غير واقعي، كما أنه لحظيّ غير زمني، فهو ليس حصيلة زيادات لامتناهية، وإنّما هو حصيلة وجود أفراد لامتناهين في نفس الآن، وهو أمر قد يسمح به التصوّر النظري الرياضي لكنّه يخالف حقيقة تدفق الزمن، والمتمثّل في تراكم الساعات بصورة متتالية، غير لحظيّة.
إنّ طبيعة الزيادة تقتضي أنّ المحصّلة في كلّ حين متناهية.[107]
(2)
دليل الإمكان والوجوب
تقوم شبهة “… فمن خلق الله؟” ردًا على الدليل الكوسمولوجي على الظنّ أنّ كلّ صور الدليل الكوسمولوجي تنطلق أو حتى تفترض أنّ الكون مخلوق، وذاك ظن مخالف للحقيقة؛ إذ إنّ جلّ صور هذا الدليل لا تهتم ابتداءً ببيان أنّ الكون حادث، كصورة هذا الدليل عند (أرسطو)، والأفلاطونية الحديثة، و(توما الأكويني)… والعجيب أنّ جلّ الملاحدة الذين كتبوا في الرد على الدليل الكوسمولوجي لا يعلمون ذلك حتّى إنّ (داوكنز) قد زعم في كتابه “وهم الإله” أنّ (توما الأكويني) يقيم دليله الكوسمولوجي على أنّ الكون حادث،[108] رغم شهرة مذهب (الأكويني) في أنه يرى تعذّر إقامة البرهان على حدوث العالم، والخلاف بينه وبين معاصره اللاهوتي والفيلسوف الإيطالي (بونافنتورا) (Bonaventura) في هذا مشهور! ويبدو أن هذه السطحية في معرفة الدليل الكوسمولوجي عند (فرسان الإلحاد الجديد) هي سبب فحش أخطاء الملاحدة في الرد عليه![109]
يعتبر )دليل الإمكان والوجوب( من أشهر صور الدليل الكوسمولوجي في القرون الوسطى، وهو الدليل المعروف في الأدبيات الإنجليزية بـ(The Contingency Argument). وقد قال فيه (ويليام لين كريغ): “بإمكاننا أن ننسب إلى الفلاسفة العرب [=المسلمين] أصل الدليل الكوسمولوجي الحديث القائم على الإمكان، إذ رغم أنّ أرسطو قد ألمح إليه وسمّى المتكلّمون العالم ممكنًا بسبب ميتافيزيقاهم الذريّة،[110] إلا أنّ الفلاسفة العرب هم الذين بيّنوا الفرق بين الواجب والممكن على أساس فارق الماهية/الوجود، ولذلك يستحقون أن ينسب إليهم فضل نشأة هذه الصيغة المهمة للدليل الكوسمولوجي.” [111]
ينطلق دليل الإمكان والوجوب من سؤال بَدئيّ بدهيّ طرحه (لايبنتس) (Leibniz)، وهو: “لماذا يُعتبر وجود شيء أحرى من العدم؟”، أو بعبارة أخرى: ما الذي جعل وجود العالم بأشيائه قائمًا، ولم يكن العدم المحض هو الواقع؟ ويقوم هذا الدليل على حقيقة أنّ الوجود كلّه لا يخرج عن ثلاث أحوال:
- واجب الوجود لذاته، وهو ما كان امتناع وجوده محالًا، لأنّه يترتّب على عدمه محال.
- ممتنع الوجود لذاته، وهو ما كان وجوده محالًا؛ إذ يترتّب على وجوده محال.
- ممكن الوجود والعدم.
لا يدخل في الوجود الحقيقي إذن غير “واجب الوجود” و”الممكن”، أمّا “ممتنع الوجود” فلا مكان له في الوجود الفعلي.
يضطرّ العقل أن يبحث للممكن عن سبب لوجوده؛ إذ يتعادل وجوده وعدمه ضرورة، فليس لوجوده فضل على عدمه، ولا لعدمه فضل على وجوده، ولذلك يحتاج إلى ما يرجّح وجوده على عدمه، وعلى هذا المرجّح أن يكون من خارجه لأنّ ذاته قاصرة عن تفسير وجوده.
قد يكون سبب ترجيح وجود الممكن على عدمه ممكنًا آخر، ويكون للممكن الآخر سبب لوجوده هو ممكن آخر، غير أنّ سلسلة المرجّحات يجب أن تنتهي لسبب أوّل رجّح فيها جانب الوجود على العدم، على أن يكون هذا السبب واجب الوجود، إذ إنّ هذه السلسلة لا بدّ أن تنتهي بمن وجوبه واجبٌ عقلًا؛ ولولا ذلك لما كان لتميّز وجود أيّ شيء معنى، وكان العدم والوجود سواء. ولذلك قال (الأصفهاني) –المتكلّم- عن وجود الله: “والدليل على وجوده الممكناتُ، لاستحالة وجودها بنفسها، واستحالة وجودها بممكن آخر ضرورة استغناء المعلول بعلته عن كل ما سواه، وافتقار الممكن“. وأقرّه شيخ الإسلام في شرحه للعقيدة الأصفهانية.[112]
وقد نستغني عن التعرّض لقضيّة التسلسل وعدم إمكانه، بأن نقول: إنّ العقل يمنع أن يكون سبب وجود الكون، من ضمن الكون، لأنّ الكون هو مجموع ممكنات، وليس فيه شيء واجب الوجود؛ إذ للعقل أن يتصوّر وجود أيّ شيء في الكون أو عدمه، وهذا ما يقتضي أن يكون واجب الوجود من خارج المادة والزمن، وليس من عالم الآثار، وذاك الذي يسمّيه المؤلّهة “بالله”.
وبالإمكان صياغة هذه الحجة على الصورة التالية:
- كلّ ما في كوننا ممكن الوجود، ولا يمتنع عقلًا ألّا يوجد.
- كلّ ما كان حاله كما سبق، فهو محتاج إلى علّة ترجّح جانب وجوده على عدمه.
- لا يمكن لسلسلة العلل والآثار أن تستمر في الماضي إلى ما لا نهاية.
- لا بدّ لهذه السلسلة أن تنتهي عند من/ما لا علّة لوجوده.
- تنتهي السلسلة عند الأوّل، الذي يفسَّر وجوده بطبيعة امتناع عدمه عقلًا، وهو: واجب الوجود.
دلالة برهان الواجب والممكن في الردّ على شبهة “إذا كان لا بدّ لكلّ شيء من خالق، فمن خلق الله؟”، هي أنّ وجود الله ثابت بدلالة ذاته على وجوب وجوده، وليس وجوده قائمًا أصلًا على القول بحاجة كلّ شيء [مُحدث] لخالق، وهو ما يُبطل الاعتراض الإلحادي من أصله لأننا لسنا هنا في حاجة إلى أن نثبت أنّ الكون أزلي أو حادث، فسواء كان الكون مخلوقًا أم أزليًا، فوجوده بحاجة إلى علّة من خارجه، وهي ذات الربّ وإرادته. وقد استدلّ كثير من الفلاسفة القدماء القائلين بأزليّة المادة بدليل الإمكان لإثبات وجود الله، ككثير من فلاسفة اليونان، وكطائفة ممن يسمّون بفلاسفة الإسلام، كـ(ابن سينا)[113] و(الفارابي)…
لا يملك الكون أن يفسّر سبب وجوده من نفسه؛ إذ بالإمكان تصوّر عدمه، أو وجوده على صورة أخرى، ويبقى لذلك التساؤل: “لماذا وُجد الكون، وكان على هذه الصورة؟” قائمًا. |
- ابن خلدون، المقدمة (تحقيق: خليل شحادة وسهيل زكار، بيروت: دار الفكر، 2001م)، ص580 ↑
- أنكر طائفة من أهل التحقيق على علم الكلام عددًا من الأمور، كإلزام المتكلّمين كلّ المسلمين إقامة الحجة على وجود الله ووحدانيته بالأدلة الفلسفية، واعتبار ذلك أوّل واجب على المكلّفين، وإقحام الجدل الكلامي في ما لا يبلغه العقل، والخوض في ما لا طائل من وراءه غير الظن والحيرة. ولا ينفي ذلك صواب ما قدّمه علماء الكلام في عامة استدلالاتهم على وجود الخالق، فهي أدلّة عقلية، منها ما جاء به النص القرآني، ومنها ما لا يخالف النص ويوافق الحق. ↑
- Peter Vardy and Julie Arliss, The Thinker’s Guide to God (Alresford, Hants, UK: O Books; Unley, S. Aust.: MediaCom Education, 2003), p.80 ↑
- William L. Craig, The Kalam Cosmological Argument (Eugene, OR: Wipf and Stock Publishers, 2000) , p.i ↑
- أبو حامد الغزالي، الاقتصاد في الاعتقاد (بيروت: دار الكتب العلمية، 1402هـ/1983م)، ص19 ↑
- William L. Craig, The Kalam Cosmological Argument, pp.48-49 ↑
- David Hume, An Enquiry Concerning Human Understanding (Oxford: Oxford University Press, 2007), IV chapter. ↑
- Ibid., p.19 ↑
- J. Grieg, ed., The Letters of David Hume (Oxford: Clarendon Press, 1932), 1/187 ↑
- R. C. Sproul, Not a Chance: the myth of chance in modern science and cosmology, Grand Rapids, Mich.: Baker Books,, 2000, p.205. ↑
- Ibid., p.212. ↑
- G.E.M. Anscombe, “Whatever Has a Beginning of Existence Must Have a Cause’: Hume’s Argument Exposed” in Analysis, Vol. 34, No. 5 (Apr., 1974), pp.148-149 ↑
- J. L. Mackie, The Miracle of Theism ( Oxford: Clarendon Press, 1982), p.89 ↑
- لا نبالي هنا بالعبارة التي استعملها (هيوم) للتعبير عن فكرته، وإنما العبرة بالمعنى المقصود الذي أراده. ↑
- Edward Feser, The Last Superstition: A Refutation of the New Atheism. Electronic copy. ↑
- J. L. Mackie, The Miracle of Theism, p.126 ↑
- See G.E.M. Anscombe, “‘Whatever has a beginning of existence must have a cause’: Hume’s argument exposed,” in her Collected Philosophical Papers, Volume 1 (Basil Blackwell, 1981). ↑
- Bruce R. Reichenbach, The Cosmological Argument: A Reassessment, (Springfield, Ill.: C. C. Thomas, 1972), p.59 ↑
- Ibid., pp.58-59 ↑
- Timothy A. Mitchell, David Hume’s Anti-Theistic Views: a critical appraisal (Lanham, MD: University Press of America, 1986), pp.99-100. ↑
- ابن رشد، تهافت التهافت (تحقيق: سليمان دنيا، القاهرة: دار المعارف، 1973م)، ، ص785. ↑
- قال )ابن رشد( في رده على نفاة السببية الذاتية: “الأسباب الذاتية … لا يفهم الموجود إلا بفهمها، فإنه من المعروف بنفسه أن للأشياء ذوات وخواص، هي التي اقتضت الأفعال الخاصة بموجود موجود، وهي التي من قبلها اختلفت ذوات الأشياء وأسماؤها وحدودها، فلو لم يكن لموجود موجود فعل يخصه، لم يكن له طبيعة تخصه، ولو لم يكن له طبيعة تخصه لما كان له اسم يخصه ولا حدّ، وكانت الأشياء كلها شيئًا واحدًا، ولا شيئًا واحدًا، لأن ذلك الواحد يسأل عنه: هل له فعل واحد يخصه أو انفعال يخصه أو ليس له ذلك؟ فإن كان له فعل يخصه، فهنا أفعال خاصة، صادرة عن طبائع خاصة، وإن لم يكن له فعل يخصه واحد، فالواحد ليس بواحد، وإذا ارتفعت طبيعة الواحد ارتفعت طبيعة الموجود، وإذا ارتفعت طبيعة الموجود لزم العدم” (ابن رشد، تهافت التهافت، ص782-783) ↑
- Edward P. Tryon,”Is the Universe a Vacuum Fluctuation?”, in Nature 246, 1973, (5433): 396–397. ↑
- من المهم لفت الانتباه إلى أنّ (كراوس) قد اتّجه مؤخرًا في مناظراته ولقاءاته العامة إلى التأكيد أنه يؤمن بنشأة الكون من العدم المحض!! ↑
- William Craig and Quentin Smith, Theism, Atheism, and Big Bang Cosmology (New York: Oxford University Press, 1993), p.135. ↑
- يقتبس (أتكنز) في حديثه هنا عن نشأة الكون من لغة التوراة (سفر تكوين1/1-2). ↑
- Atkins, The Creation (Oxford: W. H. Freeman, 1981), p. 119. ↑
- وقد توفي أثناء إعداد كتابنا هذا. ↑
- Victor J. Stenger, Not by Design: The Origin of the Universe (Buffalo: Prometheus Books, 1988), p. 174. ↑
- Abdus Salam, “Science and Religion: Reflections on Transcendence and Secularization,” in Cosmos, Bios, Theos, eds. Henry Margenau and Roy Abraham Varghese, eds. (La Salle, Ill.: Open Court, 1992), p. 99. ↑
- Gary Steigman, “Observational Tests of Antimatter Cosmologies,” in Annual Reviews of Astronomy and Astrophysics 14 (1976), p. 355. ↑
- Lederman and Schramm, From Quarks to Cosmos, p. 163; Alan H. Guth, The Inflationary Universe: The Quest for a New Theory of Cosmic Origins (Reading, Mass.: Perseus Books, 1997), p. I 07. ↑
- Anthony Zee, Fearful Symmetry (New York: Macmillan, 1986), pp.280–81. ↑
- التناظر في الكون حقيقة قرآنية، قال تعالى: {وَمِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُون}[الذاريات:49]، وهذا برهان ساطع على الحكمة والقصد في الخلق، لكن لا يلزم من معنى التناظر التساوي التام بين عناصر الكون من المتقابلات. ↑
- Ikjyot Singh Kohli, Comments On: A Universe From Nothing, <http://arxiv.org/pdf/1405.6091v3.pdf > . ↑
- Heinz Pagels, Perfect Symmetry: The Search for the Beginning of Time (New York: Bantam Books, 1985), p.347. ↑
- يقول الفيلسوف (إدوارد فزر) في مقاله: “على العلماء أن يقولوا لكراوس أن يخرس فورًا”، في الردّ على دعوى (كراوس) أنّ سبب كثرة منتقديه ما يعتبرونه هم قلّة أدب منه: “تلك خدمة وهمية يقّدمها كراوس لنفسه. سبب كثرة منتقدي كراوس هو أنه في كلّ مرّة يفتح فمه للحديث عن الدين أو الفلسفة، لا يُظهر -بصورة قاطعة- إلّا أنّه لا يفقه شيئًا في ما يتحدّث عنه. إنّ مبلغ ثقته في نفسه يناسب عكسيًا حقيقة معرفته وبراعته في المحاججة”.<http://www.thepublicdiscourse.com/2015/09/15760/> ↑
- Lawrence Krauss, “A Universe from Nothing,” Atheist Alliance International, 2009, <http://www.youtube.com/watch?v=Z0HqZxXZK7c> (mn.18). ↑
- رغم أنّ هذ الكتاب قد أثار عليه المؤلهة، إلا أنّ (هاوكنغ) لم ينكر فيه وجود الله، وإنما قال إنه بالإمكان تفسير الكون دون حاجة إلى إقحام الإله. ↑
- Stephen Hawking and Leonard Mlodinow, The Grand Design (New York: Bantam Books, 2010), p.180. ↑
- John Lennox, “As a scientist I’m certain Stephen Hawking is wrong. You can’t explain the universe without God”, in DailyMail, 3 September 2010 < http://www.dailymail.co.uk/debate/article-1308599/Stephen-Hawking-wrong-You-explain-universe-God.html#ixzz3RHHRTZs9 > ↑
- شاع في وسائل الإعلام والتواصل العربية القول إنّ (بول ديفيس) عالم مؤمن بالله؛ وذلك ربما يعود لكتاباته التي ينتصر فيها للطابع الذكي للكون، ولردوده على كثير من اعتراضات الملاحدة، لكن حقيقة مذهبه هو أنه لاأدري، بل لقد كتب في مؤلفه “The Goldilocks Enigma” (2006م) أسباب اعتراضه على مفهوم الإله الواحد الخالق، وكان منها سؤال: … فمن خلق الله؟ (ص265). ↑
- Paul Davies. Superforce: The Search for a Grand Unified Theory of Nature (New York: Simon and Schuster, 1984), p.243. ↑
- Richard Feynman, The Meaning of it All (London: Penguin Books, 2007), p.23. ↑
- Albert Einstein, “Physics And Reality”, tr. Jean Piccard, in Journal of the Franklin Institute, vol. 221, p.349 ↑
- جمهور الذين يقولون بـ(اللاحتمية) في عالم الذرة وما تحتها يرون أنّه يلزم من (اللاحتمية) القول بـ(اللاسببية)، ويذهب في المقابل قلّة من فلاسفة علم الكم إلى وجود ما يسمونه بـ(السببية غير الحتمية)، بعدم إقصاء السببية وإن أقصوا الحتمية، وذلك بالقول بـ(الاحتمالية المسبَّبة) في عالم الكم أو غير ذلك، لكنّ هذا المذهب ضعيف الحضور، ويطرح عددًا من الإشكالات التي تحتاج إلى نظر ودراسة في قابل الأيام، ولذلك فإنّ المدافعين عن السببية من المؤلّهة من فلاسفة الغرب يقرّون لمنكري “الحتمية” في عالم الكم أنّ ذلك لا بدّ أن يؤول إلى نفي السببية (وهو ما تبنته صراحة وبقوّة (مدرسة كوبنهاغن) اللاحتمية)، وهو ما جعل مواجهتهم للاعتراض الإلحادي بظواهر علم الكم قائمًا على الانتصار للحتمية لا التوفيق بين اللاحتمية والسببية. ومن الغريب في هذا الشأن فرح بعض المسلمين والنصارى بمفهوم “اللاحتمية” لظنّهم أنّ ذلك يثبت معنى “القيوميّة” لله سبحانه، بأن “يُسمح” لله –جلّ جلاله- بمساحة خفيّة للمعجزات أو تغيير مجرى أفعال الناس! وهذا قول منكر، إذ إنّ هذه الدعوى حتى لو صحّت، لا تسمح للفعل الإلهي أن يؤثّر في الوجود لأنّ “اللاحتمية” المزعومة، قاصرة على عالم الذرة وما دونها، أما عالم فوق الذرة فلا تمسّه “اللاحتمية”، مما يعني أنّ مساحة السلطان الإلهي هامشية جدًا، ولا تكاد تؤثّر على حياة الناس.إنّ السلطان الإلهي ثابت في كلّ شيء، في عالم دون الذرة، وفوق الذرة، وعالم الأفكار، والمشاعر، والمشهود والغيب، وهو أدقّ وأجلّ من أن نرسم له حدودًا، فلله أن يعطّل القانون الكوني لينفذ أمره، وله أن ينشئ مكانه قانونًا آخر عند أمره للشيء أن يكون، سواء كان معجزة أو أي أمر خارق أو مخالف لتيار دفق السنن الكونيّة.كما فرح بعض المسلمين والنصارى بمفهوم “اللاحتمية” لظنّهم أنّ ذلك ينقذ إرادة الإنسان من “الجبرية” ويسعف “حريّة الإرادة” بالحياة. وذاك وهم فاسد كما تقول “الموسوعة البريطانية”، فإنّ حريّة الإرادة تفترض واقعًا مقننًا يسمح بالتفكير السببي والفعل السببي في حين أنّ “اللاحتميّة” المزعومة في عالم الكم تعود إلى العشوائية الذاتية (intrinsic randomness) بما يتعارض مع إمكان وجود إيجابي لحريّة الإرادة تتوافق فيه الإرادة مع نتائجها في العقل والواقع (Erik Gregersen, ed. The Britannica Guide to Relativity and Quantum Mechanics (New York: Britannica Educational Pub., 2011), p.94). ↑
- انظر في الخلاف: R. Weingard, ‘Do virtual particles exist’, in PSA: Proceedings of the Biennial Meeting of the Philosophy of Science Association, 1982:235 – 242. ↑
- من العجب أنّ عامة الفيزيائيين المسلمين هم على مذهب (مدرسة كوبنهاغن) -كما يقول الفيزيائي الإيراني )مهدي غولشني(- (Mehdi Golshani, Quantum theory, causality, and Islamic thought, in The Routledge Companion to Religion and Science, James W. Haag et al., eds. (New York: Routledge, 2011), p.179)، دون اعتبار منهم للاعتراضات العلمية والفلسفية واللاهوتية عليها. ولا أجد تفسيرًا لذلك غير الكسل المعرفي، والخضوع السلبي للمقررات الرسمية لأقسام الفيزياء، والاستسلام للمشهور، أو بعبارة أخرى: عامة علماء (scientists) المسلمين هم “علماء textbooks”، فهم في البيولوجيا دراونة أقحاح، وفي الفيزياء لاسببيون أقحاح، لأنّ “textbooks” تقول كذا! والمثير هنا هو أنّ غفلة المسلمين تقابل وعي عامة المفكرين الغربيين المنتصرين للإيمان بالله بلوازم اعتناق المذهب الكوبنهاغي، وهو ما وعاه أيضًا المتخصصون في فلسفة العلوم، كـ(مارا بلر). وانظر في شطحات الكوبنهاغيين في زمن ما بعد الحداثة:Mara Beller, The Sokal Hoax: At Whom Are We Laughing? < http://www.mathematik.uni-muenchen.de/~bohmmech/BohmHome/sokalhoax.html >. ↑
- William Lane Craig and J. P. Moreland, eds. The Blackwell Companion to Natural Theology (Chichester, U.K.; Malden, MA : Wiley-Blackwell, 2009), p.183 ↑
- John Polkinghorne, Quantum Theory: A Very Short Introduction (Oxford; New York: Oxford University Press, 2002), pp.88-89. ↑
- James Daniel Sinclair, “At Home in the Multiverse”, Paul Copan and William Lane Craig, eds. Contending with Christianity’s Critics: Answering New Atheists & Other Objectors (Nashville: B & H Academic, 2009), p.16 ↑
- James Cushing, “Determinism and Indeterminism in Quantum Mechanics”, in Robert J. Russell, ed. Quantum Mechanics: Scientific Perspectives on Divine Action (Vatican City State: Vatican Observatory; Berkeley, Calif.: Center for Theology and the Natural Sciences, 2001), p.99 ↑
- R. Penrose, Gravity and State Vector Reduction, in Quantum Concepts in Space and Time, eds. R. Penrose and C. J. Isham (Oxford: Clarendon Press, 1986), p.129. ↑
- C. Sommer, “Another Survey of Foundational Attitudes Towards Quantum Mechanics”,< http://arxiv.org/pdf/1303.2719v1.pdf>. ↑
- T. Norsen, S. Nelson, “Yet Another Snapshot of Foundational Attitudes Toward Quantum Mechanics”,< http://arxiv.org/pdf/1306.4646v2.pdf>. ↑
- لا تمثّل هذه النتائج بصورة علمية آراء المتخصصين في العالم لأن من أجروها في مؤتمراتهم لم ينتقوا المشاركين بصورة تعكس الإطار الأكبر للعلماء، لكنها مع ذلك تظهر نهاية عصر هيمنة نظرية )اللاحتمية( وميل الجيل الجديد إلى النظريات الحتمية. ↑
- Karl Popper, Quantum Mechanics without “The observer”, in Quantum Theory and the Schism in Physics, Karl Popper (London; New York: Routledge, 1992), pp.36-37. ↑
- Mara Beller, “Bohm and the “Inevitability” of acausality”, in Bohmian Mechanics and Quantum Theory: An Appraisal, eds. J.T. Cushing, Arthur Fine, and S. Goldstein (Dordrecht; Boston: Kluwer Academic Publishers, 1996), p.215. ↑
- Victor Stenger, Has Science Found God? (Amherst, N.Y.: Prometheus, 2003), p.173. ↑
- Helen Beebee; Christopher Hitchcock and Peter Charles Menzies, eds. The Oxford Handbook of Causation (Oxford; New York: Oxford University Press, 2009), p.676. ↑
- Richard Healey, The Philosophy of Quantum Mechanics (Cambridge, NY, Cambridge UniversityPress, 1991), p.2. ↑
- John Gribbin, ed. Q is for Quantum, p.320. ↑
- يبدو أنّ سيطرة )تفسير كوبنهاغن( على المجال العلمي في الجزء الأكبر من القرن الماضي تعود إلى عدد من العوامل التي لا تتعلق بصواب النظرية في ذاتها، ومنها:جاذبية فلسفة الوضعية المنطقية التي لا تهتم بحقيقة الواقع في ذاته وإنما بما يدركه الذهن منه، وإنكارها –العملي- لحقيقة ما لا يُدرك بالتجربة (Gino Tarozzi, “Logical Positivism, Quantum Mechanics and the Meaning of Philosophical Principles”, in The Controversial Relations Between Science and Philosophy: A critical assessement, G. Auletta, ed. (Vatican City: Libreria Editrice Vaticana, 2006), pp.129-166)، بالإضافة إلى تأسيس )هايزنبرغ( (Heisenberg) لـ(مبدأ اللايقين) (uncertainty principle) الذي فُهم خطأ أنه متعلق بنفي الحتمية في عالم الواقع في حين أنه متعلّق على الحقيقة بنفي الدقة التنبئية لتوقعاتنا بحالين للشيء الواحد (كمكانه وسرعته)، علمًا أنّ )هايزنبرغ( كان يفضّل استعمال العبارة الألمانية “Ungenauigkeit” أي “اللادقة” للتعبير عن فكرته قبل أن يستعمل لاحقًا عبارة ” uncertainty “. وقد زعم )هايزنبرغ( لاحقًا (1927م) أنّ (مبدأ اللايقين) يدلّ فلسفيًا على لاحتمية عالم الكم، وهي قفزة فلسفية غير مبررة من حقيقة القصور المعرفي إلى التفسير الوجودي، وقد خرج بذلك من الحديث العلمي إلى التأويل الفلسفي (Mehdi Golshani, Quantum theory, causality, and Islamic thought,pp.180-181).ارتباط النظرية في نشأتها باسم قامة علمية ذات صيت هي (نيلس بور) (Niels Bohr) الذي نشط بصورة كبيرة في نشر فكرته بين الفيزيائيين الشبان الذين تحمّسوا لريادته في باب علم ميكانيكا الكم البكر (John Gribbin, ed. Q is for Quantum: An encyclopedia of particle physics, p.90). وقد علّق (موري جيلمان) (Murray Gell-Mann) الفيزيائي الحاصل على جائزة نوبل سنة 1969م، في محاضرته لحفلة نوبل سنة 1976م بقوله: “غسل نيلس بور عقول جيل كامل من الفيزيائيين ليؤمنوا أنّ المشكلة [=تفسير ميكانيكا الكم] قد تمّ حلّها منذ خمسين سنة مضت” (M. Gell-Mann, The Nature of the Physical Universe: The 1976 Nobel Conference (Wiley, New York, 1979)). كما كتبت مؤرخة العلوم (مارا بلّر) مقالا خطيرًا في فضح السلطان الدكتاتوري لـ(بور) بين أوساط العلماء، وهيبتهم المرضيّة له، وساقت لإثبات ذلك شهادات تكشف –كما تقول- أنّ سلطان (مدرسة كوبنهاغن) لم يكن مردّه العلم، ولا الفلسفة، وإنما “السيكولوجية الاجتماعية” “social psychology” (Mara Beller, “Bohm and the “Inevitability” of acausality”, p.227).ظهر تفسير (بوم) بعد عقود من (تفسير كوبنهاغن)، مما سمح للنظرية الأولى أن تبسط هيمنتها على الساحة العلمية (Xavier Oriols and Jordi Mompart, eds. Applied Bohmian Mechanics, p.33)، علمًا أنّ (بوم) نفسه قد ألّف في الفترة الأولى من حياته كتابًا مدرسيًا: “ Quantum Theory” انتصر فيه لتفسير (بور)، بل وعُدّ من أفضل الكتب في تأييد تلك النظرية (Mara Beller, “Bohm and the “Inevitability” of acausality”, p.224)!لم تقدّم نظرية (بوم) –أهم منافس لـ(تفسير كوبنهاغن)- إضافات تجريبية تنبئية جديدة، وإنما أثبتت وأكدت نفس نبوءات (تفسير كوبنهاغن)، مكتفية بعد ذلك بالجانب التنظيري التفسيري، وهو ما لا يهتم به كثير من الفيزيائيين الذين لا يعتنون بغير الجانب العملي الحسابي والفيزيائي. رغبة الكثيرين في التخلّص من حتميات الطبيعة للقول بمبدأ حريّة الإرادة.ومن أراد أن يقرأ بتوسّع في الأسباب غير العلمية لتفضيل تفسير (مدرسة كوبنهاغن) على تفسير (بوم) -وأهمية النظر بجدية إلى تفسير (بوم)-، فليراجع: James Cushing, Quantum Mechanics: Historical Contingency and the Copenhagen Hegemony (Chicago: University of Chicago Press, 1994). ↑
- M. Schlosshauer; J. Kofler; A. Zeilinger (2013). “A Snapshot of Foundational Attitudes Toward Quantum Mechanics” in Studies in History and Philosophy of Science Part B: Studies in History and Philosophy of Modern Physics 44 (3): 222–230. < http://arxiv.org/pdf/1301.1069v1.pdf>. ↑
- Mehdi Golshani, “Causality in the Islamic Outlook and in Modern Physics” in Studies in Science and Theology, Vol. 8, ed. by N. H. Gregersen (ESSSAT, Fall 2001). ↑
- “The conclusion that there is no deeper level of causally determined motion is just a piece of circular reasoning since it will follow only if we assume beforehand that no such level exists.” (Bohm, Causality and Chance in Modern Physics (London: Routledge & Kegan Paul, 1984), p.95. ↑
- W. Mark Richardson and Gordy Slack, eds. Faith in Science: Scientists search for truth (London; New York: Routledge, 2001), p.131 ↑
- من المثير هنا أنّ بعض الكتابات الشعبية تزعم أنّ تجربة الفيزيائي (جون بل) (John Bell) سنة 1964م قد أثبتت أنه لا أمل لمن يراهن على أنّ سبب جهلنا بالأسباب هو وجود أمور خافية علينا أو ما يعرف بـ(المتغيّر الخفي) (Hidden Variable). والصواب هو أنّ جهود (جون بل) هي التي أثبتت فساد دعوى (فون نومان) (Von Neumann) في الثلاثينات من القرن الماضي التي زعمت فساد القول بوجود المتغيرات الخفيّة، وذلك بكشف (بل) عن خطأ رياضي في حسابات (نومان) (J. S. Bell, Speakable and Unspeakable in Quantum Mechanics (Cambridge; New York: Cambridge University Press, 1987))!لم تنف حسابات (بِل) غير طابع (locality)، وليس (non-locality)، علمًا أنّ هناك اليوم من ينازع في رفض طابع (locality)، ومنهم الفيزيائي الهولندي (جيرارت هوفت) (Gerard ‘t Hooft) الحاصل على جائزة نوبل سنة 1999م لأبحاثه في الفيزياء الكمومية، وهو من المنتصرين للتفسير الحتمي لميكانيكا الكم ( Gerard ‘t Hooft (2009). “Entangled quantum states in a local deterministic theory”. < http://arxiv.org/abs/0908.3408>.).
ثم إنّ (جون بل) نفسه قد كتب سنة 1982م في مدح جهد (دافيد بوم)، واصفًا ما كتبه بأنّه يقارب المستحيل، موحيًا أنّ الموقف القاسي للعلماء من تفسير (بوم) وانتصارهم للاحتمية لم تفرضهما الحقائق التجريبية وإنما “الاختيار النظري المتعمد” (Xavier Oriols and Jordi Mompart, eds. Applied Bohmian Mechanics: From nanoscale systems to cosmology (Singapore: Pan Stanford, 2012), p.34)، علمًا أنّ السبب العلمي الأساسي لرفض نظرية (بوم) هو طابع “non-locality” في تفسيرها، وقد تبيّن من خلال أبحاث (بِل) في الثمانينات –وفي غيرها- أنه طابع صميمي للعالم الكمومي (John Gribbin, ed. Q is for Quantum: An encyclopedia of particle physics (NY: Free Press, 1998), p.50)! ↑
- Ruth E. Kastner, The Transactional Interpretation of Quantum Mechanics: The Reality of possibility (New York: Cambridge University Press, 2013), p.25. ↑
- J. P. Moreland, Scaling the Secular City: A Defense of Christianity (Grand Rapids, Mich.: Baker Book House, 1987), pp. 38–39. ↑
- Edward Feser, Scholastic Metaphysics: A Contemporary Introduction (NJ : Rutgers University 2014), p.136 ↑
- Mortimer Adler, Truth in Religion: The plurality of religions and the unity of truth: an essay in the philosophy of religion, (New York: Maxwell Macmillan International, 1990), pp.93-100. ↑
- Keith Ward, God, Chance and Necessity (Oxford: One World, 1996), p.40 ↑
- The Large Scale Structure of Space-Time (1973). ↑
- في حوار معه تحت عنوان: “Physicist George Ellis Knocks Physicists for Knocking Philosophy, Falsification, Free Will” (22-7-2014م).<http://blogs.scientificamerican.com/cross-check/2014/07/22/physicist-george-ellis-knocks-physicists-for-knocking-philosophy-free-will/>. ↑
- Paul Davies, God and the New Physics (New York: Simon & Schuster, 1983), p. 215. ↑
- Ibid., p.31. ↑
- Quentin Smith, “The Uncaused Beginning of the Universe,” Philosophy of Science, 1988, 55:50. ↑
- Hugh Ross, The Creator and the Cosmos: How the greatest scientific discoveries of the century reveal God (Colorado Springs, Colo.: NavPress, 2001), p. 91. ↑
- Ibid., p.174 ↑
- Victor J. Stenger, “Was the Universe Created?” in Free Inquiry (Summer 1987), 30 ↑
- أبو حامد الغزالي، تهافت الفلاسفة، ص99 ↑
- المصدر السابق، ص99-100 ↑
- ابن حزم، الفصل في الملل والأهواء والنحل (بيروت: دار الكتب العلمية، 1420هـ/1999م، ط2)، 1/28 ↑
- David Hilbert, “On the Infinite,” in Philosophy of Mathematics, ed. with an introduction by Paul Benacerraf and Hillary Putnam (Englewood Cliffs, N.J.: Prentice-Hall, 1964), p.151. ↑
- David Hume, Enquiry Concerning Human Understanding, p.115. ↑
- William Lane Craig, The Kalam Cosmological Argument, pp.65-66. ↑
- وإن كان جمهور علماء الرياضيات مع نظرية “المجموعة اللانهائية”. ↑
- David Hilbert, “On the Infinite,” p.141. ↑
- William Lane Craig, The Kalam Cosmological Argument, p.90. ↑
- Pamela M. Huby, “Kant or Cantor? That the Universe, If Real, Must Be Finite in Both Space and Time”, in Philosophy, Vol. 46, No. 176 (Apr., 1971), p.129. ↑
- Bernard Bolzano, Paradoxes of the Infinite, trans. Prihonsky (London: Routledge and Kegan Paul, 1950), p.84 ↑
- Abraham Robinson, “The Metaphysics of the Calculus”, in Problems in the philosophy of mathematics, Imre Lakatos, ed. (Amsterdam: North-Holland, 1967), p.39. ↑
- Georg Cantor in Probleme des Unendlichen: Werk und Leben Georg Cantors (Braunschweig: Vieweg, 1967), pp.125-126 (Quoted by Paul Copan, That’s Just Your Interpretation: Responding to Skeptics Who Challenge Your Faith (Grand Rapids, Mich.: Baker Books, 2001), pp.204-205). ↑
- William Lane Craig, The Kalam Cosmological Argument, pp.82-83. ↑
- Julian Wolfe, “Infinite Regress and the Cosmological Argument,” in International Journal for Philosophy of Religion 2 (1971): 246-49 ↑
- ابن تيمية، مجموع الفتاوى (تحقيق: أنور الباز وعامر الجزار، دار الوفاء، 1426 هـ / 2005 م)، 21/5. ↑
- الغزالي، معيار العلم (تحقيق: سليمان دنيا، مصر: دار المعارف، 1961م)، ص303.. ↑
- William L. Craig, The Kalam Cosmological Argument, p.45 ↑
- Moreland and Craig, Foundations for a Christian worldview (Downers Grove, Ill.: InterVarsity Press, 2003), p.473. ↑
- Peter Williams, A Faithful Guide to Philosophy (Milton Keynes, England : Paternoster, 2013), p.93 ↑
- أبو المعالي الجويني، العقيدة النظامية في الأركان الإسلامية (تحقيق: محمد زاهد الكوثري، القاهرة: المكتبة الأزهرية، 1412هـ/1992م)، ص20 ↑
- أبو المعالي الجويني، الإرشاد إلى قواطع الأدلة في أصول الاعتقاد (تحقيق: محمد يوسف موسى وعلي عبد الحميد، مصر: مكتبة الخانجي، 1369هـ/1950م)، ص26-27 ↑
- [الجن:28] ↑
- ابن حزم، الفصل في الملل والأهواء والنحل، 1/31 ↑
- William Rowe, The Cosmological Argument (Princeton, N.J.: Princeton University Press, 1975), p.122. ↑
- Chad V. Meister et al. eds. Debating Christian Theism (Oxford; New York: Oxford University Press, 2013), pp.11-12. ↑
- Richard Dawkins, The God Delusion, p.77 ↑
- انظرEdward Feser, “The New Atheists and the Cosmological Argument” in Midwest Studies in Philosophy, Volume 37, Issue 1, September 2013, pp.154-177.جهل رؤوس (الإلحاد الجديد) بالأديان التي ينتقدونها أصبح مملًا جدًا، وعصيّا على العلاج، ومن ذلك تصرح (هتشنز) –المتوفّى منذ بضع سنوات- في لقاء تلفزيوني أنّ خطورة الإسلام تتمثّل في أنه الدين الوحيد الذي يزعم أنه خاتمة الرسالات. وهذه دعوى عجيبة؛ إذ إنّ جلّ الأديان اليوم تقدّم نفس الدعوى، ومنها النصرانية التي تقرّر أنّ المسيح هو الطريق الوحيد للخلاص. ↑
- ظهر المذهب الذري عند اليونان منذ القرن الخامس قبل الميلاد، وهو يرى أنّ الطبيعة تتكون من مبدأين، الفراغ والذرات، وأنّ الذرّات محاطة بالفراغ، وأنها على أشكال مختلفة وغير قابلة للانقسام، ومن تصادمها في ما بينها تتكون أشياء العالم. ↑
- William L. Craig, The Kalam Cosmological Argument, p.17 ↑
- ابن تيمية، شرح العقيدة الأصفهانية (الرياض: مكتبة الرشد، 1415هـ/1995م)، ص18 ↑
- Herbert A. Davidson, Proofs for Eternity, Creation, and the Existence of God in Medieval Islamic and Jewish Philosophy (New York: Oxford University Press, 1987), pp.289-293. ↑