أحدث نص يوناني للإنجيل ينتصر لأطروحة كتاب الأستاذ سامي عامري عن ضياع النص الأصلي

هل تعرف ما هو كتاب (Nestle-Aland “NA”)؟ أو هل سمعت بهذا الاسم من قبل؟

إن لم تسمع بهذا الكتاب –ولم تكن متخصصًا في الدراسات الإنجيلية، سواء أكنت مسلمًا أو نصرانيًا-، فلا تثريب عليك، فإنه كتاب لا يُكاد يعرف في الغرب نفسه إلا عند قلّة قليلة جدًا من المتخصصين. هذا الكتاب رغم أنه مجهول عند غير المتخصصين في دراسات العهد الجديد (مجازًا: الإنجيل) إلّا أنّه أهم كتاب بين يدي الناس اليوم في موضوع تحقيق النص المقدس.

بعبارة أوضح، النصارى لا يكتبون ترجماتهم الحديثة للإنجيل من خلال إعادة نسخِ نسخة قديمة، ولا من خلال التراث الشفوي الأمين على الميراث المقدس. إنهم يسلكون منهجًا لا يعرفه في الغرب النصراني ذاته إلّا قلّة من أهل الفن. المنهج هو الآتي: يجمع فريق من المتخصصين في النقد النصي (1) المخطوطات اليونانية القديمة للعهد الجديد+ (2) الترجمات القديمة للعهد الجديد (القبطيّة واللاتينية والسريانية والجورجية…) + (3) اقتباسات آباء الكنيسة القدماء من العهد الجديد في كتبهم ومواعظهم ورسائلهم، ثم يبحث هذا الفريق عن أفضل قراءة موجودة من بين ما توفّر في الشواهد الثلاثة السابقة، ويكتبونها باليونانية، ويستمر معهم العمل على هذه الصورة حتى يعيدوا تشكيل كامل نص العهد الجديد.

يوجد في الغرب أكثر من نص يوناني مركّب للعهد الجديد، أهمّها على الإطلاق هو النص الذي نشره العالم الألماني (Eberhard Nestle) سنة 1898م، ثم مراجعاته التي وصلت إلى الطبعة المراجعة رقم 28 الصادرة منذ أشهر (NA28).

ما أهمية نص “نستل-ألند” اليوم؟

تبرز أهميّة هذا النص في اكثر من وجه، من أهمها أن أهم الترجمات الإنجليزية وغيرها في الغرب، الصادرة في القرن العشرين والواحد والعشرين، هي ترجمات مباشرة عن هذا النص. فهذا النص إذن له سلطان ديني وأدبي هائل على الكنيسة وحتى على اللادينيين لأنه يمثّل قمّة التحقيق العلمي للنص المقدس.

لا تقتصر أهميّة هذا النص على مضمونه وإنّما تمتد لتشمل المنهج المعتمد لإعادة تركيب ما ضاع، فإنّ هناك مناهج كثيرة في الدوائر الأكاديميّة يدّعي كلّ منها أنه الأقدر على استعادة النص. يمثّل كلّ منهج أو كلّ إضافة تفصيلية منهجية معتمدة من الفريق الذي يعدّ الطبعة الجديدة لنص “نستل-ألند” آخر التطورات العلميّة المقبولة في مجال النقد النصي للعهد الجديد في الغرب. يقول فيليب و. كومفورت (Philip W. Comfort) –وهو عالم نصراني من أهم من زعم إمكانية استعادة النص الأصلي للعهد الجديد، وقد نقض كتاب (Hunting for the Word of God) للأستاذ سامي عامري دفاعياته-: “ينظر الكثيرون إلى نص الطبعة 26 لنستل-ألند على أنه يمثّل آخر الدراسات العلميّة للقضايا النصيّة وأفضلها”.[1]

وقال دانيال ولس (Daniel Wallace)، الذي يعتبر العالم الأبرز في الغرب، دون منازعة، في الدفاع عن أصالة نص العهد الجديد، وهو أهم شخصية علمية رد عليها كتاب (Hunting) بالتفصيل: “الطبعة 28 هي … ضروريّة للذين يريدون أن يبقوا مواكبين لأحدث ما يجدّ في ميدان العمل النقدي لإعادة تركيب نص العهد الجديد.”

وصرّح البروفسور كارل ر. هولداي (Carl R. Holladay) –أستاذ العهد الجديد في (Candler School of Theology of Emory University) أنّه: “مع نشر طبعة نستل-ألند 28، يبلغ تاريخ الطبعات النقدية للعهد الجديد مرحلة جديدة. وهو تقدّم محتفى به جدًا”.

العجب هنا أنّ هذه الطبعة لم تخالف الطبعة السابقة (27) إلا في 33 موضعًا فقط! فما هو الحدث الأكبر الذي شهده الغرب والشرق النصرانيين مع صدور هذه الطبعة منذ أشهر قليلة؟

الحدث الأكبر هو سقوط أصل جديد من أصول اعتقاد الكنائس، وهو الزعم أنه بالإمكان اليوم الوصول إلى النص الأصلي للعهد الجديد الذي كتبه المؤلفون. إنّها الحقيقة الكبرى التي فصّل في بيان أدلّـتها والرد على ما اعتُرض به عليها من طرف أعلام الدفاعيين في الغرب، كتاب (Hunting). إنّ هذا الحدث العلمي الهائل والخطير –والذي لم تهتم به وسائل الإعلام العربية والإسلامية، كالعادة- يثبت أنّ أطروحة كتاب (Hunting) تقوم على أصول علميّة صلبة أذعن لها كثير من أئمة النقد النصّي في الغرب.

يقول الدكتور جفري كلوها (Jeffrey Kloha) –أستاذ مساعد للاهوت التفسيري في (Concordia Seminary) بسانت لويس، في مقال قيّم له عن الطبعة 28 لنستل-ألند وأهم ما فيها من أمور جديدة تهم القساوسة:

“تعكس هذه الطبعة نُقلة في الادعاءات حول ما تسمح الأدلة بإعادة تركيبه. في حين تجرّأت الأجيال السابقة واثقة في العلم الذي كان متاحًا فقط في زمن التنوير، فادّعت أنّها قادرة على إنتاج “العهد الجديد باللغة اليونانية الأصلية”، أدرك علماء آخر القرن العشرين أنّ الأدلّة المتاحة لا تصل إلّا إلى القرن الثاني، وذلك فقط بالنسبة إلى مجموعة متفرقة من المقاطع. ربما تبلغ المسافة بين الكتابة الأصلية/وضع نص العهد الجديد والمخطوطات المحفوظة اليوم، قرابة 150 سنة. بسبب اعتمادها الكبير على منهج جنيولوجي (genealogical method)، تزعم هذه الطبعة أنّها تعيد فقط تركّيب الـ (Ausgangstext) أو “النص الابتدائي” (Initial Text) والذي يُعرَّف بالآتي:

“النص الابتدائي هو شكل نصٍ كما هو في بداية تراثٍ كتابي. يمثّل النص المركّب للطبعة إعادة التركيب الافتراضي للنص الأولي” (ECM 2 Peter, 23).[2]

تعترف الطبعة بشكل مفيد أنّ إعادة إنتاج “نسخة أصلية” لأي من أسفار العهد الجديد هي مهمة مستحيل تبعًا لما هو متاح من أدلّة.”

باختصار، النسخة الأحدث لنستل-ألند تعترف أنها لم تسعَ إلى الوصول إلى النص الأصلي، على خلاف الطبعات السابقة، وإنّما سعت إلى الوصول إلى النص في شكله الذي كان عليه في القرن الثاني الميلادي الذي هو زمن بداية تداول أبكر المخطوطات التي نعرفها اليوم.

لقد أصابت الطبعة 28 لنص “نستل-ألند” الإيمان النصراني في مقتل، غير أنّها لم تذكر شيئًا من التفصيل عن سبب هذا الحكم، وسبب ذلك أنّ تفاصيل هذا الحكم مبثوثة في الدراسات الأكاديمية المتخصصة. للأسف هذه الدراسات لا تكاد توجد إلا في المقالات الأكاديمية المنشورة في المجلّات المتخصصة، ويندر أن تتعرّض لها الكتب، وإن فعلت فباقتضاب شديد جدا. ولا يُعرف في المكتبة الإنجليزية كتاب واحد فصّل الأمر، تفصيلّا ألمّ بجوانبه وجمع شتاته غير كتاب “ Hunting“.[3]

إنّ المكتبة الإسلاميّة اليوم تحقّق أوّل إنجاز علمي حقيقي لها –منذ قرون- داخل المكتبة الغربيّة ذاتها في موضوع من صميم المعارف الكتابية، وهي تبدأ في استعادة مجدها الأول لما كانت هي الرائدة في مجال الدراسات النقدية لليهودية والنصرانية.

مبادرة البحث العلمي لمقارنة الأديان

[divider]

[1] Philip W. Comfort, “Texts and Manuscripts of the New Testament,” in F. F. Bruce; J. I. Packer; Philip Wesley Comfort and Carl F H Henry, The Origin of the Bible, Carol Stream, Ill. : Tyndale House Pub., 2012, p.198

[2] مشروع (Editio Critica Maior) يتم تحت إشراف مؤسسة (The Institut für neutestamentliche Textforschung) التي هي نفس المؤسسة المشرفة على إعداد “نستل-ألند28”. يهدف هذا المشروع إلى إصدار طبعة للعهد الجديد تتضمن هوامشها أقصى ما يمكن أن تتيحه نسخة مطبوعة من قراءات. هذا المشروع العلمي هو المصدر الأساسي الذي ألهم “نستل-ألند28” إحداثاته.

[3]تعرض كتاب دافيد س. باركر (David C. Parker): “ The Living Text of the Gospels “، لهذا الموضوع لكنه كان قاصرا على نص الأناجيل الأربعة دون بقية العهد الجديد، بالإضافة إلى أنه اهتم بإنشاء تصور كبير انطلاقا من نماذج نصية صغرى، في حين تناول كتاب (Hunting) الموضوع من خلال نقد عملية بناء النص بأكملها، بنقد مناهج البناء وقصور الشواهد الثلاثة، مع تقديم أمثلة عملية من النصوص تؤكد العجز عن استعادة النص الأصلي.