الحمد لله .. والصلاة والسلام على رسول الله..
السؤال القديم
لم يحيّرني سؤال عَقدي لما بدأت أشبّ عن طوق التقليد وأختبر صدق ما ورثته من عقيدة في الله واليوم الآخر -مع اقترابي من سنّ العشرين- مثل سؤال: “من خلق الله؟”، فقد استشكل عقلي أن يكون هناك كائن بلا بداية؛ إذ إنّ كلّ زمن لا بدّ أن يكون مسبوقًا بزمن إلى ما لا نهاية.. كان هذا السؤال يطرق ذهني كلّ حين، ويكدّر عليّ صفو نفسي ويعصف بقلبي.. كنت أسعى جهدي لأفرّ منه، لكن دونما فكاك.. كانت البيئة شحيحة عن كلّ خير، فلا أهل علم يُسألون، ولا حلقات علم في المساجد، ولا كتب تفرّ من الرقابة العنيدة إلّا ما لا يشبع جوعة ولا يرفع من كبوة.. كان عنوان المرحلة: “تجفيف منابع الدين”، وما “التجفيف” غير القحط والقهر؟!
مضى ذاك الزمن البائس، ومرّت تلك التجربة المريرة بمرارتها اللاذعة معلنة أنّ الجهل النابع من عجز المرء عن إدراك الأبواب التي تطرق سببٌ للتيه ولو كانت الشبهة أرقّ من بيت العنكبوت .. وإذا اجتمع على المرء الجهل وتمالؤ أهل الباطل بسلطانهم على الحق، فرّخت الفتنة!
اكتشفتُ في تلك الفترة أثناء بحثي عن جواب سؤال: “… فمن خلق الله؟” أنّ هذا الإشكال قد راود الكثير من الناس، وعجبتُ أنّه سؤال قديم متجدد، لا يختفي حتى يعاود الظهور مرّة أخرى، وأَعجب من ذلك أنه قاد طائفة من أئمة الإلحاد إلى جحد الخالق في طفولتهم أو شبابهم دون أن تقوى عقولهم بعد ذلك على الخروج من أسر تلك الشبهة ووحل تلك الوهدة.
يخبرنا –مثلًا- (برتراند راسل( (Bertrand Russell) -أحد أهم فلاسفة الإلحاد في القرن العشرين- عن تجربته مع عقيدة الإلحاد والبحث عن خالق بقوله: “عندما كنت صغيرًا، كنت أجادل في هذه الأسئلة مع نفسي بجديّة، وقد قبلت لفترة طويلة حجّة “السبب الأوّل”،[1] حتّى قرأت في يوم من الأيام السيرة الذاتية لـ(ستيوارت مِل) (Stuart Mill) لما كنت في سن الثامنة عشرة من عمري، ووجدت فيها هذا المقطع: “علّمني أبي أنّ سؤال: من خلقني؟ لا يمكن الإجابة عنه، لأنه يؤول مباشرة إلى ظهور سؤال آخر: “من خلق الله؟””. لقد كشف لي هذا المقطع البسيط جدًا، كما هو اعتقادي إلى الآن، وجه المغالطة في دليل السبب الأول. إذا كان لا بدّ لكلّ شيء من سبب، فلا بدّ أن يكون لله أيضًا سبب. إذا كان من الممكن أن يكون شيء ما بلا سبب، فمن الممكن أن يكون العالم كما الله، وبالتالي فليس لهذا الدليل أدنى شرعية.” [2]
أمّا )كارل ساغان( (Carl Sagan) عالم الكوسمولوجيا الشعبوي المعروف، فيقول إنّ الكثير من الشعوب تحمل في ثقافتها جوابًا مألوفًا عن أصل العالم بقولها إنّ الله قد خلقه من عدم. ويعقّب على ذلك بقوله إنّ هذا جواب ظرفي، وإنّ الشجاعة تقتضي أن نستمر في التساؤل:”فمن أين جاء الله؟”. وإذا قيل إنّ الله موجود بلا ابتداء، فإنّ (ساغان) يرى أنّ علينا أن نختصر على تفكيرنا خطوة إلى الخلف، لننتهي عند القول إنّ الكون كان موجودًا من الأزل.[3]
لم يكتفِ نبي (الإلحاد الجديد)، وملهمه، (ريتشارد داوكنز) (Richard Dawkins)، باستحضار الاعتراض الإلحادي: “… فمن خلق الله؟”، وإنّما جعل هذا السؤال قلب كتابه: “وهم الإله” (2006) الذي يعدّ أبرز كتاب إلحادي في العقود الأخيرة، مقررًا رفضه لفكرة الخالق ؛”لأنّ فرضية المصمّم تثير مباشرة مشكلة أكبر لمصمّم المصمّم.” [4]
ليس هذا السؤال نتاجًا بكرًا للفلسفة الحديثة، ولا هو أثر من كشوف العلم الحديث، وإنّما هو قديم قدم تفكّر الإنسان في ربّه، وهو في أمّة الإسلام كما في غيرها من الأمم، فقد قال رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم-: “لن يبرح الناس يتساءلون: هذا الله خالق كل شيء فمن خلق الله؟”[5] كما جاء في الحديث النبوي الأمر بالاستعاذة من هذا الخاطر الشيطاني، فما هو إلّا نفثة من نفثات إبليس. قال -صلّى الله عليه وسلّم-: “يأتي الشيطان أحدكم فيقول من خلق كذا؟ من خلق كذا؟ حتى يقول من خلق ربك؟ فإذا بلغه فليستعذ بالله ولينتهِ”.[6]
إنه سؤال حاضر حضور تفكّر الإنسان في ربّه، ولذلك فهو يبلبل عقول بعض المؤمنين بخالقٍ، كلّ عصر، وطريق طرده هو الاستعاذة بالله من وسوسة الشيطان كما هو الهدي النبوي، فإن ألحّ السؤال على العقل وتمكّن من الصدر فدواؤه النظر وإمعان الفكر في حقائق العقل والوجود، وفي هذا يقول الإمام (المازري): “ظاهر الحديث أنه -صلى الله عليه وسلم- أمرهم أن يدفعوا الخواطر بالإعراض عنها والرد لها، من غير استدلال ولا نظر في إبطالها. وقال: والذي يقال في هذا المعنى: إنّ الخواطر على قسمين: فأما التي ليست بمستقرة ولا اجتلبتها شبهة طرأت فهي التي تدفع بالإعراض عنها، وعلى هذا يحمل الحديث، وعلى مثلها يطلق اسم الوسوسة، فكأنه لما كان أمرًا طارئًا بغير أصل دفع بغير نظر في دليل؛ إذ لا أصل له ينظر فيه، وأما الخواطر المستقرة التي أوجبتها الشبهة فإنها لا تدفع إلا بالاستدلال والنظر في إبطالها“.[7]
ومن منطلق وجوب الردّ على الشبهات إذا رسخت في ثقافة الناس أو شاعت، خاصة مع انتشار الشبهات في زمن “النِت” بصورة تفوق قدرة الدعاة على كفّ توسّعها، سيكون حديثنا عن فساد الحجّة الإلحادية: “… فمن خلق الله؟!”، مع تتبّع أهم الاعتراضات التي تقدّمها الكتابات الإلحادية في الغرب حيث للإلحاد أئمة ومدارس وسلطان.
شبهة “… فمن خلق الله؟” يُتعوّذ منها إذا كانت عارضة، وتُقام لجوابها البراهين إذا تمكّنت من النفس. |
من أين جاء الاعتراض؟
يخطئ البعض بعرض شبهة “خالق الخالق” معلّقة دون مقدمة، وكأنّها اعتراض ابتدائيّ، متجاهلين أنّها ردٌ على دليل يستعمله المؤلّهة لإثبات وجود الخالق، وهو ما يعرف بـ(الدليل الكوسمولوجي) (cosmological argument)، ولهذا الدليل صور متعددة، أحدها هو القول إنّ لكلّ حادث (أي شيءٍ وُجد بعد أن لم يكن) محدِثًا، ولما كان العالم محدَثًا، كان لا بدّ له من محدث من خارجه، أي من يسمّيه المؤلّهة: “الله”.
يعترض الملاحدة على الدليل الكوسمولوجي بقولهم إذا كان كلّ شيء يحتاج إلى محدث، فالله نفسه محتاج إلى محدث، وهو ما يعني أنّ دليل المؤلّهة يحمل في داخله دليل فساده. ويتجاوز بعض الملاحدة مجرّد الرغبة في إبطال حجيّة الدليل الكوسمولوجي إلى القول إنّ اعتقاد أزليّة الخالق مخالف لما يقرّره العقل من امتناع وجود من/ما لا بداية له.
حقيقة الشبهة
الاعتراض الإلحادي ينتهي بـ”… فمن خلق الله؟!”، وله مقدّمات وتضمينات يجب أن تُكشف إن أردنا أن نقدّم ردًا وافيًا على هذه الشبهة يفي بالإحاطة بدعاويها، ولعلّ أهم هذه المقدمات والتضمينات هي:
- يَقبل عامة الملاحدة أنّ لكلّ حادث سببًا خارجًا عنه، لكنّهم يرون أنّ مبدأ السببية لا بدّ أن يؤول إلى القول بسلسلة لامتناهية من الأسباب في الماضي.
- يرفض الاعتراض في ظاهره فكرة التسلسل اللامتناهي للأسباب في الماضي لكنه يقوم في حقيقته على رفض مبدأ السببية، ولو جزئيًا في مسألة العالم المخلوق.
- يرى أصحاب الاعتراض أنه لم يقم داعٍ لاستثناء الإله من مبدأ السببية، فلا حجّة للقول إنّه “السبب الأوّل” الذي لا يسبقه سبب.
- غيّرَ الملاحدة صورة برهان الحدوث من: “كلّ حادث لا بدّ له من محدِث” إلى “كلّ شيء لا بدّ له من محدِث”.
- إذا كان من المعقول أن يوجد ما/من لا سبب له، فليكن هو العالم المادي الذي نوقن بوجوده، بما يدفع الإشكال، بدلًا من الإله الذي اختلف الناس في وجوده لأنّ ذاتهُ غيب غير مشهود.
- تقع هذه الشبهة في زمن يرى فيه أنصارها عجز التفكير “الديني” عن الحديث عن الكون، وأصله، وأنّ العلم له حقّ احتكار الحديث في هذا الشأن وفي غيره من قضايا الإنسان الكبرى. وفي هذا يقول (داوكنز) ساخرًا: “إذا كان العلم لا يستطيع الإجابة على بعض الأسئلة النهائية، فما الذي يجعل أيّ أحد يعتقد أنّ الدين بإمكانه فعل ذلك؟ أشكّ في أن يكون الفلكيون في كمبردج أو أوكسفورد يعتقدون حقيقة أنّ للاهوتيين أية ملكة تمكّنهم من الإجابة على أسئلة أعمق من أن يطالها العلم.” [8]
ما الذي نريد إثباته؟
الفكرة الأساسية التي بثبوتها يصبح سؤال الملحد عن “خالقِ الله” بلا معنى، هي أنّ الله –سبحانه- متعال على الزمان، أي إنّ وجوده ثابت “قبل” وجود الزمان، فهو مخرج الزمان من العدم إلى الكينونة الواقعية، أو قل هو مزمّنه. وبثبوت خلق الله للزمان، أو وجوده غير المزمّن، يغدو الحديث عن خالقِ الخالق بلا معنى؛ لأنّ خلق الخالق يقتضي وجود زمان، ووجود الله خارج الزمان، وأن يكون هذا الزمان من صنعته، يعني أنّ الله بلا خالق. وثبوت أن يكون الله خارج الزمان يكون بإثبات واحد من أمرين، وهما:
- الزمان (الذي هو أثر للمكان كما سيأتي) مخلوق.
- أو أنّ وجود الله حتم لازم عقلًا في كلّ حين، ولا يمكن أن يخلو الوجود من وجوده.
أو بعبارة أخرى: يبطل الاعتراض الإلحادي بإثبات أنّ
- الله –سبحانه- فوق الزمان، وإذا كان فعل الخلق لا يكون إلا في زمان، كان الحديث عن خلق الله بلا معنى.
- أو بإثبات أنّ الله متعال على الزمان لأنّ وجوده حتم لازم في الزمان وفي غير الزمان، وإذا كان هذا الوجود غير مرهون للزمان، وكانت المخلوقية مرهونة للزمان، كان السؤال عن الخالق بلا معنى.
جواب شبهة: “… فمن خلق الله” في معرفة علاقة الله –سبحانه- بالزمان. |
وخلاصة بحثنا هي معرفة طريقنا ضمن الاحتمالات التالية:[9]
أي العبور من حقيقة وجودنا إلى حقيقة وجود (الذات العليّة) التي لا يتسلّط على وجودها قانون السببية ضمن مجرى الزمان.
حتى لا تُخدع .. دِين الإلحاد ودَين الإلحاد
يحلو للملاحدة تكرار الزعم أنّ الإلحاد هو مجرّد إنكار وجود الخالق، ولذلك فليس للملاحدة في مجال المناظرة مع المؤلّهة سوى أن يردّوا حججهم ليثبُتَ الأصل، وهو عَدَم الخالق. وحقيقة الأمر بعيدة عن ذلك كلّ البعد؛ فرغم أنّ الإلحاد في ظاهر تعريفه اللفظي هو كما ادّعى الملاحدة، إلا أنّ الإلحاد لا يملك حقّ السلبية أمام أصل الكون؛ فهو برفضه (للاأدريّة) ينحاز قسرًا إلى موقف محكم من عدّة أمور متصلة بقضايا سجالية بينه وبين الإيمان. وقد أحسن (ويليام رو) (William Rowe) –أحد أقطاب فلاسفة الإلحاد في العقود الأخيرة- في تعريفه الإلحاد أنّه “الموقف الذي يؤكّد عدم وجود الله. إنّه يقترح إنكارًا إيجابيًا وليس مجرّد تعليق للإيمان (suspension of belief)”.[10] فالإلحاد دعوى إيجابيّة، أي إنه يحمل مقولات ذاتية تفسّر الوجود وحقيقته في عامة المجالات الكبرى التي للدين له فيها تصوّرات وجودية تفسيريّة كبرى، فالملحد يرفض تفسير الإلهيين لأصل الكون وحقيقته وغايته لأنّه يؤمن بمقولات الإلحاد في أصل الكون وحقيقته وغايته.
والإلحاد –على الصواب- هو دين من الأديان –وليس محض نفي صامت- إذا تعلّق الأمر بالنظرة الكليّة إلى الوجود، فقد عرّف المفكّر الإسكتلندي (نينيان سمارت) (Ninian Smart) الأبعاد السبعة للتصوّر الديني، وعامة هذه التصوّرات ثابتة في المعتقد التصوّري الإلحادي، ومنها الجانب الروائي (Narrative)، والجانب العقدي (Doctrinal).[11] يتعلّق الجانب الروائي بتفسير أصل الكون والإنسان، وأمّا الجانب العقدي فيتعلّق بحقيقة الوجود وفلسفته وغايته،[12] وهاهنا يفترق الإيمان والإلحاد بتبنّي تصوّرين محكمين متضادين، دون أن يكتفي الإلحاد برفض التصوّر الإيماني بصورة سلبية، فهو يطرح بديله الروائي والعقدي كحقيقة وجودية معقولة.
من العناصر الروائية والعقدية الإلحادية المتصلة بحديثنا عن شبهة “… فمن خلق الله؟”:
- إمكان اللاتناهي (infinity) في عالم الواقع.
- يشهد العلم أنّ المادة أزلية لا أوّل لها.
أو
- المادة نشأت من عدم دون سبب.
- النظام نشأ من فوضى.
- المعنى نشأ من اللامعنى.
- المادة والطاقة تملكان اختيار أعراضهما الأولى (الشكل، الحركة…).
- المادة والطاقة قادرتان على الانتظام الذاتي في قالب قوانين طبيعية متناغمة ومعقدة.
- (العقل/الوعي/الحكمة) هي ظواهر تالية زمنًا للمادة والطاقة لا العكس.
- سبب وجود المادة والطاقة هو الامتناع العقلي لعدمهما.
- الكون حقيقة مفهومة لعقولنا دون أن نفهم سبب ذلك.
ويترتّب عمّا سبق تقرير أنّ الحوار الإيماني-الإلحادي يُلزم الملحدين كما المؤمنين بإثبات صحّة مقرراتهم الروائية والعقدية، فعلى المتديّن بدِين الإلحاد دَين عليه أن يوفّيه حتى لا يكون كَلّاً على محض الإنكار، وهو أن يقدّم روايته لأصل الخلق أو بدئه بما لا يخالف المحكمات العقليّة أو قواطع العلوم… بل عليه قبل ذلك أن يقدّم أدلّته العقليّة وحججها العلمية لإقامة بنيان دعواه المبدئيّة أنّ الحياة مادة، ولا إله!
ما أهمية عرض أدلة الرأيين؟
تَقابُلُ أدلة فريق المؤمنين وفريق الملحدين، وعدم الاقتصار في العرض على أحدهما في مجرى المناظرة يفيد الباحث عن الحق في الوصول إلى مبتغاه من واحد من ثلاث طرق:
- إثبات أحد القولين صحته بالدليلين العقلي والعلمي، برهان صوابه.
- ثبوت بطلان أحد المذهبين مثبت لصحة الآخر؛ لأن المتناقضين لا يرتفعان، فلا بد من صحة أحدهما.
- عند عدم إمكان القطع، بالإمكان ترجيح أقوى القولين برهانًا وإن لم يبلغ مرتبة اليقين التام.
سؤال: “… فمن خلق الله؟” هو اعتراضٌ دهريّ على الملحد أن يثبت مقدماته ويدافع عن تضميناته. |
منهجنا في الردّ
يقع هذا الكتاب في سياق واضح، وهو مناقشة ملحد عنيد في انتصاره لمذهبه، ولذلك فلا بدّ أن نتّبع مسلكًا خاصًا في بيان الحق له، ومن معالم هذا المسلك:
- لا نستدلّ البتّة بالقرآن كدليل خبري نلزم به مخالفنا، أمّا الدليل العقلي الوارد في القرآن، فهو حجّة في هذا السجال بدلالته العقلية لا بمصدره.
- ما نطلقه على الله –سبحانه- في هذا الكتاب من أوصاف على ثلاثة أصناف: ما جاء به الوحي (كالخالق والأول)، وما يدخل في باب الإخبار، كليّة أو جزئيًا (كالموجود والشيء)، وليس في هذه النسبة إشكال،[13] وأمّا الثالث (كصفة الذكاء)، فلا نطلقها ونقصد معناها، وإنّما هي من باب تقريب المعاني إلى المخالف الملحد، وذلك أنه لا يؤمن إلّا بالمعاني المادية، ودلالات الكون على الأفكار.[14]
- سَعَينا أن نردّ بتوسّع على الشبهة كما تبدو في كتابات أئمة الإلحاد اليوم، من أصحاب المؤلفات الذائعة أو المناظرات المشهورة، حتى نبيّن فساد الاعتراض، أصولًا وفروعًا، وحتى يدرك القارئ المسلم دقائق الشبهة وتفاصيل فسادها.
- يكثر في الكتاب النقل عن غير المسلمين، من فلاسفة وعلماء كونيات، وليس في ذلك تصحيح لعقائدهم الكبرى، وإنّما ذلك لصدق حجّتهم في المسائل المخصوصة المدروسة.
- ليس هذا الكتاب في إثبات وجود الله، وإنما في الردّ على شبهة إلحادية، ولذلك لن نطرق مواضيع متصلة بالموضوع الأكبر المتعلّق بوجود الخالق، كدليل العناية، ودليل الهداية وغير ذلك من براهين، فقد أرجأناها لكتاب يتناول هذه المواضيع بالتفصيل، وإن كان هذا الكتاب قد وفّى الدليل الكوسمولوجي حظّه من العرض.
وعود الكتاب
يقع الكتاب في سياق صراع الإيمان والإلحاد في العالم الغربي بين تيار فلسفي علمي إيماني وتيار يعاديه يقوده ما يُعرف بـ(الإلحاد الجديد). ويسعى هذا الكتاب إلى تأكيد أنّ العقل المسلم قادر على بذل الحل الذي يسكت وساوس الإلحاد ويتجاوز عثرات الأجوبة الإيمانية التي تقدّمها النصرانية، ولذلك فإنّنا نتجرّأ في هذا الكتاب على تقديم عدد من الوعود، نسأل الله بفضله أن نوفّيها، وهي:
- يسعى الكتاب إلى إثبات جواب برهاني صريح ضمن منظومة عقديّة سُنيّة إجابةً على سؤال: … فمن خلق الله؟”. ونحن بذلك لا نبتدئ إقامة البرهان من عدم وإنّما نحاول إضافة لبنة جديدة في بناء البرهان الإسلامي القادر على مخاطبة العقل المعاصر في الغرب والشرق.
- نَقَضَ العقل المسلم الشبهة التي يفصّل فيها هذا الكتاب منذ قرون طويلة، ببراهين قاطعة وماتعة. ويسعى كتابنا إلى أن يفيد من التراث العقلي الإسلامي مع الإفادة من رصيد الفكر الغربي القديم والحديث، فلسفيًا وعلميًا.
- يناقش الكتاب اعتراضات أئمة الإلحاد من فلاسفة وكوسمولوجيين من المتقدمين وآخر المتأخّرين ليتحقّق للقارئ ما يفيده في رفع رصيده المعرفي حتى يدخل مجال الجدل الفكري على بصيرة.
- يرغب الكتاب في بيان تهافت العقل الإلحادي الغربي وسعيه بكلّ حيلة إلى أن يفرّ من قطعيات العقول ومُدركات العلوم الحديثة. وسيدرك القارئ بالمثال أنّ الأسماء الإلحادية الكبرى اليوم قد جنت على الجدل الفلسفي، وأنّ الإلحاد لم يكن أضعف منه من اليوم رغم هالة التهويل والنفخ الإعلاميين.
فاللهم سدّد اللسان، وألن لنا حديد البيان، وافتح للفهم عنّا كلّ باب!
اللهم اغفر لي حظّ النفس من هذا الكتاب!
- يَقصد “الدليل الكوسمولوجي” الذي سيأتي بيانه بعد قليل. ↑
- Bertrand Russell, Why I Am Not a Christian: And Other Essays on Religion and Related Subjects (New York: Simon and Schuster, 1957), pp.6-7 ↑
- Carl Sagan, Cosmos (New York : Random House, 1980), p.212 ↑
- Richard Dawkins, The God Delusion (Boston: Houghton Mifflin, 2006), p.158 ↑
- متفق عليه، واللفظ للبخاري. ↑
- متفق عليه. ↑
- النووي، المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج (تحقيق: خليل مأمون شيحا، بيروت: دار المعرفة، 1994م)، 2/333-334 ↑
- Richard Dawkins, The God Delusion, p.80 ↑
- J. P. Moreland, The God Question: An Invitation to a Life of Meaning (WA: Harvest House Publishers, 2009), p.57. ↑
- William Rowe, “Atheism”, in Edward Craig, ed. The Shorter Routledge Encyclopedia of Philosophy (New York: Routledge, 1998), p.73. ↑
- الأبعاد الخمسة الأخرى: الشعائرية (Ritual)، والتجريبية (Experential)، والأخلاقية (Ethical)، والاجتماعية (Social)، والمادية (Material). ↑
- Ninian Smart, Ninian Smart on World Religions (Aldershot: Ashgate, 2009), 1/232. ↑
- من القواعد المهمة في هذا الباب:-ما يدخل في باب الإخبار عنه تعالى أوسع مما يدخل في باب أسمائه وصفاته، كالشيء والموجود والقائم بنفسه، فإنه يخبر به عنه ولا يدخل في أسمائه الحسنى وصفاته العليا.- ما يطلق على الله –سبحانه- في باب الأسماء والصفات توقيفي، وما يطلق عليه من الأخبار لا يجب أن يكون توقيفًا كالقديم والشيء والموجود والقائم بنفسه.-الصفة إذا كانت منقسمة إلى كمال ونقص لم تدخل بمطلقها في أسمائه بل يطلق عليه منها كمالها وهذا كالمريد والفاعل والصانع. (ابن القيم، بدائع الفوائد، تحقيق: هشام عبد العزيز عطا وعادل عبد الحميد العدوي وأشرف أحمد، مكة المكرمة: مكتبة نزار مصطفى الباز، 1416هـ/ 1996م، 1/169-170). ↑
- يقول ابن تيمية: “اذا أثبت الرجل معنى حقًا، ونفى معنى باطلًا، واحتاج إلى التعبير عن ذلك بعبارة لأجل إفهام المخاطب، لأنها من لغة المخاطب ونحو ذلك، لم يكن ذلك منهيًا عنه؛ لأن ذلك يكون من باب ترجمة أسمائه وآياته بلغة أخرى، ليفهم أهل تلك اللغة معاني كلامه وأسمائه، وهذا جائز، بل مستحب أحيانًا، بل واجب أحيانًا، وإن لم يكن ذلك مشروعًا على الإطلاق؛ كمخاطبة أهل هذه الاصطلاحات الخاصة في أسماء الله وصفاته وأصول الدين باصطلاحهم الخاص، إذا كانت المعاني التي تُبيَّن لهم هي معاني القرآن والسنة” (بيان تلبيس الجهمية، تحقيق: محمد بن عبد الرحمن بن قاسم، مكة: مطبعة الحكومة، 1392هـ، 2/389). ↑